الصحراء المغربية بينَ دوران غاليليو وبطولة مارادونا وتاج الديمقراطية
عبد الرحيم التوراني
منذُ ليلة البارحة، وهاتفي لم يهدأْ. وصلتني رسائلُ تهنئة عبر الواتساب والميسنجرِ على القرار الذي أصدرهُ مجلس الأمن الدولي، والمُقرّ بمغربيةِ الصحراء. المفاجأة السارةُ أتتْ من أصدقاء جزائريين مُقيمينَ في أوروبا، الذين أرسلوا تهانيهم الصادقة.
مرات قليلةٌ فقط رددتُ بكتابة الشكر، لكنَّ الأغلب كانَ يُقابَل بصور إيموجات “اليدينِ المُتصافحتين“ أو “القلب الأحمر“.. لأنَّ الكلمات أحيانا تبدو قاصرةً أمامَ المشاعر المعقدةِ.
لكنَّ شيئا ما أثارَ استغرابي: أنْ أتلقى تهاني من مواطنيَّ المغاربة بنفسِ الحماسةِ، وخصوصا أولئك الذين كتبوا لي عبارة: “الصحراء مغربية”…
شعرتُ وكأنهم يريدون القول إنها لم تكُنْ كذلك وأصبحتْ مغربية للتوِّ، بفضل أصوات أحدَ عشرَ عضوا في مجلس الأمن الدولي!!!
الحقيقةُ هيَ أنَّ قرار مجلس الأمنِ هذا ليسَ إنجازا جديدا، بل هوَ اعترافٌ مُتأخّر، استغرق نصفَ قرن من الزمن…
هذا الاعتراف يُذكّرني بقصةِ غاليليو غاليلي، العالِم الذي دافع عن كروية الأرضِ ودورانها حولَ الشمس، بينما عارضته الكنيسة طويلا، واعتبرته مُذنبا واتهمتهُ بالهرطقة. لكنَّ غاليليو ظل مُتشبثا بحقيقتِه، مرددا العبارةَ الخالدة: “ومعَ ذلكَ تدورُ“…
اليوم، يبدو قرارُ مجلس الأمن هذا مُشابها، مجردُ إقرارٍ متأخر بحقيقة لم تتغير. الأقاليم الصحراوية لم تكُنْ يوما في جنوب المغرب فحسب، بل هي في مركز وفي قلب الجغرافيا الوطنية للمغربِ الأبيِّ…
نصفُ قرن من النزاع مضى من أجلِ إحقاقِ هذا الحقّ، ولإثباتِ أنَّ الأيام تدورُ معَ إشراقة كلِّ شمس جديدة..
نصفُ قرنٍ هوَ عمرٌ لا يُحسب بالسنينِ العاديةِ، بل هو أكبر من القرونِ، لأنَّ الدم الذي سقى رمال الصحراء لا مقاييس ولا موازين تحسب أو تزنُ ثمنَهُ...
***
تذكرتُ فوراً قصةَ نادي نابولي، عندما فازَ بأول بطولة لهُ في الدوري الإيطالي (موسم 1987)، تحتَ قيادة الأسطورة دييغو مارادونا، بعد عقود من الإحباط. كيف أنَّ بعض المشجعين كتبوا على جُدران مقبرة المدينة التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، هذه العبارة القاسية: “أيها الموتى.. أنتم لا تعرفونَ ماذا جرى!.. استيقظوا.. فقد فاتكم أنْ تشهدوا فوزَ نابولي بالبطولةِ!”
فكرتُ بمرارةٍ: هل نعمدُ إلى إيقاظِ موتانا لنخبرَهم أنَّ العالم اعترف أخيرا بمغربية الصحراءِ؟!
لكنْ إلى أي مقبرة يا تُرى سنتجهُ؟ هل هي مقبرة تحتضن رفاتَ الشهداء الذين سقوا بدمائهمُ الطاهرةِ الأرضَ دفاعا عن مغربيتِها؟
أمْ إلى مدافنِ أولئك الذين اعترضوا وعملوا جاهدين على انفصالِها؟
لكنني أعود إلى اليقين، أعتقدُ أن الوقت ليسَ وقت تشفٍّ أو حِساب لماض مضى وفاتَ وانقضى، بقدر ما هو وقتٌ لاستدراك ما ضاع من تنمية تخصّ شعوب المنطقة كلّها. هذا هو الجهادُ الأكبرُ والأهم والحقيقي.
