الصراع الهندي الباكستاني: لمصلحة من اندلاعه في هذا الوقت؟

الصراع الهندي الباكستاني: لمصلحة من اندلاعه في هذا الوقت؟

د. زياد منصور

           في السادس من ماي/ أيار، شنّت الهند سلسلة ضربات صاروخية وجوية ومدفعية على باكستان، فيما تعهّدت باكستان بالردّ. ويعود الصراع بين هذين البلدين إلى نشأتهما نفسها في عام1947. ومنذ ذلك الحين، وقعت بينهما ثلاث حروب كبرى وعدد لا يُحصى من الاشتباكات. وتُعدّ كل من الهند وباكستان دولتين نوويتين، مما يزيد الوضع خطورة ورعبًا. في هذه المقالة، نستعرض — باختصار ممكن — أسباب العداء بين البلدين.

أساسيات يجب معرفتها عن الهند وباكستان

الهند وباكستان بلدان ضخمان. لكن الهند أكبر من باكستان بست مرات (بحسب بيانات الأمم المتحدة). يبلغ عدد سكان الهند نحو مليار ونصف نسمة، ما يجعلها الأولى عالميًا من حيث عدد السكان، بينما يبلغ عدد سكان باكستان حوالي مئتين وخمسين مليون نسمة، وتأتي في المرتبة الخامسة.

الهند أغنى بكثير (بحسب بيانات صندوق النقد الدولي): ناتجها المحلي الإجمالي يبلغ أكثر من سبعة عشر تريليون دولار، أي ما يعادل 8.5% من الناتج العالمي، بينما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لباكستان 1.67 تريليون دولار، أي 0.8% فقط من الناتج العالمي. أما الناتج المحلي الإجمالي للفرد، فيكاد يبلغ ضعف نظيره في باكستان: اثنا عشر ألف دولار في الهند مقابل سبعة آلاف في باكستان.

الهند أيضًا من بين أكبر خمس دول في العالم من حيث الإنفاق العسكري، إذ خصصت أكثر من ستة وثمانين مليار دولار لهذا الغرض في عام ألفين وأربعة وعشرين، مقابل نحو عشرة مليارات فقط لدى باكستان. ويُلاحظ أن الإنفاق العسكري الهندي في ازدياد مستمر، بينما انخفض إنفاق باكستان العسكري بنسبة خمسة في المئة مقارنة بعام ألفين وثلاثة وعشرين.

كلا البلدين يمتلكان أسلحة نووية، ويُقدَّر عدد الرؤوس النووية لدى كل منهما ما بين مئة وسبعين إلى مئة وثمانين رأسًا. للمقارنة: الصين تمتلك نحو ستمئة رأس نووي، وفرنسا مئتين وتسعين، وبريطانيا مئتين وخمسة وعشرين، وكوريا الشمالية خمسين، أما روسيا والولايات المتحدة فتملكان آلاف الرؤوس النووية.

من الناحية الرسمية، تعد كل من الهند وباكستان جمهوريتين برلمانيتين. لكن الواقع مختلف: ففي باكستان، يتمتع الجيش بنفوذ كبير على الحياة السياسية، وقد شهدت البلاد عدة انقلابات عسكرية، مثل أعوام 1958، 1977، 1999. وغالبًا ما كانت العودة إلى التداول الديمقراطي للسلطة تتم عبر انقلابات عسكرية أيضًا. وقد نصّ دستور عام 1973 صراحةً على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.

أما الهند، فهي ديمقراطية مستقرة، حيث يتم تداول السلطة عبر الانتخابات. ومع ذلك، فإن العنف السياسي لا يزال حاضرًا فيها. فعلى سبيل المثال، اغتيلت رئيسة الوزراء أنديرا غاندي في عام 1984 انتقامًا منها على قمعها الدموي للحركة الانفصالية السيخية. وتشهد البلاد، ولا سيما في شمالها، اشتباكات طائفية دموية بين الهندوس والمسلمين.

بحسب الدستور، الهند دولة علمانية. وعلى الرغم من أن نحو 80% من سكانها هم من الهندوس، إلا أنها ثالث أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان المسلمين، بعد إندونيسيا وباكستان.

