المسرحية الاحتفالية بين الحد الصوفي والحد السوريالي
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
يقول المواطن الاحتفالي في الوطن الاحتفالي، والمؤمن بالوحدة مع التعدد، والمؤمن بالاختلاف الإنساني والمدني، والمؤمن بالوجود الحاضر هنا، وبالوجود الغائب هناك ما يلي:
“هناك بالتأكيد عالم آخر خلف هذا العالم، وهناك وجود آخر غير هذا الوجود، وهناك حياة أخرى يمكن أن تكون أصدق من هذه الحياة. وبالتأكيد فإن ما هو غائب هنا، يمكن أن يكون حاضراً هناك، وإن ما هو مجهول عند الأميين يمكن أن يكون معلوماً عند العلماء والحكماء، وإن ما هو غامض اليوم يمكن أن يكون واضحاً غداً أو بعد غد. ولا وجود لأي شيء -في كل كتاباتي المسرحية- يمكن أن يغيب، أو أن ينتهي، أو أن يموت موتاً نهائياً.”
وفي هذا المسرح الاحتفالي، تحضر شخصيات قادمة من الجهات الأربع، وهي عالم سحري يلتقي فيه الشرق والغرب، ويلتقي فيه الكائن والممكن، ويتحاور فيه المعروف والمألوف مع الغرائبي والعجائبي، ويتقاطع فيه الواقعي والسحري، وتتحاور فيها الحياة مع مضاعفها الذي يسميه الناس الموت؛ والذي هو حياة أخرى في عالم آخر، أو في كوكب آخر، وهو الوجه الآخر لهذه الحياة، والذي قد يكون أحسن منها أو أسوأ منها، وذلك بحسب السياق الذي يسوقه، وكل السياقات الاحتفالية هي سياقات البهجة والفرح.
ومع هذه البهجة، قد يوجد شيء من الحزن؛ قد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً، ومع حضور البسمة قد تحضر الدمعة معها أيضاً من غير أن نراها. وفي بعض الضحك العاقل، قد يختبئ نوع نادر من البكاء الساخر، وكثيراً ما يختلط علينا الحزن والفرح حتى لا تستطيع التمييز بين هذا وذاك؛ ألم يتحدث أبو الطيب المتنبي عن ذلك الضحك المركب، والذي هو ضحك كالبكاء؟
وبخصوص هذا الموت يتساءل الاحتفالي: هل هو نهاية حياة أم إنه بداية حياة أخرى؟ وهل هو نهاية دورة حياة وبداية دورة أخرى، مختلفة ومخالفة؟ مما قد يعني بأن ما يموت هو الجزء وليس الكل، وأن من يموت في الحياة هم الأحياء، ولكن الحياة باقية ودائمة وأبدية وسرمدية، وأنها لا تموت أبداً. وبالتأكيد فإن هذا الإنسان الحي لم يولد فقط من أجل أن يموت.
وأعتقد أن حكمة الوجود وعقل الطبيعة وعقلانية الحياة لا يمكن أن تحتمل العبث، أو أن يكون كل هذا الوجود بلا معنى. ولو صحت فرضية الموت الكلي والنهائي لكانت الحياة قمة العبث؛ لأنه من غير المنطقي أن نوجد من أجل ألا نوجد، وأن نكون من أجل ألا نكون.
وما المانع في أن تكون هذه الحياة مجرد حلم، وأن الموت هو الحياة الحقيقية؟ وهناك من قال بأن هذه الحياة مجرد حلم جميل عند السعداء، وهي كابوس مرعب عند الناس الأشقياء. ولأن الأصل في هذه المسرحية الاحتفالية -والتي لا نعرف إن كنا نكتبها نحن، أو كانت هي التي تكتبنا، أو كانت هذه الحياة هي التي تكتبها الحياة، أو كان هذا التاريخ الحي هو الذي يكتبها- وهذا المسرح، هو أنها أساساً حرية عاقلة، وأنه إحساس ومعرفة وخيال وانفلات وأحلام وتحرر وهذيان خلاق.
ولقد سافرتُ -أنا الاحتفالي- في كل مسرحياتي الاحتفالية خارج الزمان وخارج المكان وخارج كل قوانين الطبيعة، ولقد افترضتُ فرضيات قد تبدو غريبة -وما هي غريبة- ولقد تبدو كاذبة وهي صادقة، وقد تختلف صور الواقع والوقائع فيها مع ما تدركه العيون المجردة، ولكنها تظل وفية لروح الفن؛ الذي هو الصدق والمصداقية، وقد تخالف المعروف والمألوف في شكليات الصورة، ولكنها أبداً لا يمكن أن تخالف جوهر الحقيقة.
الحياة في درجة الصورة السريالية
في هذا المسرح الكوني، هناك من المسرحيين “الفوتوغرافيين” من يعتبره مجرد مرآة تعكس صورة الواقع، وتظهر صورة الوقائع اليومية فيه بأمانة خادعة، وبذلك تنقل شكل الأشياء ومفردات الأحداث من غير أن تنقل روحها وجوهرها.
بالنسبة للاحتفالي؛ فإن المسرح ليس آلة تصوير فوتوغرافي، وإن هذا الواقع لا يحتاج لأن نستنسخه كما هو في بنيته وهندسته، ولكنه يحتاج لأن نفككه، ونفجره، ونعيد تركيبه، ونعيد قراءته وكتابته، ويحتاج لأن نعيد خلقه وبناءه في صور أخرى جديدة؛ صور فنية مدهشة تتجاوز ما نراه وما نعرفه من صور واقعية قديمة.
