الكتابة بوصفها شكلا للكفاح الإنساني في رواية “أيتام الجبال” (2/2)
 
						لحسن أوزين
خامسا / قوة اللغة وخصوبة الرمز
الجميل الممتع في رواية الكاتبة السورية نجاة عبد الصمد “أيتام الجبال”، هو ثراؤها الفني والرمزي فهي تحفر عميقا بفضل الصنعة الأدبية العالية الشعرية. وما كان هذا البعد الجمالي ليتحقق لولا قوة اللغة المتحكمة في عملية إنتاج بنية سردية مفعمة بمعاني تنسجها الأساليب اللغوية الحاملة للأبعاد العميقة التي تستهدفها الكتابة. فالتشبث بالحلم، بالسفر لمواصلة الدراسة، باعتباره حقا وجوديا في انتزاع حق الحياة الحقيقية والتخلص من إرث تزوير التجربة الوجودية بالخنوع والخضوع والطاعة ليس للأب كرجل، بل هو مجرد رمز للنظام الأبوي، بقيمه الاجتماعية الثقافية وقهره السياسي.” صرت على الضفة الأخرى من الخوف، كما كاتب مخدوع بشبهة اكتمال روايته. مشغولة باستيعاب أن الأمر حدث، أنني أطير، مشلوحة بين الغيوم، وملامح دمشق تغيم، تتبدد. أفارقها مختارة، وعليها في صدري عتب. لم تحملني ذكرى عناق أب أو أم، أو ذكرى قبلة أولى من حبيب، أو لمسة مشبوبة من يديه على عنقي أو مرور أصابعه بشعري الأسود الطويل. فككت عقدة إيشاربي، انفلت عن رأسي، شعور أشبه بمس كهرباء واخز ومنعش. دسست الإيشارب مجعلكا في جزدان يدي، ولو ينفتح شباك الطائرة لطيرته منه في سماء الشام”. 9
بهذه اللغة الجميلة، القوية في فنية مجازاتها واستعاراتها، يتشكل القطب الجمالي للرواية. لأنها بذلك تجعل من تفاعل القارئ جزءا عضويا من تركيبها الفني. فهي تمنحه فرصة التأويل لما هو مضمر وصريح في لغتها وأساليبها. لهذا يرمز السفر والدراسة في الخارج الى التخلص ليس من الإيشارب في معناه المباشر التقريري، بل يطارد التأويل تلك المعاني الجميلة القابعة في القلب المكلوم، والذاكرة المشبعة بالألم، والجسد المعذب. إن الأمر يتعلق بالاختناقات والانسدادات التي تطاولت مع الزمن في رقعة جغرافية، لها حدود ومحدودية على كل المستويات: المكان، الفضاء، العقلية، البناء الذهني والاعتقادي والفكري والاجتماعي، الموروث الثقافي والديني…
لذلك كان السفر للدراسة خصبا في رمزيته، كفعل خلاق لانتهاك المحظور، وتفكيك رعب التابو، واقتلاع للقيود، و القواعد التي حنطت وجود الجماعة والطائفة، بكم هائل من التابوهات والأحكام البالية الرهيبة في قداستها. وحدّت بشكل رهيب من حرية الأفراد خاصة النساء. “دسست الإيشارب مجعلكا في جزدان يدي، ولو ينفتح شباك الطائرة لطيرته منه في سماء الشام.” 9
لهذا في السفر دلالات قوية للحرية والانطلاق الرحب في الفضاء. حدث هذا بتوسط مادي مثله السفر عبر الطائرة. إنها اللحظة التي تجاوزت فيها الطائرة معناها التقريري، لتأخذ طابعا فني ايحائي و رمزي بالمعنى السميائي للتفكيك والتأويل. وفي طيات اللغة حضور قوي لايحاءات ودلالات فك الارتباط بعوالم القهر والضبط والخوف. والتحرر من سلطة وسطوة الحقيقة النهائية الناجزة والجاهزة المطلقة، في تصوراتها ومعتقداتها وممارساتها الاجتماعية. إن الأمر يتعلق بلحظة سفر وانتقال من قيود وتصلبات وقواعد ثقافة الأجوبة الجاهزة، الى ثقافة الأسئلة والتكوين العلمي. حيث السؤال روح النقد الذي تمارسه الساردة في حق الذات. وتشريح تاريخها الشخصي والاجتماعي، والثقافي والديني لجماعة الدروز الأجاويد. إنها ذاكرة مترعة بالألم الذاتي والجماعي.