تسيطر الحكومة الهندية بفعالية على أراضي الدولة كافة، في حين توجد مناطق كاملة في باكستان — خصوصًا في الشمال قرب الحدود مع أفغانستان — لا تخضع عمليًا لسيطرة الحكومة المركزية في إسلام آباد. وتسيطر على هذه المناطق القبائل المحلية أو الوافدة، والعشائر، والجماعات الإرهابية والإجرامية (وغالبًا تكون هذه الجهات متداخلة فيما بينها).

خلال الحرب الباردة، كانت الهند أقرب إلى الاتحاد السوفيتي، فيما كانت باكستان أقرب إلى الولايات المتحدة. واليوم، لا تزال الهند من أكبر مستوردي النفط والسلاح الروسيين، وفي الوقت نفسه تُعد من أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة. كما تواصل الهند الالتزام بسياسة عدم الانحياز، التي أرسى دعائمها مؤسس الدولة جواهر لال نهرو منذ أربعينيات القرن العشرين.

أما باكستان، فحصلت منذ عام 2004 على صفة “حليف رئيسي من خارج الناتو” للولايات المتحدة (كما هو الحال بالنسبة لأستراليا واليابان وإسرائيل). وقد لعبت دورًا محوريًا في التعاون مع الولايات المتحدة خلال حرب أفغانستان. كما تربط باكستان علاقات وثيقة تقليدية مع الصين، وهي علاقات غالبًا ما تُبنى على العداء المشترك للهند. وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين، لعبت باكستان دور الوسيط الرئيسي في تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما تُوّج بزيارة ريتشارد نيكسون إلى بكين ولقائه مع ماو تسي تونغ.

 جوهر الصراع – كشمير

كشمير منطقة تاريخية وجغرافية تقع في جبال الهيمالايا، على التخوم بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا. يبلغ عدد سكانها الإجمالي ما بين سبعة عشر وثمانية عشر مليون نسمة، ويُشكّل المسلمون غالبية ساحقة منهم. حاليًا، تنقسم المنطقة بين الهند (الولايات الاتحادية جامو وكشمير، ولاداخ)، وباكستان (الوحدات الإدارية الخاصة غلغت-بلتستان والحكم الذاتي في “آزاد كشمير”)، والصين (هضبة أكساي تشين).

كشمير في جوهرها منحدر ضخم من جبال الهيمالايا، يمتد من سهل البنجاب جنوبًا حتى أعالي الجبال شمالًا. وتوجد فيها عدة قمم يتجاوز ارتفاعها ثمانية آلاف متر.

تركّز الحياة في كشمير في الأودية الواقعة بين الجبال، وأكبرها وادي كشمير الواقع في أراضي الاتحاد الهندي “جامو وكشمير”، ويضم مدينة سريناغار، أهم مدن المنطقة، التي يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة، وهو عدد ليس بالكبير بمقاييس جنوب آسيا.

تعاني كل من الهند وباكستان من “صدمة ولادة” مشتركة، هي تقسيم الهند البريطانية. فقد كان شبه القارة الهندية — أي الهند وباكستان وبنغلادش الحالية — مستعمرة تابعة للإمبراطورية البريطانية. ومنذ أوائل القرن العشرين، نشأت فيها حركتان رئيسيتان للمطالبة بالاستقلال: إحداهما إسلامية الطابع، والأخرى يغلب عليها الطابع الهندوسي. وبعد الحرب العالمية الثانية، وافقت بريطانيا على إنهاء استعمار الهند، لكنها قررت تقسيم شبه القارة إلى دولتين: إسلامية وهندوسية.

في شمال الهند، حيث كان المسلمون والهندوس يعيشون معًا منذ قرون، كان هذا التقسيم بالغ الصعوبة. وقد رافق تقسيم عام 1947 مجازر وتهجير جماعي وصراعات على الأراضي والمنازل. وتتراوح تقديرات أعداد الضحايا بين مئتي ألف ومليوني شخص، وعدد اللاجئين بين اثني عشر وعشرين مليونًا.