***
ظللتُ مُنشغلا بفكرةِ الاعترافِ المُتأخّر وبِهمسة غاليليو. لكنْ، إذا كان كلُّ شيءٍ يجري فوق هذهِ الأرض يدور من أجلِ الإنسان، فلا بدَّ أن لقضيتِنا الوطنيةِ بعدا أعمق… تأمّلتُ المشهد في ذهني: إنَّ قضيّة صحرائِنا، بصبرها الطويل على المكر والكيد، تُشبهُ في جوهرها قِصَّة يوسفَ الصِّدِّيقِ عليهِ السلام. لقد تعرّضتْ صحراؤنا لمؤامرات مُحاكة بليلٍ، تماما كما تعرّض يوسف لمكيدة إخوتِهِ وأُلْقيَ في البئرِ ظلما. ولكنَّ النهايةَ كانت مُقدَّرة سلفا في رؤيا يوسف، حيثُ سجد له أحدَ عشرَ كوكبا معَ الشمسِ والقمر.
هنا أتى الرَّبطُ الذي أضاءَ لي المشهدَ كلَّهُ: إنَّ أصواتَ الأعضاء الإحدى عشرة في مجلسِ الأمن، التي أقرَّتْ مغربيةَ الصحراء، ما هي إلا تلكَ الكواكب الإحدى عشرة التي سجدتْ أخيرا لِليقين. وكما كان النصرُ لابن يعقوب، كذلكَ كان نصرنا. إنهُ ليسَ انتصارا سياسيا وحسب، بل هوَ نصر تاريخي وأخلاقي يؤكدُ حتمية انتصارِ الحقّ بعدَ طول صراع.
***
هذا القرارُ الأمميُّ جعلني أستحضرُ وأتأملُ في صورِ الكبارِ الذينَ زرعوا هذا اليقينَ.. استحضرتُ أرواح شهداء جيش التحريرِ المغربي والجنود الأوفياء، وروح الزعيم علال الفاسي، وروح الزعيم محمد بلحسن الوزاني، وروح الأستاذ عبد الله ابراهيم، والشهيد عمرَ بنجلون، وعبد الرحيم بوعبيد، ومحمد بنسعيد أيت يدر، وكذلكَ أرواح علي يعتة وعبد العزيز بلال وامحمد بوستة، الذينَ وإنْ اختلفتْ مشاربُهم، اتحدوا جميعاً على وحدةِ الوطن...
لكنَّ أشدَّ الأرواحِ التي استوقفتني اليومَ هي روح الصحفيِّ والكاتبِ العظيمِ، محمدِ الباهي، هذا الرجل الموريتانيُّ الصحراويُّ الجزائريُّ المغربيُّ، الوحدوي المغاربيُّ الهويةِ، الذي لقّبهُ الروائيُّ مُنيف بـ “عروةِ الزمانِ الباهي“، كانَ رمزاً للوحدةِ الثقافيةِ التي تتجاوزُ الحدودَ المصطنعةَ.
ثمَّ تحضرُ أمامي بحدةٍ صورةُ صديقي الصحراويِّ إدوارِ موحا، مؤسسِ أولِ حركةِ تحرير في الصحراءِ، والذي يعاني اليوم الفقرَ والإهمالَ…
إنَّ استحضارَ هذه الوجوهِ يُذكّرُني بالتناقضِ المؤلم بينَ التكريمِ الروحيّ لمنْ رحلوا، والإهمال المادي لمنْ بقوا أحياءً يحملونَ عبءَ الماضي.
في خضم استحضارِ أرواحِ هؤلاءِ، أُدركُ أنَّ أكبرَ وأكملَ نجاح يمكنُ أنْ يُتوَّجَ بهِ هذا الاعترافُ الأمميُّ ليسَ سياسيا، بل هوَ داخلي وإنساني. إنَّ أعظمَ انتصار ينتظرُ المغرب هوَ أنْ ينخرطَ بوضوح، وبشكل حاسمٍ لا يقبلُ المواربةَ، في إرساء نظام ديمقراطي حقيقي تكونُ فيهِ الحرياتُ هيَ القاعدةُ والعدالةُ هيَ الأساسُ.
ولتكتملَ صورةُ النصرِ حقا، ولنُثبتَ للعالمِ أنَّ وحدةَ التراب لا تنفصلُ عن وحدة المواطنة وكرامة الإنسان، لا بُدَّ من خطوةٍ جريئة، تتمثلُ في الإفراج الفوريّ عن معتقلي الرأي، بمن فيهمْ معتقلو حراك الريف.
إنَّ تحريرَ الضمائر والعقول هوَ في جوهرِهِ امتدادٌ للجهاد الذي خاضهُ القادةُ الأوائلُ. عندها فقطْ، نكونُ قد حققنا النصرَ الكاملَ، نصر الأرضِ ونصرَ الإنسانِ.
