الصراع الروسي الأوكراني: واشنطن بين المغامرة والفشل

د. زياد أسعد منصور
يبدو للوهلة الأولى أنّ شيئًا لا يتغيّر على خطوط المواجهة: فالتقدّم الروسي ما يزال بطيئًا، من دون أن تلوح في الأفق ملامح نصرٍ حاسمٍ أو هزيمةٍ واضحةٍ لأيٍّ من الطرفين. رغم ذلك فإن التقدم الروسي مستمر باضطراد على وقع ضغط دولي هائل تمارسه واشنطن على موسكو بأبعاد وخلفيات مختلفة.
فمنذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ظلّ المشهد المحيط بتسوية الصراع الأوكراني يتأرجح بين موجاتٍ من الحماس المفرط ــ عادةً ما تعقب جولات التفاوض الروسي–الأميركي ــ وبين فتراتٍ من الإحباط واليأس، تتخللها تصريحات عن احتمال استمرار الحرب إلى أجلٍ غير مسمّى.
ولكن لا تبدو أهداف إدارة ترامب في أوكرانيا، مختلفةً جوهريًا عن الأهداف التي سعت إليها إدارة بايدن في عام 2024؛ إذ انحصرت في محاولة فرض وقفٍ لإطلاق النار على طول خطوط التماس مع روسيا، من دون أن تقدّم كييف أيّ التزاماتٍ ملموسة، سوى ربما تعهّدٍ بعدم السعي إلى تغيير الحدود الجديدة بالقوّة.
الاختلاف ما بين بايدن وترامب
لم تكن تلك الجهود، في حال قامت بها إدارةٌ أخرى، لتُرفَق بحملاتٍ خطابيةٍ ناريةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي أو بتصريحاتٍ دراميةٍ صاخبة كما نشهد اليوم. فلو كانت كامالا هاريس (Kamala Harris) في موقع القيادة، لما أقدمت على إذلال الحلفاء الأوروبيين والأوكرانيين علنًا على النحو الذي يفعله دونالد ترامب، ولَمَا أبدت استعدادًا لتخفيف العقوبات المفروضة على روسيا أو لإحياء التعاون الثنائي مع الولايات المتحدة، ولَمَا تحدثت عن “علاقة شخصية جيّدة” مع فلاديمير بوتين. ومع ذلك، فإنّ الموقف الأميركي الجوهري من الأزمة الأوكرانية ما كان ليختلف اختلافًا جوهريًّا.
فعلى الرغم من طباع ترامب الشخصية وطرحه المثير للجدل، فإنّ خطواته خلال الأشهر الأولى من ولايته جاءت – في جوهرها – عقلانية ومتسقة، إذ هدفت إلى فرض وقفٍ لإطلاق النار على موسكو في أقصر زمنٍ ممكن. تكتيكيًّا، اعتمد ترامب مقاربةً تجمع بين الترغيب والترهيب: من جهةٍ عرضَ إحياء الشراكة الروسية–الأميركية، ومن جهةٍ أخرى هدّد بفرض عقوباتٍ إضافية وتقديم إمداداتٍ عسكرية جديدة لأوكرانيا.
وقد بلغت سياسة “فرض وقف إطلاق النار” ذروتها عندما حاولت واشنطن إجبار الهند والصين على الانضمام إلى حظر النفط الروسي الذي بدأ تطبيقه في شهري يوليو وأغسطس/ تموز وآب. غير أنّ تلك الخطة باءت بفشلٍ ذريع، الأمر الذي اضطرّ ترامب إلى تعديل استراتيجيته وإعادة توجيه مساره نحو موسكو. فاعترف بأنّ وقف إطلاق النار لا يمكن أن يُفرض بمعزل عن اتفاقٍ أوسع نطاقًا، يتضمن شروطًا عسكريةً وسياسيةً محددة – ما يصفه الأميركيون بـ “الضمانات الأمنية”.
يدور الصراع الدبلوماسي في المرحلة الراهنة حول معايير الاتفاق المحتمل لإنهاء الحرب الأوكرانية، غير أنّ حدّته لم تخفّ بعد. ويمكن تمييز ثلاثة عناصر رئيسية في التكتيك السياسي الجديد للرئيس دونالد ترامب.