في الهند البريطانية، وُجدت كيانات شبه مستقلة اسمًا، وكان من حق حكامها عند التقسيم أن يختاروا الانضمام إلى الهند أو باكستان. ومن هذه الكيانات إمارة “جامو وكشمير”، وكان يحكمها المهراجا “هاري سينغ”، وهو هندوسي، في حين أن نحو 80 % من رعاياه كانوا من المسلمين. وقد كان المهراجا على خلاف مع الحركتين معًا: مع الهندية بسبب ميولها اليسارية، ومع الباكستانية لأنها اعتبرته وثنيًا لا يليق بأن يحكم المسلمين.

أعلنت الهند وباكستان استقلالهما في الرابع عشر والخامس عشر من آب عام1947. أراد المهراجا “هاري سينغ” أن تبقى كشمير مستقلة، لكن المسلمين فيها ثاروا عليه، وسرعان ما تدخلت باكستان لدعمهم، مما اضطر المهراجا إلى طلب المساعدة من الهند، وقَبِل في المقابل بانضمام كشمير إليها.

استمرت الحرب الهندية-الباكستانية الأولى حتى نهاية عام 1948، وأسفرت عن رسم حدود شبه دائمة في كشمير: فالشمال والغرب بيد باكستان، والوسط والجنوب والشرق تحت سيطرة الهند.

كشمير ليست فقط موضعًا للنزاع الإقليمي، بل أصبحت رمزًا لتصادم الهويتين القوميتين الهندوسية والإسلامية، ومركزًا لكل المظالم المتبادلة بين شعوب جنوب آسيا. وهذه الجراح لا تعود فقط إلى تقسيم عام 1947، بل إلى تاريخ أقدم بكثير، على الأقل إلى غزو المغول من آسيا الوسطى لشمال الهند في القرن السادس عشر، وإن شئنا الرجوع أكثر، إلى الفتح العربي لوادي السند في القرن الثامن الميلادي، في فجر التاريخ الإسلامي.

الموقف الروسي:

تتابع روسيا بقلق بالغ تطورات التصعيد الأخير بين الهند وباكستان، خاصة في إقليم كشمير المتنازع عليه، والذي يشهد من حين إلى آخر موجات من التوتر العسكري والسياسي تهدد الاستقرار الإقليمي. وفي مواجهة هذا الوضع، اتخذت موسكو موقفًا متوازنًا، داعية الطرفين إلى ضبط النفس، والامتناع عن أي خطوات أحادية قد تؤدي إلى مزيد من التصعيد.

وقد أكدت وزارة الخارجية الروسية تمسكها بمبدأ الحل السلمي للنزاعات الثنائية، مشددة على ضرورة اعتماد الآليات السياسية والدبلوماسية لتسوية الخلافات القائمة بين نيودلهي وإسلام آباد. وأعادت موسكو التذكير بالإطار القانوني والسياسي الذي سبق أن توافق عليه الطرفان، والمتمثل في اتفاقية سيملا لعام 1972 وإعلان لاهور لعام 1999، اللذين ينصان على تسوية النزاعات من خلال الحوار الثنائي بعيدًا عن التدخل الخارجي.

وتنطلق السياسة الروسية في هذا السياق من علاقاتها المتينة مع كل من الهند وباكستان، حيث تمثل الدولتان شريكين استراتيجيين لموسكو في مجالات متعددة. فقد تجاوز حجم التبادل التجاري بين روسيا والهند في العام الماضي سبعين مليار دولار أمريكي، ما يجعل روسيا رابع أكبر شريك تجاري للهند بعد الولايات المتحدة، الصين، والإمارات. وقد توّجت العلاقات الثنائية بين البلدين بلقاء القمة الذي جمع الرئيس فلاديمير بوتين برئيس الوزراء ناريندرا مودي في الكرملين، والذي أسفر عن اتفاق على رفع سقف التبادل التجاري إلى مئة مليار دولار بحلول عام 2030.

في المقابل، شهدت العلاقات الروسية–الباكستانية تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، حيث تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين مليار دولار. كما عبّرت إسلام آباد عن ثقتها بالدور الروسي المحتمل كوسيط موثوق في حل النزاع، مستذكرة الدور التاريخي الذي أدّاه الاتحاد السوفيتي في التوصل إلى إعلان طشقند عام 1966، والذي وضع حدًا للحرب الهندية–الباكستانية الثانية.

