الصّحراءُ المغربيّة.. الحدَثُ والأثَر
محمد بنيـس
1.
يوم 31 أكتوبر 2025 أحد الأيام الكبرى التي ستكتب في تاريخ المغرب الحديث، بل في التاريخ الحديث للبلدان المغاربية. تصويت مجلس الأمن لصالح الحكم الذاتي في الصحراء كان الجواب الواقعي عن سؤال لم يكن سؤالاً. بهذا نحن نعيش لحظة حدَث، بمعنى لحظة تفاعلت فيها عناصر فعل مُبدّل، يفصل بين زمنين. كان ذلك ممكناً منذ خمسين سنة، أي منذ نصف قرن. هل نتخيل أنها فترة أطول من فترة الحماية الفرنسية، التي لم يتجاوز عمرها أربعة وأربعين سنة، من 1912 حتى 1956؟ وأنا الذي عشت في طفولتي فرح الناس حولي في فاس باستقلال المغرب، عشت، أيضاً، الفرح باستقلال الجزائر، وهو الفرح الذي عبر عنه المغاربة تلقائياً، ليلة الجمعة الأخير، نتيجة تصويت مجلس الأمن لصالح مغربية الصحراء.
2.
الفرح باستقلال المغرب والجزائر لم يدم طويلاً. بسرعة أقبل زمن الخيبات وفاجأتنا المآسي. لمست، وأنا في الثانية إعدادي، فاجعة الحرب بين الجزائر والمغرب سنة 1963. جاءت الحرب بعد سنتين فقط من استقلال الجزائر، سنة 1961. لم تكن تلك الوقائع أرقاماً لسنوات، توحّد فيها المغاربة والجزائريون، للوصول إلى الاستقلال. بل هي لحظات شاهدت فيها الفرح الذي لا يشبه أي فرح لاحق. كانت البيوت الكبرى، وهي مزدانة بالرايات والأضواء، مفتوحة يومياً للفرجة، من خطابات ومسرحيات وحفلات موسيقية، بدءاً من ما بعد العصر حتى الثامنة أو التاسعة مساء، فيما أذكر. وبدون أخذ الأنفاس، جاء تدمير ما كان بناءً لمستقبل من التكامل بين البلدان المغاربية، كما كانت عبّرت عنه أحزاب من البلدان الثلاثة، حزب الاستقلال المغربي، حزب الدستور الجديد التونسي وجبهة التحرير الجزائرية، في لقائها الشهير سنة 1958 بمدينة طنجة. وهناك، أمام «فندق رامبرانت»، أعود وأتذكر أن بورقيبة كان في إحدى غرف هذا الفندق أقام أيام اللقاء. كان تدمير الحلم قاسياً عليّ وعلى نفس أبناء جيلي. أتذكر التفاصيل، التي تمثلت في الحرب الإعلامية بين البلدين وقطع العلاقة الديبلوماسية بين المغرب ومصر، مما أدى إلى توقيف التعاون في مجال التعليم، حيث غادر الأساتذة المصريون المغرب.
3.
ثم انبثقت قضية الصحراء المغربية سنة 1975، بعد أن أصبحت تتجول بين أروقة مجلس الأمن. كان انبثاق هذه القضية، مثلما كان كانت الحرب الجزائرية ـ المغربية عاملاً على إعادة قراءة تاريخ المنطقة المغاربية، وقراءة سيرورة الاستعمار الذي فرض، منذ القرن التاسع عشر، تمزيق جغرافية المنطقة، وقام، في الوقت ذاته، بمحاولات التشطيب على تاريخ مشترك، اجتماعي وثقافي، مثلما عمل على وضع الحواجز بين أحلام الأجيال الحديثة من أبناء هذه المنطقة في بناء رؤية مشتركة ومبدعة لحياة ذات أفق وحدوي، تتجاوب فيه الأفكار والإبداعات والمصائر.
4.