أولًا: تتجنّب الولايات المتحدة الدخول في حوارٍ جوهريٍ مباشرٍ مع روسيا حول “الضمانات الأمنية”. فالعلاقات الروسية–الأميركية باتت خاضعةً لإدارة ترامب الشخصية ولعددٍ محدودٍ من المقرّبين منه. ومن شأن الخوض في تفاصيلٍ دقيقة تتعلق بتسوية الأزمة الأوكرانية أن يتطلب جهدًا منسقًا من مجموعاتٍ من الخبراء، خصوصًا العسكريين، وهو جهدٌ لم يبدأ فعليًا بعد، بحسب المعلومات المتاحة.
وفي المقابل، لا تزال إمكانية إطلاق حوارٍ حقيقي حول إنهاء الصراع بين موسكو وكييف متعثّرة، وربما بموافقة واشنطن الضمنية. فكما صرّح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (Volodymyr Zelensky)، فإنّ تفويض الوفد الأوكراني في المفاوضات مع روسيا يقتصر على القضايا الإنسانية مثل تبادل الأسرى، ولا يمتدّ إلى بحث التفاصيل السياسية والعسكرية لوقف إطلاق النار.
ثانيًا: شرعت الولايات المتحدة في مناقشاتٍ مفصّلة مع حلفائها الأوروبيين والأوكرانيين حول مضمون “الضمانات الأمنية” المستقبلية. ويبدو أن الهدف من هذه العملية هو فرض صيغة تفاوضٍ شاملة على روسيا، بحيث تُعرض عليها نتائج التنسيق الأميركي–الأوروبي–الأوكراني ضمن إطارٍ سياسيٍ رفيع المستوى، ويُطلب منها إما قبول هذه الصيغة أو تحمّل العواقب السياسية والعسكرية المترتبة على الرفض.
ثالثًا: أطلقت واشنطن حملة ضغطٍ جديدة على موسكو، تتضمّن تصريحاتٍ تصعيدية من ترامب – من أبرزها وصفه روسيا بـ«النمر الورقي» – فضلًا عن تسريباتٍ متعمّدة حول احتمال نقل أسلحةٍ أكثر تدميرًا إلى أوكرانيا. كما تتواصل محاولات واشنطن لإقناع الهند بالتخلي عن النفط الروسي، في مسعى لحرمان موسكو من الإيرادات المالية الضرورية لتمويل عملياتها العسكرية الخاصة.
وتعمل كييف في تنسيقٍ وثيقٍ مع الولايات المتحدة، عسكريًا وسياسيًا. وتشير تصريحات زيلينسكي الأخيرة إلى استعدادٍ لفتح نقاشٍ حول الشروط السياسية لإنهاء الحرب، بل ولإجراء انتخاباتٍ رئاسية وربما التنحي بعد فترةٍ وجيزة من التوصل إلى وقفٍ مستقرٍّ لإطلاق النار.
وفي هذا الإطار، تخوض القيادة الأوكرانية حملة ضغطٍ مركّزة على موسكو، تضمّنت – ضمن جوانبها التقنية والعسكرية – مباحثاتٍ حول إمكانية تزويد كييف بصواريخ “توماهوك” (Tomahawk) واستخدامها لضرب أهدافٍ داخل الأراضي الروسية التاريخية.
ولا شكّ في أنّ الضربات التي تُنفّذ في عمق الأراضي الروسية، شأنها شأن العمليات التخريبية الكبرى التي تطال أهدافًا مدنية أو بنى تحتية حيوية، لا يمكن أن تتمّ من دون دعمٍ وموافقةٍ أميركية، سواء في ظلّ إدارة جو بايدن (Joe Biden) أو إدارة ترامب. ويذهب مراقبون روس إلى أنّ تزايد انخراط الولايات المتحدة في هذه الأنشطة العدائية داخل الأراضي الروسية – بما في ذلك ما يُعدّ استهدافًا مباشرًا للمدنيين – يشكّل أحد الحقائق البنيوية في العلاقات الروسية–الأميركية المعاصرة، وهي حقيقة لن يكون من السهل تجاوزها في المستقبل المنظور.