الأمر إذن يتعلق برؤية فكرية وجمالية جديدة؛ رؤية سحرية يتم الانتقال فيها بالمسرحية من كونها مجرد فرجة بصرية نراها ونسمعها، إلى اعتبارها طقساً احتفالياً وطقساً دينياً نعيشه ونحياه ونشارك فيه ونقتسمه مع الآخرين، ونعيش مناخه جماعياً بروح جماعية، ونقتسم حالاته ومقاماته ورسائله الفكرية والجمالية والأخلاقية.
في الفرجة البصرية، تكون أنت المتفرج سلبياً ومحايداً، وتكون بذلك بعيداً وغريباً عن موضوع هذه الفرجة ومضمونها، مما يجعلك بعيداً عن روح المسرح وفلسفته، والتي هي التلاقي الإنساني والفعل والتفاعل. وهل يكون هذا الذي نسميه “المسرح” -في معناه الحقيقي- إلا الحياة والحيوية؟ وهل خُلق هذا الإنسان في الوجود ليكون متفرجاً، أم ليكون خالقاً ومبدعاً؟ وهل خُلقت هذه الحياة لنتفرج عليها، أم لنعيشها ونحياها ونعيد خلقها وتشكيلها؟
سلطة الحكي وسلطان المحاكاة
في مسرحية (الملك جالوق) -والتي هي آخر ما كتبت لحد هذا اليوم- يتحقق المعنى الاحتفالي في أجمل وأصدق صوره، ويصبح التفرج المحايد مشاركة، ويصبح التلاقي المسرحي حياة أخرى. يحضر الحكي والحكواتي، ويحضر ضيوفه، ويصبح فعل الحكي حياة وحيوية، وليس مجرد تفرج على الحياة والأحياء؛ وبذلك يكون مثيراً ومدهشاً ومستفزاً للحواس، ومحرضاً للعقل على التفكير والسؤال.
وبفعل سلطة الإبداع وسلطان سحره، فإن هذا الملك الغائب يتحرر من غيابه، ويهرب من موته وشبحيته، ويعود إلى مملكته الرمزية في مدينة الفرح (مراكش العالمية) ليسترد دوره في هذه الساحة/ المملكة. وبذلك يمكن اختزال هذه الفلسفة “الجالوقية” في الكوجيتو التالي:
- “أنا أحكي، إذن فأنا الحاكي موجود.”
- “أنا أحكي للناس ومع الناس، إذن فإن من أقتسم معهم هذا الحكي موجودون.”
- “أنا أحاكي جوهر الواقع وحكمة الوقائع، إذن فإن الحقيقة التي نعشقها موجودة.”
لم تكفه حياة واحدة فطلب حياتين
من خلال ذلك الحكي الجالوقي؛ الحكيم في سخريته والساخر في حكمته، نصل إلى القناعة بأن فعل الحكي، وكل ما في التاريخ والواقع والخرافات والحكم، يمكن اختزاله في حكاية واحدة يحكيها حكواتي واحد، ولكن بأعمار وأسماء وأرواح ولغات ومقامات متعددة.
ويتابع الملك جالوق كلامه لجمهوره الذي جعل منه أسطورة:
“تسألون هل يمكن للإنسان أن يحيا حياتين؟ وأقول لكم نعم.. في الفن كل شيء ممكن يا سادة يا كرام.. وما يجوز للفنان لا يجوز لغيره.. وهل أنا إلا فنان مجنون.. نصفه إنسي ونصفه جني، والنصف الثالث.. لا، النصف الثالث لا وجود له! (يضحكون). أنا جسد واحد بوجهين، أو وجه واحد بأقنعة متعددة.. لست أدري.. قد أكون حياة واحدة بعمرين، أو ذاتاً واحدة باسمين اثنين مختلفين.”
بين عالم الأجساد وعالم الظلال
في هذه المسرحية يحضر خيال الظل باعتباره عالماً غيبياً موازياً، وإلى جانبه عالم الإنسان بأبعاده الحسية. وعلى خشبة المسرح، توجد شاشة كبيرة تعكس ظلال الشخصيات التي تنتمي إلى عالم الموتى. ومن تلك الشاشة خرج الملك جالوق وإليها يشير قائلاً:
“ذلك العالم هناك.. هو عالمنا الحقيقي.. منه خرجنا وإليه سوف نعود في توقيت غير معلوم.. وأنا مجرد ظل ملك، ومالك الملك هو وحده الملك الحقيقي.. وأنا مثلكم.. ابن هذا النور الرباني.. وأخوف ما أخافه هو الظلمة الظالمة.. ورغم ما قد يتهدد فرحنا، فإنني لا أتوقف عن الضحك.”
ويأتي صوت خارجي متبوعاً بالصدى يقول فيه الملك جالوق لنفسه:
“ما أجمل أن نعيش -أنت وأنا- بروح طفل صغير يا مولانا.. وأن نفكر بعقل شيخ حكيم، وأن يكون لنا حس أنثى وحدس أنثى، وأن تكون أنت رجلاً كامل الرجولة.. وأن أظل أنا في مرآتك مجرد صورة رجل.. وأن تكون لنا لمسة ساحر وقلب شاعر، وأن تنبت لنا أجنحة طائر نحلق بها في السماوات السبع.”
هي احتفالية مسرحية واحدة إذن، تختزل روح الشرق والغرب، وتختزل في الوقت ذاته كل أحلام الإنسان والإنسانية في كل زمان ومكان.