بهذا الرواية القوية اللغة والخصبة في رموزها، تفتح سبيل دفتر الحساب العسير على الذات والأخر والبنيات الاجتماعية والثقافية والدينية لطائفة الأجاويد. معلنة بوضوح حق الفرد في خلخلة ومساءلة ونقد الموروث الاجتماعي الثقافي والديني. والتخلص من شروط وظروف ثقافة الخوف التي حجبت نقد ومراجعة التصورات والممارسات الاعتقادية. ومنعت التفكير النقدي لتفكيك المسلمات الدغمائية، وتحرير المكبوت من قيود وسجون الخوف العالية الأسوار المادية والرمزية. القابعة في القلب والعقل والذاكرة. وما يكسب هذه الرواية الرائعة قيمة جمالية ووجودية وإنسانية، هو رؤيتها الفكرية النقدية، وتجذر وعيها بضرورة مد الجسور بين المكونات الثقافية والسوسيولوجية، للتنوع والتعدد الاثني والديني والمذهبي والطائفي. وإطلاق طاقات الحياة والانفتاح وتوسيع الرؤية نحو الذات والآخر والعالم. والخروج من قوقعة الحقيقة المطلقة التي ولدها الخوف في شروط تاريخية اجتماعية.
ورغم فظاعة التوحش الإرهابي الذي تزامنت مجازره في حق الدروز، مع صدور الرواية. فإن ما اكتسبته وحصلته الروائية، من تراكم تاريخي في الخبرات والتجارب، والصبر والتحمل لكم هائل من الآلام والعذابات منذ ولادتها، والنضج الكبير في الوعي. ومن اقتدار فكري وتمكن فني جمالي وأدبي. جعلها كل هذا تنتج وتبدع رواية، ومواقف، قادرة على احتواء واستيعاب جرائم التوحش الإرهابي في حق أهلها والساكنة جميعا. وفي حق الوطن عموما بشكل أو بآخر. لم يكن كل ما حدث من رعب دموي ليقف في وجه الأفق الجمالي والنقدي لرواية نجاة عبد الصمد. وظهر ذلك بشكل واضح في مختلف المواقف وأشكال الفعل النضالي المقاومة للفظيع في أبشع صوره الدموية الطائفية والدينية والاجتماعية. لذلك لم يكن غريبا عن رواية أن تخلق وتبدع امتدادها الاجتماعي والثقافي والجمالي الإنساني في مختلف الممارسات والمواقف والرؤى والأفكار التي عبرت عنها، ومارستها الروائية نجاة عبد الصمد. حدث هذا تبعا لجدل نوعي بين الأدب والواقع الحي، بين الدفاع عن حق الحياة والحرية، والوجود الاجتماعي التاريخي الإنساني لأهلها الدروز، وبين شرعية ومشروعية فعل التفكيك النقدي الذي حملته الرواية في مضامينها الفكرية، بتوسط من قوة لغتها و سحر أساليبها، وخصوبة رموزها، وأدواتها الفنية والجمالية.
في الرواية ما يعبر عن جدل خاص بين الأدب والنقد بمعناه الفني الجمالي، والقيمي الاجتماعي. يتجلى هذا بوضوح في التمفصل التفاعلي بين حق الحلم/ السفر والدراسة، والانطلاق الحر في الفضاء الرحب، من ثوابت اليتم القيمي والاعتقادي الديني، والوجودي الاجتماعي الإنساني. التي تمثلها الجبال في انغلاقاتها الاجتماعية التاريخية، المشحونة بالخواف والعداء للذات/أسرة سبيل، وللآخر والعالم. والتعرف على ثقافات وفضاءات وعوالم، وهويات شديدة الاختلاف عن حياة الجبال الممسوسة بلعنة التقوقع والحذر والخوف.
