المدرس الذي لم يغب

المدرس الذي لم يغب

أحمد لعيوني

في الدوار الصغير، القابع في منطقة نائية. كانت الأرض تمتد على سهل. لا شيء يكسر الصمت سوى صياح الديكة وخطى الفلاحين مع الفجر، التي تتقاطع مع وقع حوافر الدواب، وخروج القطعان إلى المراعي، واختلاط رائحة التراب بالمحاصيل الموسمية. في قلب هذا العالم البسيط، قامت قاعة دراسية وحيدة، بداية حصول المغرب على الاستقلال. هي أشبه بغرفة من نور وسط العتمة، تجمع أبناء الدوار تحت سقف واحد، وتفتح لهم نافذة على المعرفة والأمل.

هناك كنا خمسين تلميذاً، نحشر أحلامنا الصغيرة في مقاعد خشبية ضيقة، ونتقاسم الدفتر والسبورة والدهشة نفسها. خمس سنوات متتالية جمعتنا، لم يتخلف منا أحد، ولم يكرر السنة أحد. لم نلحظ تفوقا خارقاً ولا نظاما صارماً، بل لأن القاعة بقيت وحيدةً منفردة تجمعنا، ولم يضف لها شيء طيلة تلك الأعوام. ويستمر سير الكوكبة دون تعطل، لأن الإرادة كانت أقوى من الأعذار.

وكان لنا مدرس واحد، ظل معنا كما تظل الشجرة في الحقل، لا تبدلها الفصول. خمس سنوات وهو يدخل القسم في الموعد نفسه. يحمل طبشوره كمن يحمل رسالة. يعلمنا العربية لنفهم أنفسنا. والفرنسية لنفتح نافذة على العالم. كان أباً حين نخطئ، وصارماً حين نتكاسل. يعرف كيف يوازن بين العاطفة والانضباط، فلا يهين كرامة طفل، ولا يترك خطأً يمر بلا تصحيح.

كبرنا معه، وكبر معنا. في المستويين الأخيرين، حين بدأ بعضنا يشبه الرجال صمتاً ونظرات، عاملنا كأصحاب رأي، دون أن يخل بالعدل بين الجميع. كان يعرف أسماءنا واحداً واحداً، ويحفظ طباعنا، ويقرأ في عيوننا ما نعجز عن قوله. لم يكن التعليم عنده تلقينا فقط، بل تربية للروح قبل العقل.

لم يتغيب يوما واحداً طيلة تلك السنوات الخمس. كان يقطن بعيداً عن المدرسة بخمسة عشر كيلومتراً، يقطعها كل صباح على متن دراجة نارية إيطالية الصنع، تشق مسلكا ترابيا لا يعرف الإسفلت. وفي الشتاء، حين تتوحل الطريق ويشتد المطر، كان يصل مبتل المعطف، أو يأتي راجلا، يسبقنا إلى القسم كأن التعب لا يعرف اسمه. كنا ننظر إليه بإعجاب صامت، ونتعلم، دون أن ندري، معنى الالتزام والوفاء للعمل.

كان المعلم الذي لا يعلو صوته، ولكن أثره يعلو في القلوب. يدخل القسم بخطى هادئة، كأنه لا يريد أن يوقظ غير المعرفة النائمة في العقول الصغيرة. لم يكن التدريس عنده مهنةً تؤدّى، بل رسالة تُحسن نيتها قبل أدواتها، وتُتقن تفاصيلها قبل نتائجها. كان يؤمن أن الطفل أمانة، وأن الكلمة الأولى قد تصنع مستقبلا كاملا.

أحسن عمله وأتقنه، لا لأن أحداُ كان يراقبه، بل لأنه كان يراقب ضميره كل صباح. يهيئ دروسه بعناية، ويشرح بصبر، ويعيد الشرح عشرات المرات دون ضجر. إذا أخطأ تلميذ لم يخرجه، بل قاده إلى الصواب كما يقاد طفل في طريق وعر. كان صارماً حين يلزم الحزم، رقيقاً حين يحتاج القلب إلى الطمأنينة، فجمع بين الانضباط والإنسانية في توازن نادر.

لم يكن مردوده مجرد نقط في دفاتر أو شهادات نهاية السنة، بل عقولاً صارت تفكر، ونفوساً تعلمت احترام نفسها والآخرين.

مرت السنوات، وتفرقنا في دروب الحياة. لكن كثيرين منا تابعوا دراستهم في الثانوي ثم في الجامعة دون عناء يذكر. لم نشعر يوماً بنقص، ولم تهزمنا المقارنة مع أبناء المدن. كان مستوانا يضاهي من تعلموا في مدارس تتوفر فيها الوسائل والخرائط والمختبرات. أدركنا حينها أن الأساس المتين لا تصنعه الجدران ولا التجهيزات، بل يصنعه معلم يؤمن برسالته.

كبر التلاميذ، وبقي المعلم في مكانه، كما تبقى المنارة واقفة حتى بعد أن تغادرها السفن. كانوا إذا صادفوه في الطريق يسبقهم إليه السلام، ويتقبل تحياتهم بفرح لا نظير له، كما تلين أصواتهم احتراماً، لا خوفاً. يكنّون له تقديراً صادقاً في حياته، لأنهم عرفوا أن ما أعطاهم لم يكن واجباً فقط، بل فضلاً وإخلاصاً.

ذلك المدرس لم يترك لنا مجرد دروس في اللغة والرياضيات، بل زرع فينا احترام المعرفة، وحب الاجتهاد، والإيمان بأن الطريق الوعر قد يقود، أحيانا، إلى أبعد الأحلام. وما زالت صورته، وهو يدخل القسم بوجهه الهادئ ودفتره البسيط تسكن ذاكرتنا كدرس لا يُنسى في معنى التعليم الحقيقي.

إنه يستحق منا تكريما لائقا بذكره طيلة حياتنا بما زرعه في النفوس : كلمات صادقة، وذكريات وفاء تحولت إلى دروس تروى للأبناء. إن المعلم لا يموت حين يتوقف قلبه، بل حين يُنسى. وهذا المعلم لم يُنسَ، لأنه أتقن عمله، فأحسن الحياة في قلوب تلاميذه، وبقي حياً فيهم ما بقوا.

شارك هذا الموضوع

أحمد لعيوني

مؤرخ منطقة امزاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!