وفي هذا السياق، أعرب الكرملين، عبر تصريحات المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية، عن قلقه من تصاعد حدة المواجهة بين الطرفين، مشيرًا إلى احتمال عقد اتصالات رفيعة المستوى بين القيادة الروسية ونظيرتيها الهندية والباكستانية، بهدف الدفع نحو التهدئة والحوار.

وتسعى روسيا، في ضوء سياستها الخارجية القائمة على التعددية القطبية وعدم الانحياز، إلى لعب دور الوسيط المحايد، الذي يقدم “مساعيه الحميدة” لكلا الطرفين دون الانجرار إلى الاصطفاف أو التأثير في موازين القوى. فدعم أحد الأطراف على حساب الآخر لا يحقق أي مكاسب استراتيجية لروسيا، بل قد يعرّض مصالحها الحيوية في المنطقة للخطر، في وقت تسعى فيه موسكو إلى ترسيخ شراكات طويلة الأمد مع أبرز الفاعلين الإقليميين في آسيا.

بذلك، يندرج الموقف الروسي ضمن مقاربة تقوم على حفظ التوازن الإقليمي، وتفعيل الدور الدبلوماسي البناء، والمساهمة في الاستقرار الدولي، مع التأكيد على أولوية الحلول السياسية، ورفض منطق المواجهة العسكرية الذي ثبت عبر التاريخ أنه لا يفضي إلى نتائج دائمة أو عادلة.

 الصين والصراع الهندي–الباكستاني: موقف حذر وسط توتر إقليمي متصاعد

على الرغم من استمرار الخلافات الحدودية بين الصين والهند، والتي ما تزال تشكّل مصدر توتر دائم في العلاقات بين البلدين، يرى عدد من الخبراء أن بكين ليست في وارد استغلال التصعيد الراهن بين نيودلهي وإسلام آباد من أجل التوسع أو السيطرة على أجزاء من كشمير.

ويأتي ذلك في وقت يشهد فيه جنوب آسيا حالة من التوتر الشديد، خصوصًا بعد الهجوم الإرهابي الذي وقع في منطقة بَهلغام (Pahalgam) بكشمير، والذي فاقم حدة التوتر بين الهند وباكستان. وقد أطلقت إسلام آباد تحذيرات تشير إلى إمكانية اندلاع حرب في غضون أربع وعشرين ساعة، بينما تبادل الجانبان، على مدى أيام، الاتهامات بشأن عمليات قصف وخرق للهدنة على امتداد خط السيطرة.

ورغم علاقاتها القوية مع باكستان وشراكتها الاستراتيجية معها، يبدو أن الصين تتخذ موقفًا متوازنًا إزاء هذا النزاع، مدفوعة باعتبارات تتعلق بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وعدم الزج بنفسها في صراع مباشر قد يؤثر على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية الواسعة في المنطقة.

ويؤكد المراقبون أن بكين تنظر بعين الحذر إلى التصعيد بين جارتين نوويتين، وتدرك أن انزلاق الوضع نحو مواجهة مفتوحة من شأنه أن يهدد مشاريعها الكبرى، وعلى رأسها مبادرة “الحزام والطريق”، التي تمر بعض مساراتها عبر مناطق حساسة بين الهند وباكستان، بما في ذلك كشمير الخاضعة لإدارة إسلام آباد.

في ضوء ذلك، فإن الدور الصيني في الأزمة المحتملة قد يقتصر على الدعوات إلى التهدئة والحوار، دون الانحياز الصريح إلى أحد الطرفين، مع المحافظة على توازن دقيق بين دعمها التاريخي لباكستان ورغبتها في تجنب القطيعة مع الهند، التي تشكّل أحد أبرز المنافسين الإقليميين للصين، وفي الوقت نفسه شريكًا اقتصاديًا ذا ثقل متزايد.