رواية تجمع بين جمالية شكل يثري ويخدم المعنى والدلالات، وبين مضامين فكرية نقدية. يتجلى هذا العمق الجمالي والنقدي بين ذات تحاسب نفسها بصرامة، عبر سفر نفسي داخلي يغني وينمي الذات وينضج الوعي. حيث تخوض سبيل في التجربة بإرادة شجاعة، ممزوجة بألم فظيع، جفف الدمع،” بكى الشابان على يميني لحظة الإقلاع، ولم يبتل لي جفن، أنا الشريد كابن آوى. ليت لي رفاه دمعة، أشتري بها مددا أو فرجا.”
كما صلب قلبها في المعارك والمواجهة، وقوى من عزمها وإصرار على المضي قدم، في قبول الواقع والتكيف معه. وفي الوقت نفسه التشبث بطلب المستحيل.” لا تهلع ياقلبي، صر حجرا، فلا أحصنة خلفك لتعود وتمتطيها.”11
منذ ولادتها عانت طويلا، من محنة لأخرى، لا تقل عنها ألما وقهرا. لكن ذلك لم ينل من رغبتها في السير في دروب التحدي. هكذا نفهم هذا الترابط الجدلي بين السفر وركوب الطائرة، وبين رمزية الخلاص من حدود ومحدودية يتم الجبال، في انتزاع الحرية. والتمتع بلذة التغلب على كل ما يعيق، ويمنع التحليق واطلاق طاقات الحياة والخيال والأحلام ومعانقة السماء اللانهائية واللامحدود…
هكذا نفهم ذلك الترابط الرمزي والدلالي بين السفر والحرية، بين الطائرة والجبل، بين الذاكرة وتجربة الألم الذاتي الدفين، وقوة الشخصية التي حنكتها تجارب مسارات حياتها المؤلمة والشديدة الصعوبة والتعقيد بين الطموح والقيود، بين الانفتاح والانغلاق. عاشت كل هذا بتحد كبير من معركة لأخرى، في انتزاع حق أن تكون وتصير.
من صفحة لأخرى تتساقط العاهات والتابوهات التي تشربتها مع حليب الطفولة. “صافحني ولم يعانق، كان عناق الصديقة في أعرافنا عيبا.”10 وتتكسر القيود الواحدة تلو الأخرى. وتتفكك التصورات والمعتقدات والممارسة التي أحاطتها البطريركية، بسياج القداسة والسمع والطاعة، مع تحريم وتجريم السؤال النقدي. كما تتعرى القيم الباهتة وتنكشف العلاقات الاجتماعية القائمة على القهر والرفض لبروز الذاتية والفرد. علاقات مشحونة بالحقد والكراهية والاقصاء والمقاطعة الاجتماعية، لكل من سولت له نفسه الخروج من إرهاب الاجماع والقبول العبودي بتزوير التجربة الوجودية في الحياة البشرية. وهذا ما عاشته أسرة سبيل وكل النساء بصورة مرعبة لا أخلاقية ولا إنسانية.
لم يكن صدفة أن تتضافر فنيا كل الانطلاقات نحو عوالم الحرية والسفر والكتابة على أرضية الصفحة الأولى. تلك البدايات التي صنعت ذلك الترابط الفني والجمالي، والرؤية الفكرية النقدية. التي حملتها الرواية شكلا ومعنى. والكاتبة لم تكن تخشى ثمن الفن والنقد، والانفتاح والانطلاق والخروج من قوقعة القبيلة والطائفة وجماعة الدين الذكوري…
أن تبدأ الرواية بهذا المشهد القوي لغة ووصفا دقيقا للعمق النفسي لسبيل. وما اكتنف رحلة الوصول من مشاق وصعوبات. فهذا يعبر عن طبيعة الألم الذي تجذر في النفس البشرية. إنها لحظة مفصلية في التاريخ الشخصي للبنت سبيل. إنها لحظة مكثفة تراكمية لسيرورة الصراع الذي فجرته مغامرة الحلم في أن ترسم وتبصم حريتها واختياراتها، بحرية واستقلالية.
