المؤتمر الدولي الأول حول التكنولوجيا الرقمية.. صون الهوية والثقافة الوطني
بيان:
انعقد المؤتمر الدولي الأول “للتكنولوجيا والرقمنة: صون الهوية الثقافية الوطنية” بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمدينة قلعة السراغنة، بمبادرة من هذه الأخيرة ومؤسسة كش بريس الإعلامية أيام 20 و 21 و22 نونبر 2025، بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين الخبراء، في ظرف تاريخي بالغ الحساسية. ظرف تتجاور فيه قوة التحول الرقمي مع اضطراب المعايير التي تنظم الذات والمجتمع. لقد تحولت التكنولوجيا من مجرد أدوات إلى فضاءات تعيد تشكيل الوعي، وتعيد ترتيب علاقتنا باللغة والذاكرة والانتماء. وفي خضم هذا التحول الكاسح، تتكشف فجوات واسعة بين ما تعد به الرقمنة من آفاق، وما تفرضه من مخاطر على المعنى والقيم وروابط العيش المشترك. هنا بالضبط يغدو سؤال الهوية ضرورة وجودية، ليس لحماية الماضي فحسب، بل لضمان استمرار السردية الوطنية في عالم يعيد إنتاج الإنسان والثقافة وفق قوانينه الخاصة. لقد أظهر هذا المؤتمر، من خلال غنى المداخلات وتعدد الحقول البحثية المشاركة، أن حماية الهوية الوطنية في العصر الرقمي لا تتحقق بالممانعة، ولا بالتقليد الأعمى، بل بقدرة نقدية خلاقة تستثمر التكنولوجيا لتقوية الذات لا لتفكيكها، ولتوسيع أفق المواطنة لا لتشتيتها. إن الهوية، في هذا التصور، ليست جوهرًا جامدًا يتهدد بالاندثار، بل هي سيرورة حية تُعاد صياغتها باستمرار، ويصبح الفضاء الرقمي اليوم أحد أقوى ميادين تشكيلها أو إضعافها.
ومن هنا، تتقدم هذه التوصيات كإطار استراتيجي وطني يربط بين الثقافة والقانون والتعليم والسيادة الرقمية، ويجعل من التحول الرقمي مشروعًا مواطنًا يستند إلى الحقوق والحريات، ويحفظ للإنسان المغربي مكانته في عالم تتداخل فيه الحدود بين الواقعي والافتراضي، وبين المعرفة والقوة، وبين الإبداع والتوجيه.
هذه التوصيات ليست خاتمة، بل بداية لمسار يحتاج إلى تضافر المؤسسات العلمية، والفاعلين السياسيين، والهيئات الحقوقية، ومنتجي المحتوى، من أجل تأسيس رؤية وطنية ناضجة توازن بين مقتضيات الحداثة الرقمية وضرورات الاستمرار الثقافي، وتضع المغرب في موقع الفاعل لا المتلقي، وفي موقع المبدع لا المستهلك.
توصيات المؤتمر الدولي الأول حول “التكنولوجيا والرقمنة: صون الهوية الثقافية الوطنية”:
أولاً: في حماية الهوية الثقافية الوطنية
*وضع ميثاق وطني للهوية الرقمية يحدد المبادئ الناظمة لحضور المغرب الثقافي في الفضاء الرقمي، ويضمن حماية اللغات الوطنية، والذاكرة المشتركة، ورموز الهوية الجماعية.
*إطلاق برنامج وطني للأمن الثقافي الرقمي لرصد التهديدات الموجهة للهوية، ومقاومة نزعات التذويب الثقافي، وتعزيز السردية المغربية في الفضاء الافتراضي.
*تعزيز الإنتاج الثقافي الرقمي المحلي من خلال دعم المنصات، وصنّاع المحتوى، والمشاريع السردية الرقمية التي تعكس التنوع الثقافي المغربي.
ثانيًا: في التربية والتعليم والجامعة
*إعادة تصور وظيفة المدرسة في عصر الذكاء الاصطناعي عبر إدماج التربية على التفكير النقدي، والذكاء العاطفي، والتربية الرقمية، بدل الاقتصار على المعارف التلقينية.
*إحداث وحدات جامعية ودراسات عليا متخصصة في فلسفة التكنولوجيا، القانون الرقمي، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، لإنتاج معرفة نقدية قادرة على مواكبة التحول الرقمي.
*تطوير مناهج مجددة لدمج المهارات الرقمية والابتكار ضمن المسارات الدراسية بشكل يراعي الخصوصية الثقافية.