يدور الصراع الدبلوماسي في الوقت الراهن حول معايير هذا الاتفاق وحدوده، من دون أن تخفّ حدّته. ويمكن تحديد ثلاثة عناصر أساسية في تكتيكات ترامب الجديدة:
أولًا، تتجنّب الولايات المتحدة الخوض في حوارٍ جادٍّ ومباشرٍ حول الضمانات الأمنية مع روسيا. فالعلاقات الثنائية باتت خاضعةً لرقابة ترامب الشخصية وعددٍ محدود من المقرّبين منه. كما أنّ مناقشة المسائل الجوهرية المرتبطة بإنهاء الأزمة الأوكرانية تتطلّب عملًا مؤسّسيًا منظّمًا من جانب مجموعاتٍ متخصّصة من الخبراء، ولا سيما العسكريين، وهو عملٌ – على حدّ علمنا – لم يبدأ بعد.
من الدعم إلى التورط: تحوّل الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا
في ضوء التحوّل الأخير في مواقف إدارة ترامب، بات واضحًا أن السياسة الأميركية حيال أوكرانيا دخلت مرحلة ما بعد الدعم التقليدي، نحو تدخل استخباراتي مباشر يُستخدم عبر الأقمار الصناعية والمعلومات الاستخبارية الفضائية، وحتى الإعلان عن تزويد كييف بـ صواريخ توماهوك Tomahawk لضرب الأهداف داخل الأراضي الروسية. هذا التطور ليس مجرد تعديل تكتيكي في دعم الحليف، بل يشير إلى خطوة باتجاه تورُّط أميركي مباشر في العمليات القتالية- وهو ما يضع العلاقة الأميركية الروسية على مفترق طرق، ويثير تساؤلات قانونية وأخلاقية حول ما إذا كان هذا التورط يعني أن واشنطن قد أصبحت طرفًا في النزاع، متّهمة بقتل مواطنين روس باستخدام أسلحة أميركية.
1. تغيّر الموقف الأميركي: من دعم إلى تدخل
منذ توليه الرئاسة، لم تكتفِ إدارة ترامب بالدعم المادي والعسكري لأوكرانيا، بل دفعت بمكانة المساعدة إلى مستوى جديد عبر مشاركة المعلومات الاستخباراتية التي تُقدّمها الأقمار الصناعية، وتوجيه عمليّات توجيه دقيقة للصواريخ داخل نطاق موسكو. هذه الخطوة تُعدّ نوعًا من التدخل المباشر المعمّق، لا يختلف كثيرًا في جوهره عن مشاركة استراتيجية في التخطيط والتنسيق للخسائر الأرضية.
2. انعكاسات على العلاقة الأميركية – الروسية
هذا التحوُّل في طبيعة الدعم يرفع سقف المواجهة بين واشنطن وموسكو، ويُحوّل النزاع من حربٍ برية إقليمية إلى صراع بين قوتين عسكريتين متقاربتين، تراقبان بعضهما البعض عن كثب في الفضاء الخارجي. كما أن استخدام تكنولوجيا الأقمار الصناعية والصواريخ ذات الدقة العالية يوسّع ميدان النزاع إلى ما بعد خطوط الجبهة التقليدية، ما يثير شبهة أن الحرب لا تخص الأوكرانيين وحدهم، بل تُدار من مركزين عسكريين متنافسين.
3. هل تُعَدّ واشنطن طرفًا؟ ومسألة القتل باستخدام سلاح أميركي
بمقتضى هذا التطور، تطرح أسئلة قانونية دولية ملحّة: إذا قُتِل مواطن روسي بصاروخ توماهوك موجَّه من قوة أميركية التوجيه، هل تُعدّ الولايات المتحدة طرفًا متحاربًا؟ وهل تُحمّل دوليًا مسؤولية الحرب؟
من منظور القانون الدولي، فإن تقديم معلومات استخباراتية دقيقة أو توجيه عملية هجومية يُمكن أن يُعتبر مشاركة فِعلية في النزاع. إذا جرى استعمال السلاح الأميركي بصورة مباشرة ضمن الخطط القتالية، فإن ذلك يقترب من مفهوم التحالف الضمني، الذي ينطوي على مسؤولية جزئية في الأفعال المرتكبة.
