المغرب واستراتيجية التكيف الذكي لترسيخ الوحدة الترابية
محمد نجيب كومينة
من يفكر أو يمارس السياسة بشكل خطي ومتمركز على الذات، متغاضيًا عما يجري ويعتمل في العالم، ينتهي به الأمر “بيست”، إذا لم يصطدم بسور السجن الذي يحبس فيه نفسه.
نجاح المغرب في استصدار قرار مجلس الأمن الذي يُكرّس دوليًا وحدة المغرب الترابية بالاعتراف بسيادته على أقاليمه الجنوبية بشكل لا رجعة فيه، ويجعل الحكم الذاتي في هذا الجزء من وطن موحد وواحد هو أساس التفاوض على حل سياسي واقعي للنزاع الإقليمي الذي غذّاه وتغذّى منه النظام الجزائري لمدة طويلة ونقطة الوصول في النهاية. نجاح تطلب بالتأكيد تضحيات كبرى، لم تذهب سدى، وصبرًا استراتيجيًا، لم تَنَل منه كل العواصف، لأنه قائم على أساس متين وعميق ومَبني بحساب للمستقبل. وتطلب أيضًا، وهذا هو العنصر الأساسي في هذه التدوينة، التكيف المستمر والذكي مع تغيرات كثيرة عرفها العالم خلال خمسين سنة، دون فقدان البوصلة أو الانحراف عن الهدف المتمثل في تعزيز وحدتنا الترابية المكرسة في الواقع والمحمية من طرف القوات المسلحة الملكية، بالاعتراف الدولي الشامل.
فقد تصرف المغرب من منطلق وعي عميق بالتغير الكبير الذي عرفه العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي ومعسكره، والذي أدى إلى توازنات دولية جديدة جعلت الولايات المتحدة قائدة للعالم بدون منازع خلال عقود. وبتوالي موجات العولمة التي أنتجت اقتصادًا عالميًا متشابكًا في سوق مفتوحة بشكل غير مسبوق، وبصعود قوى جديدة ذات تأثير بيّن على المعطيات الجيوسياسية الموروثة ورغبة في ضمان حضور وازن. وقارة إفريقية تندمج دولها في الاقتصاد العالمي، وإن كان من باب استغلال الموارد الطبيعية في الغالب، وتُفاجأ بنموها منذ بداية الألفية الجديدة، وعالم عربي مفكك أكثر من أي وقت مضى ومضطرب أكثر من أي وقت مضى، بموازاة صعود بلدان مجلس التعاون الخليجي اقتصاديًا وسياسيًا. وهكذا عمل المغرب على استعمال ما يملكه من قدرات في ميدان القوة الناعمة، التي كان الراحل الحسن الثاني حاذقًا وذكيًا في استعمالها عربيًا وعلى مستوى علاقات المغرب مع عدد من دول الغرب، وترك في هذا الإطار رصيدًا وتقاليد ناجعة، لاختراق مختلف الحصون، بما فيها من كانت مغلقة ومحصنة ضد هذا الاختراق. وخلال ذلك عَمَد إلى تكوين شبكات متماسكة عربيًا وإفريقيًا وعالميًا بالاعتماد على كل الإمكانيات المتاحة، ببراغماتية ومرونة كبيرة. وهو ما تجلى أول ما تجلى في القارة الإفريقية التي زار الملك محمد السادس عددًا كبيرًا من بلدانها، بما فيها تلك التي كانت لنا معها خصومة بسبب مساندتها للجزائر في حربها القذرة ضد المغرب ووحدته الترابية. وأحيا التعاون معها و دفع باستثمارات مغربية بها غيرت نظرتها للمغرب قبل تغيير موقفها، وهيأ عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، الذي غادره لما كان يسمى منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1984 بعد جريمة إقحام الجمهورية الوهمية بالرشوة، بقوة وبأفق تغيير ما تراكم في غيابه من مواقف معادية أوعزت بها الجزائر وحلفاؤها السابقون، وفرض نفسه كفاعل إفريقي في التنمية والسلم وكقائد لمشروع جيوسياسي واستراتيجي قاري كبير ومقنع. كما تجلى في الانتقال