ثالثًا: في التشريع والحقوق الرقمية
*تحيين الإطار القانوني الوطني ليشمل حماية الذكاء الاصطناعي الموجه للحياة اليومية، وحقوق المستخدمين، ومسؤوليات الشركات الرقمية الدولية والمحلية.
*تعزيز حماية المعطيات الشخصية وضمان الحق في الخصوصية والحق في النسيان الرقمي، بما يتناسب مع تحديات اقتصاد البيانات الضخم.
*إقرار مدونة للأخلاقيات الرقمية تُوازن بين حرية التعبير، ومحاربة خطاب الكراهية والتضليل والتحرش الرقمي.
رابعًا: في الحقول المعرفية والفكرية
*تشجيع البحث في أثر التكنولوجيا على الهوية والإنسان من منظور فلسفي وأنثروبولوجي وسوسيولوجي، لتكوين وعي نقدي جماعي تجاه التحولات الرقمية الكبرى.
*إنشاء مرصد وطني لتأثير الرقمنة على القيم الاجتماعية يراقب تحولات الذوق، وأنماط الاستهلاك الثقافي، وأشكال التعبير الجديدة.
*إدماج البعد الديني والمقاصدي في فهم التكنولوجيا بما يضمن التوازن بين الحداثة الرقمية والثوابت الروحية للمجتمع.
خامسًا: في اللغة والتراث والمعرفة
*رقمنة التراث الوطني بمختلف مكوناته (العربي، الأمازيغي، الحساني، اليهودي المغربي…) وتوفير مكتبات رقمية مفتوحة للباحثين والعموم.
*تعزيز استعمال اللغة العربية والأمازيغية في الوسائط الرقمية ودعم تطوير الذكاء الاصطناعي باللهجات واللغات الوطنية.
*تشجيع مبادرات السرد الرقمي التي توثق الذاكرة الجماعية وتعيد كتابة القصص الوطنية بلغة العصر.
سادسًا: في الإعلام والاتصال والمجتمع
*إصلاح شامل للمنظومة الإعلامية الوطنية بإدماج الذكاء الاصطناعي كأداة للتدقيق والتحليل، ومنع احتكار المنصات الأجنبية لفضاء التداول العمومي.
*التربية على المواطنة الرقمية لمحاربة السلوكيات غير الأخلاقية (التنمر، التشهير، التشويه)، ولترسيخ قيم المسؤولية في التواصل الرقمي.
*تعزيز حضور الخطاب العلمي حول الرقمنة في الإعلام، لمحاربة الخرافة الرقمية ونظريات المؤامرة.
سابعًا: في الحكامة والسيادة الرقمية
*تقوية السيادة الرقمية للمغرب عبر تطوير أدوات وطنية للذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والمعالجة اللغوية، والتخزين الآمن للبيانات.
*اعتماد استراتيجية وطنية للأمن السيبراني ترتكز على التوقع والوقاية وحماية البنية التحتية الرقمية للبلاد.
*دعم الابتكار المحلي بتشجيع المقاولات الرقمية الناشئة، والحاضنات الجامعية، وتبسيط مساطر التمويل.
ثامنًا: في العدالة الرقمية والمساواة
*تقليص الفجوة الرقمية بين الجهات عبر تعميم البنيات التحتية الرقمية، وضمان الولوج المنصف للتكنولوجيا في القرى والمجالات الهشة.
*تمكين النساء والشباب من الفرص الرقمية الجديدة عبر برامج للتكوين والبحث والابتكار.
*تطوير خدمات الدولة الرقمية لضمان الشفافية، وتقوية الثقة في المؤسسات، وتحسين علاقة المواطن بالإدارة.
خلاصة
هذه التوصيات تضع المؤتمر في موقع مبادر لوضع “أجندة وطنية” لحماية الهوية المغربية في زمن الذكاء الاصطناعي، وتجمع بين المقاربة الثقافية والسياسية والحقوقية والتقنية، كما تتناغم مع طبيعة المداخلات التي قدّمتها.
ونأمل أن تتواصل جهود هذا المؤتمر في مواكبة هذه التوصيات وتعزيزها، بما يخدم ترسيخ الوعي الرقمي وحماية الهوية الوطنية في زمن التحولات المتسارعة. كما نرجو أن تستعيد النسخة الثانية من هذا الحدث العلمي زخم النقاش وجرأة الأسئلة، وأن تمضي أبعد في الرهان على بناء ثقافة تكنولوجية راسخة، قادرة على تحويل الرقمنة من تحدٍّ إلى فرصة لبناء مستقبل معرفي ومجتمعي أكثر اتزانًا.
حرر في قلعة السراغنة بتاريخ: 22 نونبر 2025
