المغرب أمام الانهيار الشامل.. الفساد يُفقر الأمة ويُهدد وجودها
 
						عبد الرحمان الغندور
بيان للرأي العام من مواطن مغربي عادي
لم يعد الفساد في المغرب ظاهرة عابرة أو هامشية، بل تحول إلى نظام متجذر يخترق عظام الدولة ونخاع المجتمع، دافعًا بالبلاد نحو حالة من الإفلاس الشامل الذي لا يطال الجيب وحده، بل يمتد ليشلّ العقل والروح والضمير الجمعي. ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل هو انهيار متسارع لمقومات الكيان الوطني في أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، انهيار ينذر بعواقب كارثية إذا لم تُبذل إرادة صارمة وحقيقية لتحويل المسار نحو بناء دولة المؤسسات، واحترام الحريات، وتحقيق العدالة والكرامة، والتوزيع العادل للثروة.
على الصعيد الاقتصادي، تحولت إدارة المال العام إلى عملية منهجية لنهب الثروات. فالعقود العمومية الضخمة، والاستثمارات الكبرى، والمشاريع التنموية، كثيرًا ما تتحول إلى مغانم شخصية تُوزع على شبكات النفوذ والامتياز. لقد أفرغت هيمنة اقتصاد الريع والاحتكار القائم على المحسوبية والولاءات، وليس على الكفاءة والمنافسة، الاقتصاد المغربي من حيويته، فقُتلت روح الابتكار، واختنقت المقاولة الصغيرة والمتوسطة، وتراجع النمو الحقيقي رغم الادعاءات الرسمية. إن هدر الموارد في مؤسسات عمومية تعاني من سوء التسيير والتبذير، وتراكم الديون لتمويل الفساد لا لتمويل التنمية، واستنزاف الثروات الطبيعية من معادن وثروة سمكية وأراضٍ دون عائد حقيقي على الشعب، كلها عوامل تدفع بالاقتصاد نحو الهاوية.
والنتيجة الملموسة التي يعيشها المواطن يوميًا هي بطالة تخنق الآمال خاصة بين الشباب، وفقر مدقع يستشري في مناطق واسعة، وتدهور صارخ في الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والسكن، وفجوة طبقية تتسع بسرعة فاضحة بين فئة قليلة مترفة وأغلبية غارقة في الفقر وما تحت عتبة الفقر، وما يصاحب ذلك من هموم اليومية.
وإذا انتقلنا إلى الجانب السياسي، فإن الصورة لا تقل قتامة. لقد تآكلت شرعية المؤسسات تدريجيًا، حيث تحول البرلمان في نظر الكثيرين إلى مجرد ديكور، وأصبحت الإدارة أداة للبطء والابتزاز، بينما بات القضاء يعاني من أزمة ثقة عميقة بسبب ما يُنظر إليه على أنه “عدالة انتقائية”، أو “عدالة انتقامية”. إن الإفلات من العقاب للفاسدين الكبار ذوي الحماية، مقابل قمع الناشطين الحقوقيين والصحفيين والمحتجين السلميين، يقوض أسس دولة القانون ويُفقدها هيبتها.
هذه الممارسات تكرس انهيار الثقة بين المواطن والدولة، وتغذي الشعور بأن النظام السياسي يعمل في خدمة مصالح نخبة فاسدة ضيقة، لا في خدمة الصالح العام والمواطن العادي. وما يسمى بالعملية الديمقراطية تبدو مجرد قشرة فارغة، حيث تُدار الانتخابات غالبًا لتأتي بنتائج مسبقة، وتتحول الأحزاب السياسية إلى هياكل بلا مشروع حقيقي، فيما تُضيق الخناق على الحريات العامة والتعبير بذرائع أمنية واهية.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن تأثيرات الفساد المنهجي أشد وطأة وأكثر تدميرًا للنسيج المجتمعي. لقد طغت ثقافة “الواسطة” و”المحسوبية” و”الزبونية” على قيم الجدارة والكفاءة والنزاهة. هذا التحول يقتل الحافز لدى الشباب الطموح، ويغذي الإحباط واليأس، ويشعر المواطن بأن الفرص مغلقة أمامه ما لم يكن منتميًا لشبكة النفوذ. وإن انهيار القيم المرتبط بانتشار ثقافة النجاح السريع بغض النظر عن الوسيلة، يؤدي حتمًا إلى تفشي مظاهر العنف المجتمعي والجريمة وتعاطي المخدرات، كتعبير مرضي عن الحرمان والغضب وانعدام الأفق. كما أن أحد أخطر تجليات هذا الانهيار الاجتماعي هو نزيف هجرة الأدمغة والكفاءات المغربية، بل عزوف مغاربة العالم عن الاستثمار في وطنهم، واتجاههم إلى البحث خارج الوطن عن العدالة والكرامة والفرص التي حُرمت منها في أرضهم.
ولا يمكن إغفال البعد الثقافي في معادلة الإفلاس الشامل. فالفساد لا يسرق المال فحسب، بل يسرق الوعي ويشوه الهوية. لقد طغت ثقافة الاستهلاك المظهري والبحث عن الثراء السريع والوجاهة الزائفة على قيم الإنتاج والإبداع والاعتدال والهوية الأصيلة. وأدى تكميم الأفواه وتضخيم الخطاب التبريري والانشغال بالتوافه والقضايا الهامشية، إلى تسطيح الخطاب العام وإفراغه من مضمونه، وإبعاد النقاش الجاد عن القضايا المصيرية التي تواجه البلاد. حتى أصبح انعدام المصداقية سمة ملازمة للخطاب الرسمي ولوسائل إعلامية عديدة يُنظر إليها على أنها أداة لتلميع الصورة والتستر على الفساد بدلاً من كشفه.