ومع ذلك، فإن واشنطن قد تحاول التمايز، مبرّرةً ذلك بأن الأسلحة والتوجيه يُقدَّمان لأوكرانيا كحليف مستقل يُحمّل مسؤولية التنفيذ النهائي، لكن في ميدان الحرب الواقع يكون مختلفًا ويُقاس بحسب الفعل لا بالنيّة المعلنة.
النموذج المستدام يترنّح: مستقبل الحرب في أوكراني
في بداية تسلمه سدة الرئاسة كان من اهم من العناصر الأساسية لاستراتيجية ترامب تجاه أوكرانيا النأيَ بنفسِهِ عن الصراع، ونقل تكاليفه المالية إلى الاتحاد الأوروبي، ومحاولة لعب دور “الوسيط”. حينها ظهر أن البيت الأبيض كان يسعى بجهد إلى إقناع موسكو بأنه قد تم إيجاد “نموذج مستدام” جديد لدعم أوكرانيا.
يُفترض أن أمريكا ليست متورطة في الصراع، وتكتفي ببيع الأسلحة لأوروبا بأسعار تجارية، وبالتالي ليس لديها ما تخسره من استمرار الأعمال العدائية؛ ويمكن للاتحاد الأوروبي، من خلال تجميع موارده المالية، دعم المقاومة الأوكرانية إلى أجل غير مسمى؛ وتحاول أوكرانيا رغم كل خسائرها إظهار وفائها لرعاتها بأنها قد قادرة على ردع روسيا بنجاح.
يبدو هذا السرد معقولاً ومنطقياً ومتماسكاً داخلياً، إلا أنه لا يمت للواقع بصلة. علاوة على ذلك، فإنه يُظهر جميع سمات الأوهام الانفصامية.
أولاً وقبل كل شيء، لا تزال أمريكا طرفاً فاعلاً في الصراع، إذ توفر منظومة أقمارها الصناعية معظم خدمات الاستخبارات والاستهداف للقوات المسلحة الأوكرانية، بالإضافة إلى كامل البنية التحتية للاتصالات والقيادة العسكرية الأوكرانية تقريباً (حاولت الولايات المتحدة استبدال شبكة ستارلينك بشبكة وان ويب البريطانية، لكنها باءت بالفشل).
تنازلت الولايات المتحدة عن معظم تكاليف المساعدات لأوكرانيا، ولكن ليس جميعها: فهي تدفع تكاليف صيانة قوات إضافية في أوروبا، ونشرها في مواقع متقدمة، وزيادة مستوى نشاطها مقارنةً بفترة ما قبل كوفيد.
في المواجهة العالمية مع الصين، يعاني الأمريكيون من نقص حاد في الأموال؛ فهم يفتقرون إلى القوات والموارد المادية. ولا يزال إنتاج الأسلحة الرئيسية متأخراً عن احتياجات أوكرانيا وحدها، مما يؤدي إلى تأخيرات كبيرة (تصل أحياناً إلى عدة سنوات) في تسليم الأسلحة إلى الحلفاء الآسيويين.
في خضم الصراع الدائر في أوكرانيا، أثبتت الولايات المتحدة مجدداً عجزها عن زيادة وجودها العسكري في المحيط الهادئ. ويكرر ترامب تجربة ولاية أوباما الثانية. في ذلك الوقت، لم يصاحب حديث الرئيس الأمريكي المبالغ فيه عن “التوجه نحو آسيا” زيادة حقيقية في الوجود العسكري في المنطقة، مما أدى إلى تراجع النفوذ الأمريكي.
في الواقع، وضع الولايات المتحدة اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه في الفترة 2012-2016. خلال هذه الفترة، حققت الصين نجاحًا ملحوظًا في بناء قوتها القتالية. وقد تغير ميزان القوة العسكرية في المنطقة بشكل كبير، وتزايدت التوترات حول تايوان بسبب الإجراءات الأمريكية السابقة. واستنادًا إلى تصريحات مسؤولي البنتاغون، تتوقع الولايات المتحدة أنه بعد عام 2027، ستنتقل الصين، بعد أن أكملت مرحلة أخرى من التحديث، إلى سياسة أكثر حزمًا في آسيا. وهذا يُشكل ضغطًا إضافيًا على الاستراتيجية الأمريكية في أوكرانيا.