 في الوقت الذي يتصاعد فيه التوتر بين الهند وباكستان، تراقب الصين، الجارة المباشرة لإقليم كشمير، تطورات الوضع بقلق محسوب. فمنذ نهاية الحرب الصينية-الهندية عام 1962، والتي نشبت بسبب النزاع الحدودي بين الجانبين حول أراضٍ تقع بين التيبت والمناطق الخاضعة سابقًا للنفوذ البريطاني، تحتفظ بكين بمطالب إقليمية في جزء من كشمير، ولا تزال تعتبر هذه القضية مفتوحة ضمن ملفات الحدود غير المحسومة مع نيودلهي.

وعلى الرغم من تقاربها التدريجي مع كل من الهند وباكستان، لطالما احتفظت الصين بعلاقات أوثق مع إسلام آباد، لاسيما فيما يتعلق بمسألة كشمير. غير أن بكين تحرص في الوقت الراهن على الحفاظ على موقف محايد نسبيًا، إذ لا تنسجم أية مواجهة مسلحة بين الهند وباكستان مع مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية، خاصة في ظل عضوية الأطراف الثلاثة في منظمة شنغهاي للتعاون، التي تسعى إلى تعزيز الأمن الإقليمي والتكامل الاقتصادي في آسيا الوسطى.

ولا تربط الصين بباكستان أية اتفاقيات تحالف عسكري تلزمها بالتدخل في حال اندلاع مواجهة مسلحة، كما أن الهند تُعدّ شريكًا اقتصاديًا بالغ الأهمية بالنسبة لبكين. من هنا، تسعى الصين إلى لعب دور دبلوماسي يهدف إلى منع التصعيد بين الطرفين، وإنقاذ الوضع عبر الوسائل السياسية إذا ما خرج عن السيطرة.

تتمثل المصلحة الصينية الرئيسية في هذه المنطقة في الحفاظ على الاستقرار الذي من شأنه تأمين تنفيذ مشاريعها الكبرى، وعلى رأسها الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، الذي يربط إقليم شينجيانغ بميناء غوادار، مرورًا بأراضٍ متنازع عليها في كشمير. ورغم أن هذا الممر لم يصل بعد إلى طاقته التشغيلية الكاملة، إلا أن الصين تنظر إليه كجزء حيوي من مبادرة “الحزام والطريق”، ما يجعلها تولي أهمية قصوى لتأمين محيطه الجغرافي.

ورغم أن حدود الصين مع باكستان محسومة، بخلاف وضعها مع الهند، إلا أن استمرار النزاع الكشميري يقف حجر عثرة أمام تطوير هذا الممر، ويؤدي إلى تفاقم التهديدات الأمنية في مناطق تعتبرها الصين استراتيجية.

وبكين، على الرغم من حرصها المعلن على التهدئة، قد تميل إلى تقديم دعم غير مباشر لباكستان في حال تصاعدت المواجهات، وذلك في ضوء الشراكة الطويلة بين البلدين والتعاون الاستثماري الوثيق. لكن دخول الصين في وساطة مباشرة قد يثير حفيظة نيودلهي، التي تتنازع معها أراضٍ أخرى، ما يجعل من الحياد المدروس الخيار الأكثر ترجيحًا لبكين في هذه المرحلة.

القوى الكبرى استفادت وتستفيد من الصراع

القوى الكبرى هي التي استفادت من هذا الصراع عبر التاريخ، ما يعكس تدخّل المصالح الاستعمارية في تشكيل واقع هذه الدول الحديثة. وهو يشير إلى أن تقسيم الهند في عام 1947 لم يكن فقط نتيجة للصراعات الداخلية بين المسلمين والهندوس، بل كان أيضًا ثمرة للسياسات الاستعمارية البريطانية، التي سعت لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الشعوب المستعمَرة.

الاستعمار البريطاني والتقسيم:

الهند كانت تُعرف بـ “الجوهر الماسي للتاج البريطاني” خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وسبّب الاحتلال البريطاني في استغلال موارد الهند لصالح الثورة الصناعية البريطانية. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان من الطبيعي أن تصبح الهند طرفًا في الحرب من دون أن تشهد أرضها معارك مباشرة، إلا أن المجاعة والتجويع بدأ في الانتشار داخل الهند بسبب السياسات الاستعمارية البريطانية. وعليه، عندما كانت الهند في خضم هذا الوضع الصعب، طالبت حركة “المؤتمر الوطني الهندي” (INC) بالاستقلال.