لم يكن سهلا أن تخوض محنة الوجود الاجتماعي وصناعة الكينونة والصيرورة، كأنثى، ابنة أحد الأجاويد، متمردة ومغضوب عليها من طرف الأب، بوصفه تمثيل رمزي للنظام الاجتماعي الثقافي الذكوري. لذلك يمثل المشهد قمة التكثيف للحالات النفسية والآلام لامرأة على حافة ولادة بعدها الذاتي والفردي. في مجتمع قدمته لنا الساردة في تغيراته السوسيولوجية، والثقافية والدينية. فقد غيرت السويداء مكانها، البيئة العمرانية الديمغرافية الاجتماعية. ولم تعد تلك الرقعة الجغرافية المسيجة والمنغلقة، بشكل رهيب. بكم هائل من التقاليد والعادات والتصورات والمعتقدات الصارمة في منع ولادة الذات والفرد، والعلاقات الاجتماعية البديلة. فسؤال التحولات البنيوية والسياسية الحداثية الكولونيالية، اقتحم البلدة في سياق تحولات همت سوريا والمنطقة ككل. لذلك وصلت ريح التغيرات، الى السويداء عبر تجاويف تربتها الاجتماعية والدينية والتعليمية والثقافية. ولم تعد السويداء تقبل بالتوقف أو الرجوع الى الوراء. هكذا تقدم الرواية التحولات وتصف الأمكنة والفضاءات والعلاقات، وما عرفته من تبدلات. وهذا ما مثلته الفتاة سبيل، بوصفها طريقا بديلا للمرور بهذه الحياة. كما أن السويداء غيرت زمانها في التواصل والتنقل و المعرفة. ولم تعد تقبل بتعاليم الأجداد والعلماء الأجاويد، في العلاقة بالذات والآخر والعالم. فكانت رحلة العلم والسفر والطائرة، دليلا واضحا على أن المنطقة غيرت زمانها. إنه زمن آخر يعبر على أن جدلية الانغلاق والانفتاح صارت أمرا محسوما بين البنت والأب، بين السويداء والعوالم السوفياتية. إنه نظام أبوي ذكوري آخذ في تحلل وتفكك أحكامه وقواعده، المشبعة بالتناقض والازدواجية. هذا يعني أن تجربة الألم التي عاشتها سبيل منذ ولادتها، لم يخرج منها الأب سالما. فقد مست التحولات وعي وذهنية الأب، لكن كان صعبا عليه أن يتحول الى دونكشوت سوري يصارع الأجاويد طواحين الهواء. فالنظام الأبوي لا يرحم الأب الذي يهيئ نفسه للتغيير اللاعنفي، للاستيعاب والتجاوز، عوض التكرار القهري لعملية قتل الأبناء واجترار تاريخ الركود الآسن، أو الاضطرار لقتل الآباء وإعادة إنتاج الهمجية. وهذا ما جعل سبيل تجتاف الأب، وتستبطنه، حيث لم تستطيع التخلص منه نهائيا، بل تعاملت معه من زاوية نقدية باعتباره يحمل جزءا مشرقا في سيرورة تيسير عملية التحولات والصراعات والآلام التي عاشتها. ” أستبسل كي لا أجهز عليه وأنا أودعه، أنا ابنته وشبيهته كما لو أنه عطس فنزلت من أنفه على صورته، شبيهة وعدوة انسلت من صلبه في لحظة حب اقتنصها في غفلة من عين الله.”13
