الصداقة الأدبية

الصداقة الأدبية

إلياس الطريبق

لننطلق من أسئلة بسيطة من قبيل هل هناك صداقة أدبية؟ ما هي أعظم الصداقات الأدبية التي عرفها التاريـخ؟ ولماذا لا تدوم الصداقات بين الكتاب والأدباء ويتحول كثير منها إلى عداوات وبغضاء وفي أفضل الأحوال قطائع ونكران؟

لن أذهب بعيدا، سأقف على صداقة قصيرة جمعت بين كاتبين كبيرين هما الطاهر بن جلون ومحمد شكري، الأول كاتب فرنكفوني ما يزال حيًّا بيننا حاصل على جائزة كونكور للأدب والثاني أشهرُ من نارٍ على علم، يندُرُ من لم يقرأ له وهو الذي ترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة عبر العالم. الصداقة التي لم تدم طويلا بين الكاتبين، شكري المُنبعث من رماد طنجة ومن عوالمها السفلية، والطاهر الذي بدأ أستاذا للفلسفة في ثانويات المدينة نفسها قبل أن يرحل صوب عاصمة الأنوار عام 1971م.

يحكي شكري عن علاقته بالطاهر بن جلون من خلال حوار أجراه مع الكاتب الصحافي الطنجي الزبير بن بوشتى:

«عندما صار لكتابي “الخبز الحافي” انتشار واسع ويترجم من الفرنسية أو مباشرة من العربية إلى لغات أخرى لم يعد يسأل عني، في بداية معرفتنا كنا نلتقي ونتعانق، مع المدة صرنا نتصافـح برؤوس الأصابع، ثم صار يلوح لي بيده من بعيد، وأخيرا كلانا صار يتحاشى رؤية الآخر .

أنا شخصيا لم أختر هذه النهاية، للأسف…! الغيرة أقبلها لأنها شعور بشري عادٍ أما الحقد والحسد فلا أقبلهما، هكذا انتهت علاقتي به.

في إحدى المناسبات الصحافية استفسره عن عنواني صحافي إيطالي كان يعتزم زيارة طنجة لإجراء مقابلة معي، فقال له الطاهر بن جلون: لا أتوفر على عنوانه، اذهب إلى طنجة ولن تجد صعوبة كبيرة في العثور عليه، إنه دائم التسكع بين الحانات التي يتسول فيها كؤوسه.

ولذلك فقد قررت أنا أيضا الخروج عن صمتي وإعادة الاعتبار لنفسي من خلال استجواباتي عندما يسألونني عن قيمة كتابته التي يتاجر بها.

 ورغم هذه النهاية المؤسفة فإني مازلت أعترف بجميله عندما ترجم الخبز الحافي، فلولا الترجمة الفرنسية الجيدة التي أنجزها لربما ظل الكتاب مغمورا«

 هناك من جهة أسفٌ، وهو أسف طبيعي لما آلت إليه شؤون الرجلين لاحقا، وهناك من جهة أخرى إنصاف واعتراف.

شكري الذي يشهد ورد ورماد عن عميق صداقة أدبية وإنسانية سامية جمعته مع الكاتب والناقد محمد برادة بحيث ظل يتبادل الرجلان رسائل أدبية طيلة ثلاثة عقود من الزمن.  

يردُّ الطاهر بن جلون من جهته، في أحد حواراته التلفزية على قناة Medi1 Tv باستخفاف من طريقة تعامل محمد شكري مع ترجمة النص الأصلي للخبز الحافي. يبدو الطاهر أستاذا في خدمة تلميذ متحمِّسٍ مبتدئ، بينما يبدو شكري غير مهني وساذجا يفتقر إلى الرصانة الأدبية أو هكذا يبدو !
في كتابه الممتع والجميل «مع أصدقاء» عن دار توبقال للنشر يحـكي الشاعر محمد بنيس الذي طلَّق الرياضيات وتزوج القصيدة أنه عندما ذهب لزيارة عبد الجبار السحيمي في مكتبه بصحيفة العلم إنما كان يبحث عن الاعتراف وليس عن الصداقة. بنيس الذي يؤرخ في كتابه لصداقات عظيمة ولحظات كبرى جمعته مع شعراء وكتاب من مختلف أنحاء العالم؛ محمود درويش، إلياس خوري، جاك دريدا، عبد الله راجع وآخرين…

 إن المشاهير عادة عندما يطلب المعجبون منهم لقاءهم أو يحاولون التقرب إليهم عادة ما يطمعون في نيل الاعتراف، والتكريس. وعندما يفشلون في ذلك يتحولون من أقصى درجات الحب إلى أقصى درجات الكراهية، هذا إن افترضنا وجود حُبٍّ في الأساس وليس المصلحة.