الانقسام والنتائج:

في 1947، حصلت الهند على استقلالها، لكن بطريقة كانت مفاجئة ومعقدة. رغم أن المؤتمر الوطني الهندي كان منظمة غير دينية تمثل الجميع في الهند، نشأت حركة “رابطة المسلمين” في عام 1906 لتدافع عن مصالح المسلمين في الهند. رغم التقارب بين قيادات الحركة الوطنية مثل المهاتما غاندي وجناح، كان الانقسام لا مفر منه بسبب ضغط القوى البريطانية. ولذلك، تم تقسيم الهند إلى دولتين: الهند وباكستان. هذه النتيجة كانت تعبيرًا عن التوترات الدينية والعرقية التي كانت تتزايد، لكنها أيضًا كانت نتيجة للسياسات الاستعمارية البريطانية التي انتهت بدعم هذا التقسيم لأغراض استراتيجية.

الدور الذي لعبته القوى الكبرى:

التقسيم كان مفيدًا للبريطانيين، حيث أنه خلق صراعًا طويل الأمد بين الهند وباكستان، مما أضعف الاستقرار في المنطقة وجعل هذه البلدان بحاجة إلى الدعم السياسي والاقتصادي من القوى الكبرى بعد الاستقلال. وكان هذا الصراع دائمًا يحمل فوائد للأطراف الخارجية التي كانت تتدخل أو تراقب هذا الصراع عن كثب، سواء كان ذلك عبر دعم سياسي أو اقتصادي أو حتى عسكري.

 الدور المحتمل للطرف الثالث:

ما يثير التساؤل هو من الذي قد يستفيد اليوم من استمرار هذا الوضع المتأزم بين الهند وباكستان. في الماضي، كانت بريطانيا قد لعبت هذا الدور. اليوم، قد تكون القوى الكبرى الأخرى مثل الولايات المتحدة والصين مستفيدة من بقاء هذا الصراع قائمًا في شكل نزاع غير حاسم. فقد يؤدي استمرار التوتر إلى زعزعة استقرار المنطقة، وبالتالي زيادة الحاجة إلى التدخلات الدبلوماسية والاقتصادية، مما يتيح لهذه القوى الكبرى تحسين مواقعها في المنطقة.

إذن، فالحفاظ على الوضع الراهن – أي بقاء النزاع في حالة عدم تصعيد لكن دون تسوية حقيقية – يضمن أن الأطراف الكبرى ستستمر في أن تكون جزءًا من المعادلة الجيوسياسية في المنطقة.

في عام 1940، وبعد أشهر قليلة من إعلان لندن أن الهند أصبحت طرفًا في الحرب، بدأت الهند تقترب من الحصول على استقلال حقيقي. لكن في تلك اللحظة، حدث شيء مهم. ألقى محمد علي جناح خطابًا في مدينة لاهور، الذي أصبح لاحقًا يعرف بـ “قرار لاهور”. في هذا الخطاب، أعلن بشكل قاطع أن هناك لا يمكن أن يكون هناك شيء مشترك بين المسلمين والهندوس. وبالتالي، دعا إلى الفصل بينهما.

مبدأ “فرق تسد” هو مبدأ قديم ويظل فعّالًا عبر الزمن. من الصعب تحديد من كان المصدر الحقيقي للإلهام لجناح، الذي كان في السابق يلتزم بنهج مغاير تمامًا. لكن من المؤكد أن السلطات البريطانية كانت مستعدة للانصياع له، مما يثير تساؤلات حول المواقف السياسية التي كانت تلعب دورًا في تلك المرحلة. وفي عام 1947، بدلاً من أن تنشأ دولة علمانية واحدة تضم مختلف الطوائف والأديان، نشأت دولتان: باكستان الإسلامية والهند التي كانت يغلب عليها الهندوس.