فقد رافقتها في رحلة التخلص من عقد وقهر وحقد وانغلاق مجتمعها عقدة الذنب والتأثيم، كوصم سيء: التمرد والعصيان. ” أرقني ألم فظيع في يدي اليسرى، خلته نذير شلل، يهجم ليقتص مني فداء لعافية أبي… لطالما ارتعبت أمي من أن يشل أبي من فرط عصياني.”22
لم تكن هذه المعاني لتتشكل لولا اللغة الشعرية الغنية بالتعبيرات المجازية، المعبرة عن صنعة شكلية فنية في خدمة المعنى. ولها القدرة على استثمار الكنايات والاستعارات والتوريات، التي تقول و تلمح الى أشياء كثيرة مضمرة، مخفية في طيات وشقوق الشكل السردي الروائي. خاصة في توظيفها للمفردات الحاملة لذاكرة تاريخية في الظلم والقهر: لست ابنته، الإيشارب، الظلال الباهتة، الأسوار والجدران العالية، وأشكال الحجاب، ومختلف أنواع التغلب الاضطهادي، الثقافي والاجتماعي والديني. ليس فقط في حق النساء، بل أيضا كعبء ذكوري مؤلم يثقل كاهل الرجال. وهذا ما قساه، واحترق بنار ألمه ومعاناته وعزلته أب سبيل، لأنه سلك طريق التمرد والعصيان وانتهك قواعد ومحرمات النظام الأبوي الاجتماعي الثقافي، في انتصاره، بشكل ما، لحلم ابنته.
سادسا/ تكامل السيرة الذاتية مع الشكل السردي الروائي
تتشكل الرواية في حركتها السردية، تبعا لإيقاع زمني، تتحكم في مساراته ذاكرة موشومة بحرقة الأسئلة والتشبث الجنوني بالحلم. ذاكرة مثقلة بعذابات تجارب الألم النفسي والاجتماعي والديني والجندري. ومن جهة أخرى هي ذاكرة يقظة واعية ناضجة في خبرتها وتجاربها ونظرتها للذات والآخر والعالم. تعرف وتعي التعدد والكثرة التي صارتها عبر تاريخها الشخصي والاجتماعي التاريخي. فقد صارت في تعددها تمتلك أصواتا داخلية في النظر النقدي، والتفكيك والتعبير في قراءتها، الآن هنا، للماضي. وفي فهمها ووعيها بجسامة مسؤوليات الحاضر في التباساته التفاعلية مع كل مرحلة من حياة الساردة. فهي ليست ذاتا جاهزة وناجزة ونهائية، كما يريدها المجتمع النمطي: الطائفة، بيئة الجمود في عزلة الجبال وانغلاقها، المعتقد المتحجر، بل هي ذات احترقت وتألمت وعاشت طويلا تجربة القمع والقهر والسجون الثقافية الاجتماعية والدينية. لقد كونت وبنت نفسها بالصبر والتحدي والمقاومة، لحظة بلحظة، في سيرورة تاريخ شخصي ومجتمعي حارق ومؤلم وفظيع.
وقد عبرت الرواية عن هذا النضج فنيا وفكريا، من خلال، تقنيات السرد الروائي الحداثي. حيث التعدد الصوتي نابع من تجربة الألم في تشكيل الذات وبنائها. وذلك تبعا للتمرحل التاريخي للذات من الماضي البعيد، مرورا بمحطات نوعية في وعيها بذاتيتها وبروز حق ولادتها كفرد تصارع في جوفها استيعاب الأب عوض التفكير في قتله. الأب الذي تألم بصمت القربان في تقديم نفسه أضحية لعملية التغيير، والانتهاك والخلخلة والتقويض الذي مارسته سبيل.