استقرار أوروبا أمام تمويل الحرب الأوكرانية
من منظور مالي، يبدو أن إمدادات الموارد الأوروبية المستقبلية لأوكرانيا وحدها غير مستدامة على المدى الطويل. فخفض التدفق المالي من الولايات المتحدة يمثل خبرًا سيئًا للغاية لكل من كييف وبروكسل. فمن أصل 360 مليار دولار مُخصَّصة للمساعدات لأوكرانيا حتى شباط 2025، ساهمت الولايات المتحدة أكثر من 134 مليار دولار. وفي الوقت ذاته، تحتاج أوكرانيا إلى موارد إضافية لمواصلة عملياتها العسكرية، إذ صرح وزير الدفاع الأوكراني دينيس شميهال (Denys Shmyhal) بأن كييف ستحتاج إلى ما لا يقل عن 120 مليار دولار للنفقات العسكرية في عام 2026، بينما ستنخفض الميزانية العسكرية الفعلية للبلاد من 78 مليار دولار إلى 73 مليار دولار، بما في ذلك القروض والمنح الخارجية.
وينبغي تغطية النفقات الأخرى من مصادر خارج الميزانية الرسمية، بما في ذلك عمليات التسليم المباشر للأسلحة والمعدات العسكرية، ومدفوعات الجهات المانحة لتلبية الاحتياجات اللوجستية والإدارية المختلفة. وقدّم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (Volodymyr Zelensky) تقييمًا مبسطًا: يمكن للميزانية الأوكرانية تغطية 60 مليار دولار من أصل 120 مليار دولار، مع إمكانية تأمين 60 مليار دولار إضافية من مصادر خارجية.
ويُشير الوضع الحالي إلى أن تكاليف شراء المعدات العسكرية الأمريكية بأسعار السوق، كما صرّح ترامب مرارًا، ستضاعف تقريبًا عبء التمويل الأوروبي. وحتى استخدام أصول روسيا المجمدة لن يغطي سوى جزء صغير من هذه الاحتياجات في أفضل الظروف.
يزداد الجدل في أوروبا حول مصادر التمويل الإضافية، حيث تُناقَش مقترحات مثل “قروض التعويض” المضمونة بالأصول الروسية المجمدة، أو حتى مصادرتها بالكامل. وقد سبق أن أثارت مثل هذه المقترحات جدلًا واسعًا. ويُرجَّح أن تؤدي مصادرة احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية الروسية إلى تحديد مصير عشرات المليارات من الدولارات، بينما ستواجه أوروبا تحديات قانونية معقدة، وقد تؤثر هذه الخطوة على سلوك المستثمرين السياديين الآخرين في الأسواق الأوروبية. ورغم الحماس السياسي لهذه الإجراءات، يظل تنفيذها عمليًا معقدًا وصعبًا للغاية.
التداعيات الاقتصادية والسياسية للتمويل الأوروبي لأوكرانيا
تثير الضغوط المالية المتزايدة على الدول الأوروبية جملة من التداعيات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة. فمع استمرار تمويل العمليات العسكرية في أوكرانيا، تضطر الحكومات إلى إعادة تخصيص الموارد المحلية، مما يؤدي إلى زيادة الضرائب، تقليص النفقات الاجتماعية، وارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية. هذه الإجراءات تُفاقم التوتر الاجتماعي، وتخلق شعورًا بعدم الرضا بين السكان، خصوصًا في الدول التي تتحمل عبء مالي كبير مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا.
في الوقت نفسه، برزت حركات معارضة سياسية واجتماعية داخل هذه الدول، تنتقد غياب الحوار الاستراتيجي مع روسيا، وتعتبر دعم أوكرانيا المستمر على حساب مصالح شعوبها مقامرة غير مستدامة. وتزداد قوة هذه الحركات مع اتساع الفجوة بين النخب الحاكمة والرأي العام، ما قد يؤدي إلى تغيير الموازين السياسية في الانتخابات القادمة، خصوصًا في الدول التي تُعرف بتقلب الرأي العام تجاه السياسات الخارجية المكلفة.