الاضطرابات المستمرة

هذا الانقسام أصبح الأساس للصراع الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، والذي يتفاقم أحيانًا بفعل تدخلات خارجية. في التصعيد الحالي للصراع، هناك العديد من الأحداث التي تستحق الاهتمام. على سبيل المثال، تزامن الهجوم الإرهابي في باهالجام مع زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى السعودية، وهو ما دفعه إلى قطع زيارته بسبب تلك الأحداث. كما تم إلغاء زيارة مودي إلى روسيا بمناسبة الاحتفال بيوم النصر، وهو ما تفهمته موسكو.

لكن هذا ليس كل شيء. في 17 أبريل/نيسان، أي قبل خمسة أيام فقط من الهجوم، عرضت الهند على الشركات الأمريكية التي ترغب في نقل مصانعها من الصين أن تكون لديها أرض ومرافق لاستيعاب هذه الشركات. وفي 21 أبريل/نيسان، وصل إلى الهند نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، الذي كان متزوجًا من ابنة مهاجرين هنود من طبقة البراهمة، وهي أعلى طبقة في الهندوسية. وكان من المقرر أن يتضمن زيارة فانس مفاوضات تجارية، مما يشير إلى تحركات خارجية في هذه الأزمة.

في 22 أبريل/نيسان، انفجرت الأوضاع، تمامًا في المكان الذي كان يشتعل فيه التوتر منذ فترة طويلة، حيث كانت النار تتقد على فترات حسب الحاجة. من الجدير بالذكر أن الوضع في ذلك العام كان مشابهًا للغاية لما حدث في عام 1999. حينها، تحسنت العلاقات بين الهند وباكستان بشكل ملحوظ — ففي عام 1998، أجرت باكستان أولى تجاربها النووية، ولكنها لم تستخدم هذه القوة بشكل استفزازي. بل على العكس، بعد عدة اجتماعات على أعلى المستويات، وقع الطرفان في فبراير/شباط 1999 “إعلان لاهور”، الذي كان يهدف إلى تقليل خطر استخدام الأسلحة النووية عن طريق الخطأ أو دون إذن.

لكن من المؤسف أن الوضع لم يستمر هادئًا؛ ففي ماي/أيار من نفس العام، اندلعت الحرب في منطقة كارغيل الهندية، وهي التي تحولت إلى حرب كارغيل، والتي لم يكن رئيس الوزراء الباكستاني في ذلك الوقت، نواز شريف، على علم بها حتى علم بها من الجانب الهندي. يجب الإشارة هنا إلى أن جميع الحروب الأربعة بين الهند وباكستان لم تتحول إلى حروب طويلة أو واسعة النطاق، حتى الحرب الثالثة في عام 1971، التي كانت هي الأكبر بين الحروب الأربعة، لم تزد فيها الخسائر على آلاف القتلى وليس عشرات أو مئات الآلاف.

ومن المحتمل أن يكون هذا هو الحال في الوقت الراهن أيضًا، حيث إن الصراع المستمر هو أكثر ما يناسب “الطرف الثالث”، الذي يفضل الصراع المتأجج جزئيًا، مما يسمح له بفرض تقسيم في المنطقة، وإذا لم يكن قادرًا على الهيمنة، فإنه على الأقل يظل قادرًا على التحكم في الوضع من بعيد.

الدور الأميركي في الصراع

من زاوية استراتيجية، تنظر الولايات المتحدة إلى الهند باعتبارها شريكًا مهمًا في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في منطقة آسيا-الهادئ، وقد شهدت العلاقات الهندية-الأميركية تقاربًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا على مستوى التعاون العسكري والتكنولوجي. في المقابل، تحافظ واشنطن على علاقات أقل دفئًا مع باكستان، وإن كانت لا تزال قائمة، لأسباب تتعلق بموقعها الجغرافي وتأثيرها على أفغانستان والصين.

ضمن هذا السياق، يرى بعض المحللين أن استمرار التوتر بين الهند وباكستان قد يخدم، بطريقة غير مباشرة، مصالح واشنطن في إضعاف النفوذ الصيني في المنطقة، خصوصًا إذا اضطرّت بكين إلى الانشغال بجبهات أمنية جديدة قريبة من حدودها، ككشمير. كذلك، فإن اضطراب الأوضاع في كشمير يمكن أن يعرقل تنفيذ مشروع “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني” (CPEC)، وهو أحد أركان مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تعارضها واشنطن بشدة.