إن الفنانين والمشاهير ذوات أَنَوِيَّةٌ مغرقة في الأنانية والذاتية مما يُصَعِّبُ مأمورية اتخاذ أحدهم صديقا حقيقيا دون أن تكون الصداقة أستاذية بين الأستاذ والتلميذ أو طُرقية بين الشيخ والمريد أو بين نجم وأحد معجبيه.

 على أن العزلة ليست على الدوام ضربا من الذاتية المفرطة بقدر ما قد تكون ردة فعل هادئة وبسيطة في وجه انتفاء الصدق والصداقة الحقيقية.

 إن الصداقة التي لا اعتراف فيها بالآخر، ولا إنصاف، ليست سوى ضرب من العلاقات السامة التي على المرء التعجيل بالتخلص منها. ولعل هذا من بين أرقى وأجل ما تعلمناه من أساتذتنا الأجلاء، الإنصاف ولو كان الآخر مجانبا للصواب.

 لغيرة شعور نفسي بشري طبيعي، لا يلام أحد عليه، ولكن أن يتحول الشعور بالغيرة إلى حسد وكراهية، ثم إلى حرب ممنهجة، فهذا ما لا يقبله أحد بالتأكيد.

أقر أنني كنت ساذجا جدا فيما مضى عندما كنت أعتقد بيقين كبير أن روح الفنان السامية النبيلة مترفعة عن جميع مشاعر الحقد والكراهية والحسد والغيرة، وكنت أفترض بقليل من حسن النية أن الفنان الحقّ هو إما روح ملائكية في ثوب آدمي أو نبي أخطأ زمنه، وعليه ينبغي أن يرقى فكريا وروحيا  وعليه أن يشبه شخصية أليوشا في رواية الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي في تَبَتُّلِها وبراءتها وطهرانيتها.

 في خضم العديد من الصداقات الأدبية التي آلت إلى طلاق صامت بيني وبين أصحابها، لم آسف كثيرا لخسران شيء، لأنني ببساطة كنت قد ربحتُ نفسي وبأن الذي لم يعد صديقا فهو لم يكن أبدا يوما صديقا.

 ولم أكن يوما من ممارسي الغيبة في حق أصدقائي مهما كنت معهم على خلاف أو خصام، غير أنني لن أخفي فضولي تجاه سماع أحدهم وهو ينقل طرفة أو قصة أو مستملحة عن أحد، حتى إن فشلت في اتخاذها معرفة أدبية أو خبرا صحفيا.

 لقد كان الجاحظ حداثيا جدا وهو يصف الكتاب بخير جليس. القولة التي لم نفهمها إلا في سياق تمجيد الكتب بصفتها صديقا وفيا، ولكن ألم يكن الجاحظ يدين الصداقة ويمجد عزلة الكتب هو الذي قتلته الكتب كما قتله أصحابه بالمعنى الرمزي طبعا؟

 قيل لأعرابي: ألكَ صديقٌ؟ قال: أمّا صديق فلا، ولكن نِصفُ صديق. قيل: فكيف انتفاعك به؟ قال: انتفاع العُريان بالثوب البالي.

 وقيل لفيلسوف: مَن أطول النّاس سفرًا؟ قال: مَن سافرَ في طلب صديق. وقد سئل رَوْح بن زِنباع الجذامي (84 هجرية) عن الصديق فأجاب: لفظٌ بلا معنى، أي أنّه لعزّته كأنّه ليس بموجود.

نفسها القولة التي صدح بها الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه إنسان مفرط في إنسانيته «أصدقاء، ليس هناك أصدقاء ! » أو كما يقول Montagnier  De«يا أصدقائي ليس ثمة من صديق».

هكذا هي الصداقة الأدبية، مهددة بالسقوط أكثر منه بالنجاح والاستمرار، أَبغَضُها التي تنتهي بطلاق صامت وتفتقر إلى جرأة المواجهة. أَبغَضُها تلك التي يرتدي فيها الأصدقاء ثوب الملائكة بينما هم ذئاب مُتَربِّصة.

شارك هذا الموضوع

إلياس الطريبق

شاعر وكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!