الفاعل السياسي في مغرب اليوم.. “كائن لا تحتمل خفته”!

الفاعل السياسي في مغرب اليوم.. “كائن لا تحتمل خفته”!

عبد الرحمان الغندور

       إن المتأمل لواقع السياسة وممارستها في مغرب اليوم يجد نفسه أمام لوحة كاريكاتورية ساخرة، لكنها لوحة واقعية قاسية ومؤلمة، تعكس نموذج الفاعل السياسي كما تتشكل معالمه في الواقع المغربي المعاصر. هذا الكائن السياسي ليس مجرد شخصية عابرة، بل هو نتاج تراكمي لبيئة سياسية واجتماعية اختلط فيها الحابل بالنابل، وضاعت فيها المعايير وتشوهت المبادئ، حتى أصبح التناقض سمة بارزة، والانتهازية فضيلة مُعلنة، والازدواجية منهج حياة.

الفاعل السياسي في مغرب اليوم، هو ساحر كلمات، يمتلك قدرة فائقة على التلاعب بالمفاهيم وتشويه الحقائق، فهو لا يكتفي بالانغماس في الفساد، بل يطور خطابًا يقدمه على أنه “ذكاء اجتماعي واقتصادي”، محولاً الرذيلة إلى فضيلة، والانحدار إلى قمة الدهاء السياسي. إنه عملية غسيل أخلاقي منهجي، حيث يُقدَم الخيانة على أنها براغماتية، والاستيلاء على المال العام على أنه كفاءة في تدبير المصالح. إنه لا يسرق فقط، بل يسرق ويجعلك تصفق لعملية السرقة باعتبارها بطولة.

وهو أيضًا سليل التلفيق بامتياز، ينتقل بين الهويات والأدوار بمرونة مذهلة تصل إلى حد الانفصام. فهو السياسي الذي يتحول إلى رجل دين، لكنه رجل دين من نوع خاص، يجهل أبسط أركان دينه، بل ويتجرأ على الافتاء دون حياء، مستخدمًا الدين سلاحًا لتبرير مواقفه السياسية، ومستخدمًا السياسة لتوظيف الدين في خدمة مصالحه. إنه يخلط الأوراق عمدًا، فيقدم ماركس مؤيدًا للشريعة، ويحول الخليفة عمر بن الخطاب إلى أبو الاشتراكية العالمية، في عملية تفكيك لجوهر كل المذاهب والأيديولوجيات وتحويلها إلى خليط هزيل يخدم رغبته في البقاء تحت الأضواء.

لا يتوقف تناقضه عند هذا الحد، بل يصل إلى درجة أن يكون مناضلاً صلبًا في الخطاب، هشًا في الممارسة. يرفع الشعارات الثورية التي تهز المنصة، ولكن سرعان ما يخضع لأتفه المساومات ويرضى بفتات الموائد، منجذبًا برائحة السلطة والمال، متخليًا عن كل ما نادى به في لحظة صدق نادرة. إنه المناضل الذي يتحول إلى تاجر، يبيع ويشتري في القيم والمبادئ، ويبرر كل تراجع بخطاب معقد مليء بالمصطلحات العلمية الزائفة، مدعيًا الموضوعية والمعرفة، بينما هو في الحقيقة يمارس دور المهرج الذي يغني للسلطان بما يحب.

أخطر ما في هذا النموذج هو ذلك الانفصام المريح بين القول والعمل. فهو لا يجد غضاضة في أن يقول شيئًا ويعمل بنقيضه، بل إنه يعيش هذه الازدواجية بضمير مرتاح، وبفخر أحيانًا. إنه لا يرى في ذلك تناقضًا، بل يراه مهارة سياسية وبراعة في التكيف. قوله يكذب عمله، وعمله يكذب قوله، وهو يعيش في وسط هذه الدوامة من الكذب المتبادل دون أن ترتعش له عين. لقد أصبح الكذب جزءًا من نسيجه النفسي، ولم يعد يميز بين الحقيقة والأكذوبة.

الفاعل السياسي اليوم هو من يحسب مواقفه على أساس ما سيدخله إلى جيبه، ويحسب حجم جيبه على أساس المواقف التي يمكن أن يتخذها. إنه معادلة اقتصادية بحتة، خالية من أي بعد أخلاقي أو حس وطني. السياسة لديه ليست وسيلة لخدمة الصالح العام، بل هي مشروع تجاري شخصي، يستثمر فيه رأسماله الأخلاقي المزيف لتحقيق مكاسب مادية فورية.

ولعل أعلى مراتب الدهاء لديه هي قدرته على العيش في حالة من التماهي الدائم مع الضد والنقيض. فهو يتكلم لغة المعارضة وهو في قلب السلطة، منتقدًا بضراوة من داخل المؤسسة التي يفترض أنه جزء منها. وهو، في الوقت نفسه، يتقن لغة الحكم وهو على عرش المعارضة، مدافعًا عن خيارات النظام الذي يزعم مناهضته. إنه يلعب على كل الحبال، ويغني للجميع، ويبكي مع الجميع، دون أن يثير الريبة، لأنه إتقن فن التمويه وأصبح سيدًا في أداء دوري البطل والضحية في آن واحد.

هذا الكائن السياسي المركب لم يولد من فراغ، بل هو نتاج طبيعي لما يمكن تسميته بـ “طنجرة الفساد”، ذلك النظام المغلق الذي يطبخ فيه الفساد بمختلف أنواعه، فينتج هذه النماذج المشوهة التي تفتقر إلى الهوية الأصيلة والمنهج الواضح. إنه يطل علينا دون مناسبة، لأن وجوده نفسه هو المناسبة الدائمة، والناس مع الأسف، لا يتوقفون عن التطبيل له، إما خوفًا أو طمعًا أو انبهارًا بقدرته الخارقة على البقاء. إنه مرآة لمجتمع ما زال يعاني من آفات التخلف والريع وغياب المحاسبة، وهو تجسيد لمرحلة انتقالية عالقة بين ماض لم يتم القطع معه، ومستقبل لم يولد بعد.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!