بالعلاقات التاريخية مع دول الخليج إلى مرحلة جديدة يطبعها تحالف أقوى وذي أبعاد إقليمية ودولية ذات عائدات كبيرة قوّت القوة الناعمة المغربية دوليًا. وتجلى أيضًا في العمل على تغيير العلاقات مع الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي بهدف إنهاء الابتزاز وغموض الموقف واللعب على الحبال عندما توفرت الظروف والمعطيات المناسبة لذلك، واستفاد في ذلك من تطور العلاقات المغربية الأمريكية التي سارت صعودًا منذ رئاسة كلينتون إلى حدود الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه ودعم مخططه للحكم الذاتي منذ الولاية الأولى للرئيس ترامب، وهو حدث أدخل متغيرًا استراتيجيًا على مستوى النزاع الإقليمي بين المغرب والجزائر وخلق ميزان قوى جديد وكان له ما بعده في مواقف عدد من الدول الأوروبية والإفريقية والأمريكية اللاتينية والآسيوية، بل وكان مؤثرًا أيضًا على الموقفين الروسي والصيني اللذين باتا أقرب إلى دعم الموقف المغربي، كما ظهر ذلك واضحًا في رفض روسيا والصين لحضور جمهورية الوهم في القمم التي عقدتاها مع دول القارة الإفريقية الأربعة والخمسين، المعترف بها من طرف الدولتين ومن طرف الأمم المتحدة، وليس في التصويت في مجلس الأمن، رغم كل المحاولات اليائسة للجزائر وجنوب إفريقيا لثنيهما عن هذا الرفض.
إن التشبيك الذي حرص المغرب على تطويره في علاقاته العربية والإفريقية والدولية، بناءً على بناء شبكات للمصالح تحفظ للمغرب في النهاية قدرته على التصرف على عكس ما يعتقده أو يروّج له البعض بغباء ناتج عن استعمال نظارات أيديولوجية قديمة تجعل الرؤية قصيرة وقاصرة كنظرة “بغل السانية“، كان حاسمًا في تحقق الإنجاز التاريخي باعتراف مجلس الأمن بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية. وغير خافٍ أن هذا التشبيك، ذي التعقيدات التي وجدت الجزائر نفسها غير قادرة على فك شفرتها والتعامل معها، هو بالتأكيد نتاج عمل دبلوماسي متفاعل بذكاء وصبر مع كل التطورات والتغيرات، شمل ما هو اقتصادي وثقافي وروحي وعسكري وأمني ورياضي. لكن وأيضًا نتاج عمل مغاربة العالم الذين جعلوا من القضية الوطنية الأولى شغلهم الشاغل في كل مكان وفي كل المحافل وأعطوا القوة الناعمة للمغرب دفعات قوية، كما ساهموا بقدر وافر في تحسن الصورة العالمية للمغرب، وأيضًا حلفاء المغرب الذين وفوا بوعودهم وكانوا سندًا قويًا للدبلوماسية المغربية.
وفي هذا السياق، لا بد أن نذكر، كي لا ينسى ذلك بعض من تغريهم فكرة التراجع ومن يبدون تحمسًا غبيًا لها، أن المغرب ما كان ليحقق ما حققه عبر مسار متعرج ومعقد، لو لم يباشر عددًا من الإصلاحات منذ تسعينيات القرن الماضي التي ترجمتها ثلاث تعديلات دستورية، وأهمها دستور 2011، وعفو شامل في بداية تسعينيات القرن الماضي، وهيئة الإنصاف والمصالحة ومدونة الأسرة وغير ذلك. وهي إصلاحات تستدعي الدعم والتطوير اليوم، وباستعجال، بإزالة كل ما يدفع إلى الشك في استمرارية إرادة الإصلاح وما يُستغل ببشاعة من طرف الخصوم وعملائهم المعلنين والمتخفين، وبمعالجة مشكلة الفوارق الاجتماعية والمجالية ومحاربة فعلية للفساد المستشري الذي يورث ثقافة مجتمعية تستهين بكل القيم النبيلة التي قامت عليها الحضارة البشرية السائرة نحو مزيد من التقدم.
