المباحثات الروسية – السورية: براغماتية المصالح وتوازنات المرحلة الانتقالية

د. زياد أسعد منصور
المباحثات بين الرئيس فلاديمير بوتين والشرع كانت طويلة ومعمّقة. ويُتردد أنها استمرت نحو خمس ساعات كاملة
في الحقيقة، طُرحت خلالها جميع القضايا الجوهرية، ونوقشت بانفتاح وموضوعية، انطلاقًا من مصلحة البلدين المشتركة.
الهواجس كثيرة، ولائحة المطالب والمطالب المضادة طويلة أيضًا، إلا أن أبرز النقاط التي طُرحت يمكن تلخيصها بما يلي::
1. مصير قاعدتَي طرطوس واللاذقية:
جرى نقاش مطوّل حول مستقبل القاعدتين والاتفاقيات المرتبطة بهما. فروسيا تعتبر وجودها فيهما ضرورة استراتيجية لتأمين مصالحها في البحر المتوسط، وإفريقيا، وليبيا. ويبدو أن النقاش في هذا الملف قد جُمّد مؤقتًا بانتظار تنفيذ التعهدات المتبادلة وإظهار حسن النوايا، مع الإبقاء على الوضع الراهن كما هو عليه (Status quo).
2. مصير الأسد:
ستُعالج هذه القضية بطرق أخرى. فروسيا لا تريد أن تظهر بمظهر من يتخلى عن من طلب حمايتها، كما لا تريد أن تبدو في الوقت نفسه وكأنها تناقض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو مبادئ العلاقات الدولية.
لروسيا تاريخ طويل في عدم التخلي عن حلفائها؛ ومن الأمثلة على ذلك الرئيس الأفغاني الراحل بإبراك كارمال، وعدد من القادة والضباط الأفغان، والرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، وبعض رؤساء اليمن والأمناء العامين للحزب الاشتراكي اليمني، إضافة إلى قيادات كردية كانت معارضة للرئيس العراقي صدام حسين، ومعارضين سوريين يساريين وغير يساريين.
وبالمناسبة، فإن الولايات المتحدة تتبع السياسة نفسها مع الأفغان الذين فرّوا من بلادهم عقب انسحاب جيشها من أفغانستان.
3. أموال النظام السابق:
القضية الأهم التي أُثيرت هي مسألة استعادة أموال وثروات الرئيس السابق والمقرّبين منه، والتي تُقدَّر بمليارات الدولارات. فهذه الأموال، وفق المباحثات، أهم في الوقت الراهن من أي قضية أخرى، لأن سوريا بحاجة ماسة إلى الاستثمارات والسيولة لاستعادة عافيتها الاقتصادية.
كما نوقشت قضية الضباط المتورطين فعليًا في جرائم القتل والإخفاء القسري، غير أن استعادة الأموال المنهوبة اعتُبرت أولوية تفوق مسألة الأسد نفسه، الذي سيصبح في نهاية المطاف مجرّد أثر بعد عين إذا استُعيدت تلك الأموال.
4. الدور الروسي في إعادة الإعمار:
حظيت هذه النقطة بنقاش معمّق، إذ تمتلك روسيا خبرة تمتد لأكثر من سبعة عقود في سوريا. وتركّز الحوار على مشاريع إعادة تأهيل البنى التحتية من مطارات وسدود ومحطات طاقة ومصافي نفط، إضافة إلى تعزيز الاستثمارات الروسية وإعادة الميزان التجاري إلى سابق عهده، وتفعيل تبادل البعثات العلمية والطلابية.
وللمقارنة، يسهم رأس المال الروسي اليوم في إنعاش اقتصادات مهمة في دبي، وفيتنام، والصين، والمجر، وسلوفينيا، وتركيا، فضلًا عن الدول ذات العلاقات التاريخية مع الاتحاد السوفييتي السابق.
5. الملف الأمني: المقاتلون الأجانب المطلوبون لروسيا
يُعدّ هذا الملف من أخطر ما طُرح في المباحثات. فقد طلبت موسكو من دمشق استعادة عشرات المقاتلين المطلوبين للدولة الروسية، من الشيشان والداغستان والأذريين ومقاتلي آسيا الوسطى ومناطق ما وراء القوقاز، ممن نفذوا عمليات إرهابية داخل روسيا الاتحادية.
كما أُثيرت قضية المقاتلين الأوكران الذين شاركوا في القتال ضد القوات الروسية خلال حكم الأسد، وارتكبوا أعمالًا إرهابية داخل الأراضي الروسية في فترات مختلفة.
6. الدور الروسي المستقبلي في استقرار سوريا:
حظيت هذه النقطة باهتمام خاص، إذ تسعى روسيا لتأمين الاستقرار السياسي والأمني في مناطق الأقليات، ولا سيما في الساحل السوري، ووادي النصارى، والسويداء، إضافة إلى دعم جهود التفاهم مع الأكراد.
تشكل روسيا ضمانة فعلية لتوفير المناخات الملائمة لانطلاقة النظام الجديد في المرحلة الانتقالية الحساسة، لما لها من نفوذ على العديد من قوى المعارضة، ورغبة في تحقيق توازن داخلي يمنع أي انفجار قد يهدد استقرار المنطقة بأكملها. وهذا كان في صلب المباحثات.
7. توازنات النفوذ الإقليمي والدولي:
رغم احتفاظ سوريا بحقها في إدارة شؤونها الداخلية بما يراعي مصالحها، فإن المباحثات لم تتجاهل حجم النفوذ الروسي وقدرته على التأثير في اللاعبين الإقليميين الأساسيين، ولا سيما تركيا وإسرائيل، بسبب العلاقات الاقتصادية والمصالح المتبادلة مع كل منهما.
كما تمت الإشارة إلى العلاقات المتقدمة بين روسيا وكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين يُتوقع أن تكونا المساهم الأكبر في إعادة إعمار سوريا الجديدة.
وفي الوقت نفسه، تسعى موسكو إلى رسم خطوط واضحة لتقاطع المصالح بينها وبين الولايات المتحدة، لضمان صيغة جديدة من التفاهمات التي تراعي مصالح الدولة السورية من دون الإضرار بمصالح الدول الأخرى، رغم المساعي الأوروبية المستمرة لإقصاء روسيا عن موقعها في سوريا، وتحريك دول كأوكرانيا تحت شعار “التجانس في المواقف” ضد النفوذ الروسي.
في نهاية المطاف، يتأكد أن البراغماتية والواقعية تنتصر دائمًا في العلاقات بين الدول، على حساب الشعارات الطنّانة التي تطلقها الجماعات خلال الحروب والأزمات.