وهذا ما جعل الرواية تتجاوز البعد السير ذاتي، الى توظيفها الشكل الروائي. فقد تميزت جدليا بالذهاب والإياب الزمني من الماضي الى الحاضر، أو العكس. متنقلة في أجواء وفضاءات مختلفة، بين الطفولة والدراسة والمنفى. وهذا التعدد الصوتي والتقطيع الزمني يتلازم وعملية البناء والاستيعاب التدريجي للتجارب والمحطات الحياتية التي ساهمت في بنائها الشخصي وتكوينها الذهني. هذا يعني أن الساردة لا تتذكر ولا تسترجع، بقدر ما تعمل على إعادة بناء ما تعتقد أنه الأساس الذي وجه وحدد المسارات. وصنع الوقائع وخبر الحياة في تجاربها، وساعد في تحمل المعاناة والآلام التي منحت الذات وجهة، نظرة، تفكيرا، وعيا، دون آخر. في هذه الكثرة والتعدد الصوتي الذي صارته الذات، وفي هذه العودة للماضي بعيون الحاضر، في هذا الاشتغال للذاكرة النازفة المجروحة ألما وعذابا بين الاسترجاع والعيش من جديد بتوسط الشكل الروائي، ما يدل أن الذات في هويتها السردية والتاريخية ليست وليدة اليوم. وبعيدة عن الجاهزية والقولبة النمطية التي كرسها ورسخها النظام الأبوي الذكوري.
إننا أمام ساردة تعي أبعادها النفسية والاجتماعية والثقافية، ولا تخشى تعرية ذاتها في قوتها وهشاشتها، في محنها وآلامها وصبرها، في عرضها لتجارب الانكسار والخيبات والخذلان والتحطيم، وفي اعتزازها بالمقاومة والنجاح والسيطرة على الذات والواقع. إنها تمارس عريها الذاتي عبر السرد والوصف والحوار، عبر التفكير النقدي والتأمل الصوفي العميق. تأتي إلى الكتابة بجرأة عالية في الوضوح والانكشاف والتعري، وذلك لتقوى وبمصداقية فنية وأخلاقية نقدية على تعرية الآخرين. خاصة واقعها المحلي المشحون بالانغلاقات والقيود والمحرمات المادية والرمزية الثقافية والدينية، والاجتماعية والسياسية، التي سطرها المقدس البشري.
هذا الإدراك والوعي بتعدد الذات في مساراتها التاريخية الشخصية والاجتماعية. الى جانب قدرتها الفنية السردية على تحقيق التفاعل والبناء الجدلي لهويتها السردية والوجودية الإنسانية، بين المحطات الزمنية لمراحل حياتها، جعلها توظف تقنيات الشكل السردي الروائي لإنتاج المعاني وتوليد الدلالات. تنجز هذا من خلال لغة تحمل تعددا من نمط آخر، بين لغة البوح، والكشف الداخلي للآلام الدفينة، والاستبطان النفسي العميق. ولغة التأمل والتفكير النقدي في سيرورة حركة تطور واقع محلي وطني، لم يعد قابلا للتعليب والقمع والانغلاق والقهر، باسم الموروث الثقافي والاجتماعي والديني. وفي هذا البناء الفني السردي ما يدل على أن هناك تلازم بنيوي بين الإيقاع الفني السردي ونضج الرؤية الفكرية النقدية. هذا يعني أننا أمام سيرة روائية تشهد على نفسها والواقع الحي والمجتمع والثقافة والتاريخ والاعتقاد الديني. إنها رواية تؤرخ لنضج ووعي الذات عبر محطات تاريخية نوعية في حياتها. لذلك لم يكن السرد معنيا بالحبكة والأحداث بشكل رئيسي، بقدر ما كان منشغلا ومهتما ومعنيا بتحولات الذات، في تجاربها، آلامها، عذاباتها الحارقة والنازفة، صبرها، تحملها، مقاومتها وتحدي للصعاب. لهذا ركزت على سيرورة تطور وعيها. الى جانب الضرورة التاريخية لخروج الجماعة من شرنقتها، التي تزيد من تفككها الداخلي وتجعلها سهلة للتشظي والتمزق.
ولعل في هذا النضج الفني في مقاربة مسارات وتحولات الذات في علاقاتها الشديدة التركيب والتعقيد بالقيم الاجتماعي والثقافية، وبالبنى المادية والرمزية والدينية للمجتمع، بتوسط لغوي جمالي وأدوات فنية ورمزية، ما ساهم في قدرة السرد الفني الجمالي، على استثمار و توظيف نقد الواقع، باعتماد الشكل الروائي في خصائصه الفنية الجمالية، والمعنوية والفكرية. لذلك لم تكن الأيديولوجيا حاضرة بوصفها شرا لا بد منه، بل باعتبارها مكونا فني أدبي جمالي.