مع ذلك، ، يبدو أن واشنطن لا تسعى بشكل مباشر إلى إشعال صراع بين قوتين نوويتين مثل الهند وباكستان، نظرًا لما يحمله ذلك من مخاطر هائلة على الأمن الإقليمي والعالمي. فالمصالح الأميركية تظل مرتبطة بالاستقرار النسبي في جنوب آسيا، خاصة في ظل رغبتها في عدم إشعال حروب مفتوحة في مناطق جديدة.

 بعض من تاريخ النزاع بين البلدين:

… اتهمت الهند جماعة “لشكر طيبة” (Lashkar-e-Taiba) بالوقوف وراء الهجوم، وهي جماعة إسلامية مسلحة مقرها في باكستان، وتُعدها نيودلهي وواشنطن منظمة إرهابية. نفت باكستان تورطها، لكن العلاقات بين البلدين تدهورت بشكل حاد بعد الهجوم.

عام 2016 — نفذ مسلحون هجومًا على قاعدة عسكرية هندية في منطقة أوري (Uri) التابعة لإقليم كشمير الخاضع لسيطرة الهند. أسفر الهجوم عن مقتل 19 جنديًا هنديًا. وردّت الهند بتنفيذ ما أطلقت عليه “ضربات جراحية” داخل الأراضي الباكستانية، مستهدفة معسكرات للمسلحين في كشمير الباكستانية، وهي خطوة غير مسبوقة أثارت مخاوف من تصعيد واسع.

عام 2019 — في شباط، فُجّر هجوم انتحاري في منطقة بولواما (Pulwama) بكشمير الهندية، قُتل فيه 40 عنصرًا من قوات الأمن الهندية، وتبنّت الهجوم جماعة “جيش محمد” (Jaish-e-Mohammed)، وهي جماعة إسلامية مسلحة تتخذ من باكستان مقرًا لها. ردت الهند بضربات جوية استهدفت بلدة بالاكوت (Balakot) في عمق الأراضي الباكستانية، قائلة إنها دمّرت “معسكرًا إرهابيًا”. في اليوم التالي، أسقطت باكستان طائرة هندية وأَسرت طيارها، لكنها أفرجت عنه لاحقًا كبادرة حسن نية، ما ساعد في تهدئة التوتر جزئيًا.

عام 2023 — تصاعدت الاشتباكات المسلحة في كشمير على جانبي خط التماس، مع تبادل مستمر لإطلاق النار وعمليات تسلل مزعومة. واستمر كل طرف في اتهام الآخر بدعم الإرهاب أو ممارسته.

عام 2025 — في نيسان، وقع تفجير في بلدة باهالغام (Pahalgam) السياحية في كشمير الهندية، أودى بحياة عدد من المدنيين. اتهمت الهند جماعات مسلحة مدعومة من باكستان بالمسؤولية. وردت نيودلهي بتجميد العمل من جانب واحد باتفاق تقاسم مياه نهر السند المبرم عام 1960، مما اعتبر تصعيدًا خطيرًا بالنظر إلى اعتماد الزراعة الباكستانية الكبير على مياه النهر.

وفي السادس من ماي/ أيار، شنّت الهند سلسلة ضربات صاروخية وجوية ومدفعية على مواقع داخل باكستان، قالت إنها تستهدف “بنية تحتية إرهابية”. أعلنت إسلام آباد أنها سترد على العدوان، وسط مخاوف دولية من اندلاع مواجهة شاملة بين دولتين نوويتين.

رغم مرور أكثر من سبعة عقود على استقلال الهند وباكستان، لم تهدأ الصراعات بينهما، بل تحوّل إقليم كشمير إلى رمز لصراع هويّاتي، ديني، وجيوسياسي معقّد، تتداخل فيه الجراح التاريخية مع النزاعات الجغرافية الحديثة، وتُلقي عليه ظلال الحرب الباردة ومصالح القوى الكبرى.

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!