تشير التقديرات الراهنة إلى أن مستقبل الأحزاب الحاكمة الأوروبية مرتبط بشكل مباشر بقدرتها على إدارة التوازن بين الدعم العسكري لأوكرانيا وحماية مصالح مواطنيها. ففشلها في ذلك قد يؤدي إلى إزاحة الحكومات الحالية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وربما حتى في بريطانيا، لصالح قوى سياسية تنتقد هذه السياسات وتطالب بـ تخفيف الدعم العسكري والبحث عن حلول تفاوضية مع روسيا.
وبالتالي، فإن الأزمة المالية المرتبطة بالنموذج المستدام لدعم أوكرانيا لا تؤثر فقط على القدرة العسكرية والاقتصادية لأوروبا، بل تُعيد تشكيل المشهد السياسي الداخلي، وتضع الدول الأوروبية أمام خيار حاسم بين الاستمرار في استراتيجية الدعم المكلفة أو إعادة ضبط العلاقة مع موسكو، بما قد يُعيد ترتيب خرائط النفوذ السياسي في القارة خلال السنوات القادمة.
مشكلة صمود أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي
يُثير التقدم الروسي البطيء والمتواصل منذ أوائل عام 2024 إغراءً لدى بعض المحللين بافتراض استمراره بنفس الوتيرة دون تغيير. إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا: فحتى إذا واصل الهجوم بوتيرته الحالية، فلن تتمكن روسيا من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الأوكرانية، ولن تستطيع الوصول إلى الحدود الخارجية للكيانات الأربع الاتحادية الجديدة في المستقبل المنظور، ما يجعل الصراع مستمرًا على نحو عقيم واستنزافي.
ويكشف تطور حرب الاستنزاف في أوكرانيا عن طبيعة معقدة للعمليات العسكرية. أولًا، هناك مؤشرات على تدهور متسارع في القدرات القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية، سواء على صعيد الأفراد أو المعدات. ثانيًا، من المتوقع أن تشهد خطوط المواجهة في المنطقة العسكرية الشمالية تطورات تكنولوجية جديدة قد تغيّر ديناميكيات القتال بشكل جذري، خصوصًا في مجالات الطائرات بدون طيار المسيرة (FPV) والأنظمة المحكومة بالألياف الضوئية.
ويعكس الإحصاء الجنائي العسكري الأوكراني هذا التباين في الأداء ومستوى الانضباط. فقد سجّلت الإجراءات بموجب المادة 407 من القانون الجنائي الأوكراني (التخلي غير المصرح به عن الوحدة) حوالي 7000 حالة في عام 2022، و17700 حالة في 2023، و68800 في 2024، و110500 خلال الأشهر السبعة الأولى من 2025، بما يزيد الإجمالي عن 250,000 حالة. كما تم فتح أكثر من 50,000 قضية بموجب المادة 408 (الفرار من الخدمة)، مع استمرار الاتجاه التصاعدي.
على الرغم من تطبيق آلية إعادة الفارين إلى الخدمة دون مقاضاة منذ تشرين الثاني الماضي، فإن النتائج كانت محدودة، حيث استفاد منها 29,000 شخص فقط، أي أقل من 10% من إجمالي الفارين. وبالطبع، هناك حالات لم تُسجّل رسميًا، ما يعني أن خسائر القوات الأوكرانية وفقًا لهذه التهم وحدها قد تتجاوز 271,000 جندي. وهذه الأرقام، على الرغم من عدم تمثيلها الإجمالي الكامل للخسائر، تكشف عن التحديات البنيوية والانضباطية في صفوف الجيش الأوكراني.
وفي الميدان، يؤكد القائد العام السابق للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوزني (Valerii Zaluzhnyi)، وجود جمود مواقعي متميز، لكنه يتجه نحو الكسر من قبل القوات الروسية. ويعزو ذلك إلى تكتيكات التسلل الروسية عبر المواقع الأوكرانية الضعيفة بسبب نقص المشاة، والاستخدام المكثف للطائرات بدون طيار المتقدمة، التي تمثل نحو 80% من خسائر الجانب الأوكراني.