سابعا/ وماذا بعد؟
” القديم ينهار والجديد لم يولد بعد، وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الضارية” غرامشي
بعد أن قرأت الرواية وكتبت عنها مقالة الجزء الأول، صارحت الكاتبة في أحد الحوارات التواصلية بالتفاعل الذي وقع بيني وبين روايتها. قلت في ذلك إنني قرأت الكثير من الأعمال التي تميزت بحالات نفسية إنسانية مؤلمة ومؤثرة، وتفاعلت معها أخلاقيا وإنسانيا وأدبيا. خاصة تلك المتعلقة بأدب السجون. لكن رواية أيتام الجبال كان لها وقع وتأثير خاص. حيث حاصرني شعور حزين ومؤلم الى درجة أن حالة نفسية مجهولة الأسباب في دواخلي العميقة، فجرت رغبة البكاء. وتساءلتُ كثيرا عن سر التفاعلات أو التقاطعات، التي حدثت بين القراءة والرواية. وما الإشارات التي التقطها دون وعي مني، لا وعي القراءة، يعني منطقة مجهولة من ذاتي؟ ورغبة في فهم ما حصل أعدت قراءة الرواية لأكثر من مرة وبقي اللغز محيرا، الى حدما، ربما كان لتقاطع التجربة التي عشتها في الغربة، و الهجرة الاضطرارية للدراسة في مدينة ثلجية شديدة البرودة، دورا في ذلك.
وإذا كنت قد قلت في ذلك الحوار البسيط أن الواقع الذي تعيشه المنطقة، سوريا تحديدا، يعيق الرؤية النقدية الكامنة في الرواية. خاصة في نقدها بشكل صريح الانسدادات والانغلاقات التي سيجها الأجاويد إلهيا بالمعتقدات والتصورات والممارسات الدينية والجندرية البشرية، الاجتماعية والثقافية. وأنه لم يعد مقبولا اليوم، كما ترى الرواية، السماح للصمت والقمع والإخضاع أن يفرض سلطته الترهيبية، والقمعية في وجه التغيير والتحولات، التي صار من الضرورة التاريخية أن تنخرط فيها السويداء سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا وجندريا. فإن واقعيتي المبنية على الشروط والظروف التي تُصعب وتُعقد من السير قدما في هذا الأفق المستقبلي، مهما كان الثمن. تختلف عن رؤية نجاة عبد الصمد التي كانت أنضج وأعمق، حيث لم تكتف بالنظر الى الواقع الحي وما يحيط به من ملابسات، وشروط موضوعية. فقد جسدت الموقف نفسه في التعلق بالحلم والحرية والانطلاق في السماء، الفضاء الرحب دون خوف من الفظيع. لهذا عندما ظهرت الوحوش الضارية وارتكبت مجازر فظيعة في حق السويداء وأهلها، لم تتوقف ولم تتراجع، بل مارست المعركة المزدوجة. نقد الذات وتفكيك التابوهات المقنعة بالقداسة، ورفض التوحش الإرهابي في تحديد وصناعة مستقبل المنطقة والوطن عموما.
كم هي جميلة تجربة الألم التي عاشتها الكاتبة، لذلك جاءت كل كتاباتها استجابة لتحديات واقع قهري ظالم وفظيع. كما أن الحزن النبيل الذي يسري في عروق الرواية، نابع من قوة ونضج ووعي الكاتبة بضرورة اليقظة، أثناء الاشتغال على الكتابة بوصفها شكلا للكفاح الإنساني .
________________________________________________________________________________________________
نجاة عبد الصمد، رواية ”أيتام الجبال”- منشورات ضفاف وسامح والاختلاف، الطبعة الأولى 2025.

 
				 
				 
				 
				 
				 
				