هذا المناخ الخانق يهدر الطاقات الإبداعية الحقيقية، ويُقصي المبدعين والمفكرين الناقدين الذين لا ينتمون إلى دوائر المحسوبية و يجرؤون على فضح الممارسات الفاسدة.
إن استمرار هذا المسار الكارثي دون إصلاح جذري وشامل، ليس خيارًا متاحًا، بل هو تهديد وجودي يدفع بالمغرب نحو مخاطر جسيمة يصعب احتواؤها. فاحتقان الملايين من المحرومين والمهمشين الذين يشعرون بغياب العدالة والكرامة، قد يصل إلى نقطة اللاعودة، مهددًا بانفجار اجتماعي عارم يصعب التنبؤ بعواقبه. فتآكل هيبة الدولة وتراجع قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية أو حتى فرض القانون بشكل عادل، يقود نحو احتمال انهيار مؤسسات الدولة نفسها وفقدان السيطرة، مما يفتح الباب أمام الفوضى، لأن بيئة الفساد واليأس هي الحاضنة المثلى لتغلغل الجريمة المنظمة بكل أنواعها، وانتشار التطرف العنيف، وتهديد الأمن والاستقرار الذي طالما يتغنى به المسؤولون. فاقتصاد منهوب ومفكك يعني فقدان السيادة الاقتصادية والقرار السياسي المستقل، لصالح مصالح خارجية وشبكات فساد عابرة للحدود.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإن استمرار إذلال المواطن وانعدام كرامته، واستشراء ثقافة الخضوع والوصاية، أمور تهدد بفقدان الأجيال القادمة للانتماء والرغبة في البناء، مما يعني ضياع الهوية الوطنية نفسها.
إن تجاوز حالة الإفلاس الشامل هذه يتطلب أكثر من إجراءات ترقيعية أو خطابات إصلاحية جوفاء. إنه يتطلب ثورة إصلاحية حقيقية وجريئة تنطلق من إرادة سياسية صادقة، من أعلى سلطة في البلاد، إرادة لا تهادن ولا تتراجع.
ويجب أن يكون حجر الزاوية في هذه النقلة بناء دولة المؤسسات الفعالة والنزيهة، حيث يسود القانون ويخضع له الجميع على قدم المساواة، دون استثناءات أو امتيازات. وهذا يستلزم بالضرورة استقلالاً حقيقيًا للسلطة القضائية تكون فيه العدالة عمياء لا تميز بين خصومها. كما أن احترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان ليس منّة من أحد، بل هو حق أصيل وأساس لا غنى عنه لمجتمع حيوي. حرية التعبير، وحرية الصحافة الناقدة، وحرية التجمع السلمي، وحرية تشكيل الجمعيات والأحزاب، كلها شروط لا بد منها لخلق مجتمع مدني قوي وفاعل يقوم بدور الرقيب والشريك في عملية البناء.
لا يمكن الحديث عن إصلاح دون تحقيق العدالة الاجتماعية التي تضمن الكرامة لكل مواطن. وهذا يعني نظامًا ضريبيًا عادلاً يلزم الأغنياء بدفع نصيبهم، واستثمارًا حقيقيًا وجادًا في قطاعي الصحة والتعليم العمومي الجيد للجميع، وحربًا شاملة لا هوادة فيها على الفقر والتهميش. فالتوزيع العادل للثروة هو شرط الاستقرار والسلام الاجتماعي، ويقتضي ذلك محاربة احتكارات الريع، وتشجيع المقاولة المنتجة، وربط الأجور والترقيات بالكفاءة والإنجاز.
كما أن محاربة الفساد يجب أن تكون حربًا شاملة بلا هوادة، عبر تفعيل هيئات رقابية مستقلة تملك الصلاحيات والموارد الكافية، وحماية حقيقية للمبلغين عن الفساد، وسن تشريعات صارمة لاسترداد الأموال المنهوبة من الداخل والخارج. كل هذا لن يكون ذا معنى دون شفافية مطلقة في كل المجالات: في إبرام العقود العمومية، وفي مناقشة الميزانيات وتنفيذها، وفي عمليات صنع القرار على جميع المستويات.
الخلاصة المؤلمة هي أن المغرب يقف اليوم على مفترق طريق تاريخي أمام حالة الإفلاس الشامل التي تعيشها البلاد، والتي هي النتيجة الحتمية لسيطرة “نظام الفساد” على مقدراتها. وأن الاستمرار في هذا المسار هو انتحار جماعي متسارع.
إن الخيار الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولبناء مستقبل يليق بأبناء وبنات المغرب ويضمن كرامتهم وأمنهم، هو تبني خيار بناء دولة المؤسسات والقانون بجدية وإرادة لا تقبل التراجع. دولة تقوم على احترام الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان التوزيع العادل للثروة. وهذا ليس ترفًا فكريًا أو شعارًا سياسيًا، بل هو ضرورة وجودية ملحة. فالساعة تدق، والوقت ليس في صالح التردد أو المماطلة أو الترقيع. ومستقبل المغرب، ومصير أجياله القادمة، معلقان على القرارات الجريئة التي تُتخذ اليوم، من أعلى سلطة في البلاد. أما الصمت أو التأجيل فلم يعودا من بين الاختيارات الممكنة أمام الزحف المروع للانهيار الشامل.
عبد الرحمان الغندور، مواطن مغربي

 
				 
				 
				 
				 
				 
				