كما وثّقت المصادر الأوكرانية تفوق روسيا في استخدام الطائرات FPV المسيرة والأجهزة المحكومة عبر الألياف الضوئية، فيما حافظت على تفوقها في الأسلحة التقليدية من طائرات ومدفعية وصواريخ، وعززت هذا التفوق طوال فترة النزاع، ما يعكس توازنًا دقيقًا بين التقدم الميداني البطيء والضغط الاستراتيجي الروسي المتواصل.
إنَّ كلا الجانبين يُطوِّر قدراتٍ جديدةً لمواجهة الطائراتِ المُسيّرة من أنواعٍ مختلفة: طائراتٌ اعتراضيّة متعدِّدةُ الطرازات، وأسلِحةُ طاقةٍ موجَّهة، وأسلِحةٌ خفيفة ومدفعيّة متخصِّصة، وأنظمةُ حربٍ إلكترونيّة متطوِّرة باستمرار. ويكتسب ظهورُ أنظمةٍ جديدةٍ لكَشْف الطائراتِ المُسيّرة وأنظمةِ تحكُّمٍ للدفاعِ الجويّ منخفضِ الارتفاع أهميةً بالغة؛ فهذه المنصّات تُتيح التكاملَ بين منظوماتِ اعتراضٍ متباينةٍ وتكوينَ شبكةٍ دفاعيّةٍ متكاملةٍ مضادّةٍ للطائراتِ المسيرة. وفي حالِ حقَّقَ أحدُ الطرفين تفوُّقًا جوّيًّا ملموسًا، فسيَتغيّرُ على الفورٍ طابعُ القتالِ ونتائجه التكتيكية.
تشير مؤشراتُ الإنتاجِ والأسلحة إلى أنَّ احتماليةَ تحقيقِ تفوُّقٍ أحادي الجانب في مجالِ الحربِ المسيرة والميدانِ التقنيّ أسرعُ لدى روسيا، مما هي عليه لدى أوكرانيا. ومن ثمَّ، فإنَّ الافتراضَ القائلَ بقدرةِ أوكرانيا على الحفاظِ على دفاعٍ مستقرٍّ إلى أجلٍ غير مسمّى في ظلِّ هذا التقدُّم العدديّ والتقنيّ المتزايد يفتقرُ إلى الأساس. وقد انعكس ذلك في التصريحاتِ الأوكرانية التي عبّرت عن ضرورةِ إنهاءِ الحربِ قبلَ نهايةِ العام، وعن اتّخاذِ كييف موقفًا متقبّلًا حيالَ مبادراتِ وساطةٍ إقليميّةٍ كالمبادرةِ الصينية‑البرازيلية.
إلا أنَّ أوكرانيا ما تزالُ غيرَ مستعدةٍ لمناقشةِ المطالبِ السياسية والعسكريةِ الروسيةِ المعروفةِ كشرطٍ لإنهاءِ النزاع؛ لذا تأتي دورةُ التصعيدِ الحاليةُ كمسعىٍ أميركي–أوكرانيٍّ لكسرِ الجمود. إنَّ فكرةَ شنِّ ضرباتٍ صاروخيةٍ غربيّةٍ مُوجَّهةٍ إلى مدنٍ رئيسيةٍ في عمقِ الأراضيِ الروسيّة — بما في ذلكَ موسكو— ليستْ جديدةً، وقد ساهمت هذه الإمكانيةُ في تعديلِ العقيدةِ النوويةِ الروسيةِ العام الماضي. ومع أن إدارةَ بايدن تردَّدت قبلَ اتخاذِ قراراتٍ حاسمةٍ من هذا النوع، إلّا أن إدارةَ ترامب أظهرت ميلاً أكبر إلى المخاطرةِ والمغامرة؛ ومن ثمّ لا يمكنَ استبعادُ سيناريوهاتٍ دراماتيكيّةٍ تتطلّبُ استعداداتٍ دفاعيّةٍ وردودًا انتقاميّةً قد تمتدُّ تأثيراتها إلى ما وراءَ حدودِ أوكرانيا وتغيّرُ موازينَ الأمنِ الإقليميِّ والدوليّ.