ما زلت أتذكر صحفياً جزائريا كان جاء إلى المغرب في سبتمبر سنة 1975، قبيل الإعلان عن المسيرة الخضراء، في 16 أكتوبر، ليستكشف موقف المغاربة من قضية الصحراء. عندما التقى بي في المحمدية، أجبته بجملة قصيرة: لا انفصال ولا عداء. كنت على يقين بأن ما قلته لذلك الصحفي لم يكن مجرد كلام منفعل ولا متحمس لأيّ شعار. كان تعبيراً عن حلم كان يلازمني منذ فترة الشباب، لعله علامة على رومانسية مراهق، ولم أعد أدري كيف نشأت لدي آنذاك رؤية مستقبلية من خلال ما كنت أتأمله، مع رفاق الإعدادية، من أحداث ووقائع تكاد تكون متواصلة في الحياة اليومية، الاجتماعية والثقافية، لتلك الفترة. ثم جاء التمزق بإقدام الجزائر في صبيحة 18 ديسمبر 1975، يوم عيد الأضحى، على طرد جالية مغربية أو من أصول مغربية، بلغ عدد عائلاتها خمسة وأربعين ألفاً. تمزيق الجسد الواحد. ودم الأرحام. صبيحة سوداء، أحيا الأبناء والأحفاد ذكراها الخمسين هذه السنة.
لم أكن أصدق ما يقع فيما كنت مأخوذاً بحلم التفاعل بين المغاربيين وبفكرة الحوار بين النخب الفكرية والإبداعية. واقع التخلف المضاعف، حسب تعبير عبد الله العروي، لم يكن له، في هذا المستوى، جوابٌ أبلغ من الفعل المشترك والتبادل الحر للرأي في شأن بناء مستقبل اجتماعي ـ اقتصادي ـ ثقافي وإبداعي.
5.
كلما كانت السنوات تمر كان الحلم يأتي ويذهب، يطفو ويغرق، يضيء ويعتم. وكنت من بين الذين يتألمون ولا ييأسون. نعم، كان الوقت صعباً، بحكم الأوضاع السياسية المحلية والدولية. أحياناً، كنت أقاوم الالتباسات في مناسبات ثقافية عربية من أجل إثبات مغربية الصحراء في بيان ثقافي. الالتباس كان كبيراً، لأن مفاهيم الاستعمار، الاستقلال، مبدأ تقرير المصير، كانت مشحونة بسياق الحرب الباردة، وبحركات التحرير في البلاد العربية. وفي السنوات الأخيرة، تغلب الانغلاق السياسي لدى الجزائر على انفتاح الرؤية إلى أسبقية وحدة المصير المشترك. سدّت الأبواب بيننا وبين إخواننا الكتاب الجزائريين، الذين تعودنا على اللقاء بهم في الانتقال المباشر بين المغرب والجزائر، أو بيننا وبين طلبة وباحثين كانوا حريصين على التواصل مع أساتذة وباحثين في الجامعات المغربية. أغلقت الحدود ومعها أغلقت الأفكار، مما تسبب في ظهور سلوك متعصب حتى لدى بعض الكتاب الجزائريين. ولن أنسى ما كانت واجهتني به شاعرة جزائرية من عنيف الكلام، خلال مهرجان الشعر بالمهدية في تونس سنة 2016، وصل حد التهديد بأن زوجها وزير، لمجرد قولي، وسط مجموعة من المشاركين في المهرجان، بأني أتمنى أن تفتح الجزائر الحدود.
6.
ما ننتظره الآن هو بشارةُ الأثر. كثير ما كان يجب أن يكون، باسم الحلم في بناء اجتماعي ـ اقتصادي ـ ثقافي مبدع بيننا، في البلدين، وبين المغاربة أنفسهم، عبر مختلف المناطق المغربية. وحدثُ اليوم يعيد الحلم إلى مركز الكلام. فبشارةُ الأثر هي ألا يضيع وقت أكثر لتدارك ما فات والقبض على الحلم بأيدينا جميعاً. خمسون سنة هي عمر جيلين، ومن المستعجل ألا تتسع الفجوة ويتمطط الزمن. ما كنت، ولا أزال، أحلم به تقاسمتُه مع عدد من الشعراء والكتاب والفنانين الجزائريين الذين كانوا، على الدوام، يتخطوْن الموانع لتبقى الكلمة المشتركة بيننا حاضرة. وحدثُ 31 أكتوبر 2025 نداءٌ على الأثر المتجسد في المشترك المبدع، في أفق التحرر من الماضي المؤلم. فالأثر يصبح، بقوة الإرادة، بشارة تحقيق الحلم الذي يمحو ما يكفي من المآسي.
سأظل مشدوداً إلى نقطة الحدود المغربية ـ الجزائرية، على بعد خطوات من وجدة. عيناي مثبتتان هناك، حيث وقفتُ قبل سنوات، تحت الأعلام المغربية وقبالتي الأعلام الجزائرية، فيما أفراد من الجانبين يقفون، يتبادلون إشارة التحية بينهم، وربما كانوا بدورهم يحلمون.
