العلم ليس مجالا للمساومة

العلم ليس مجالا للمساومة

أحمد لعيوني

في أقصى ربوع البادية، حيث تمتد الحقول بلا نهاية، وتتعانق الأرض مع السماء في أفق واحد لا يميزه سوى بعض أشجار الزيزفون والتين المتناثرة في السفح أو فوق التلال المتموجة، ومساكن متفرقة بنيت من قش وقصب، قامت مدرسة صغيرة في بداية استقلال المغرب، تتكون من قسم وحيد من البناء المفكك، ويلتصق به سكن صغير للمعلم. القسم يجمع بين جدرانه أحلام أطفال القرية. كان القسم على تواضعه، هو نافذة هؤلاء الأطفال على عالم أبعد من الحقول، أو مجرى العين القريبة والسموات الرمادية.

في ذلك القسم كان يجلس أحمد، تلميذ في عامه الدراسي الأول، يحمل محفظة قديمة ورغبة عظيمة في التعلم. كان يأتي كل صباح إلى المدرسة بخطوات سريعة. كان بينه وبين العلم وعدا لا يجوز الإخلال به. لا الأمطار ولا البرد ولا المسافة الطويلة التي تفصل بينه وبين المدرسة كانت تمنعه من الوصول في الموعد.

غير أن صباحا بعينه، أعلن بداية عاصفة لم يكن للصبي الصغير ذنب فيها. فقبل ذلك بأيام، وقع خلاف بين المعلم وأخ أحمد الأكبر حول دراجة اشتراها المعلم منه. كان الاتفاق أن يدفع ثمنها في أجل محدد، لكنه لم يفعل. ومرت الأيام، وتجاوز الأجل، حتى خرج الأخ إلى السوق الأسبوعي طالبا الدراجة على سبيل الإعارة لقضاء بعض حاجاته، غير أنه عاد واحتفظ بها، ورفض إعادتها للمعلم، مطالبا إياه بالوفاء بعقد وأداء الثمن.

وفي صباح اليوم التالي، حين اقترب أحمد من باب المدرسة، فوجئ بالمعلم واقفا أمام الباب، حاجبيه ملتحمين في غضب صامت. وبدون مقدمات ولا رحمة، أمره بالعودة إلى البيت.

وقال له بصوت جاف :

“لن تدخل حتى يعيد أخوك الدراجة”

لم يفهم أحمد تماما ما يدور، لكنه شعر بالإهانة تنغر قلبه الصغير أمام زملائه. عاد إلى البيت حائرا، فلما علم الأب بما حدث، اشتعل غضبه.

كان رجلا صلبا كما أقرانه من الفلاحين، ويؤمن بأن المدرسة حرمة. وأن الأطفال لا يجوز أن يستخدموا رهائن لخلافات الكبار.

انزاح الأب عن الشغل الذي كان يقوم به في الحقل، وارتدى جلبابه، وتوجه إلى المدرسة بخطوات مسرعة، وحالة نفسه يعتريها الغضب. وحين وصل، احتد النقاش، وتعالت الأصوات بينه وبين المعلم. اتخذ الخلاف أبعادا أكبر من القضية في أصلها. كان الأب يصرخ :

“التلميذ ما ذنبه ؟ العلم ليس مجالا للمساومة”.

أما المعلم فكان يتشبث بنبرته المتعالية، يرفض الاعتراف بالخطأ.

ولم يجد الطرفان بداً من التوجه إلى مدير المجموعة المدرسية في المركز، البعيد بعدة كيلومترات. سارا مشيا في الطريق راجلين على تراب جاف، تلاحم خلالها غبار البادية مع النفس، حتى وصلا إلى مكتب المدير. وبعد أخذ ورد، وبعد أن سمع المدير الحكاية من الطرفين، أصدر قراره بحزم :

“يعود الطفل إلى دراسته فورا، ولا علاقة له بخلاف الكبار”.

عاد المعلم والوالد معاً، ولكن الجرح في نفس المعلم لم يندمل.

بقيت الغلظة في عينيه، وتحولت إلى رغبة في الانتقام.

صار يعامل أحمد بصرامة مبالغ فيها، يراقب خطواته، يتصيد أخطاءه الطفولية البسيطة، ويقلل من جهوده في القسم. وحين قرب الامتحان، حاول المعلم بكل الطرق أن يثقل على الصبي، وأن يجعله يرسب رغم تفوقه.

كان أحمد بحكم براءته، لا يعرف سوى أنه يدرس بجد ويكافح. لم يكن يدرك أن المعلم ينسج خيوطا حول مستقبله، وأن ظل الحقد يكاد يخنق حلمه. لكن الأقدار، التي تتدخل أحياناً في اللحظات الفاصلة، شاءت أن تكشف الحقيقة. فبفضل زيارة مفاجئة من مفتش تربوي للمجموعة، أطلع على دفاتر التلاميذ، ولاحظ تفوق أحمد الواضح وحسن خطه وإجابات تدل على ذكاء وقوة فهم، أثار ذلك شكه، فبحث في سجلات القسم واكتشف محاولات المعلم غير المنصفة، فرفع تقريرا للمدير الذي بدوره أنصف الطفل.

وفي نهاية السنة، كان أحمد من الناجحين، يقف أمام باب المدرسة بابتسامة عريضة، كأنما يعلن انتصار البراءة على الظلم. لم يكن يعرف عن القوانين أو الخلافات أو التقارير، لكنه كان يعرف شيئا واحداً؛ أن الطريق إلى العلم ليس سهلا، وأن الأقدار تحرس قلب من أحب المعرفة بصدق.

وهكذا واصل رحلته، بثبات أكبر، وإيمان أعظم، بأن النور الذي يسكن الكتب أقوى من حقد الكبار، وأن طفلا محبا للتعليم يمكن أن يهزم الظلم حين تقف الحكمة إلى جانبه، وأن الحق لا يضيع مادام هناك من يرفعه إلى السماء بقلب صادق. كما شعر بأن أباه، رغم فقره وتعبه، كان قوة لا تذبل، وأنه واجه يومها لا لأجل الدراجة، ولا لأجل الخلاف، بل لأجل طفل صغير لا يملك أن يدافع عن نفسه.

شارك هذا الموضوع

أحمد لعيوني

مؤرخ منطقة امزاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!