النزعة الإنسانية بين عباس محمود العقاد وجورج برنارد شو

النزعة الإنسانية بين عباس محمود العقاد وجورج برنارد شو

إبراهيم أبو عواد

           كانَ الكاتبُ المِصْرِيُّ عباس محمود العَقَّاد (1889 – 1964) يَرى أنَّ الإنسانَ مَخلوقٌ مَفطورٌ على التَّفكيرِ، لَيْسَ لَهُ أهمية إلا بِقَدْرِ مَا يُمارِس مِنْ حُرِّيةِ عَقْلِه. فالحُرِّيةُ عِندَه لَيْسَتْ مُجرَّد حَقٍّ سِياسيٍّ أوْ شِعارٍ اجتماعيٍّ، بَلْ هِيَ شَرْطُ الوُجودِ الإنسانِ نَفْسِه.

والعَقَّادُ دائمُ البَحْثِ عَن الجَوْهَرِ الإنسانيِّ الذي تَتداخلُ فيه قُوى العَقْلِ والضَّميرِ والإرادةِ، لذلك كانَ شَديدَ النُّفُورِ مِنَ الاستبدادِ العَقْلِيِّ، سَواءٌ جاءَ في صُورةِ مَذْهَبٍ ماديٍّ يُلْغِي الرُّوحَ، أوْ تَيَّارٍ صُوفيٍّ يُلْغِي العَقْلَ، أوْ سُلطةٍ سِياسيةٍ تُلْغِي الإرادةَ. كُلُّ مَظْهَرٍ مِنْ هَذه المَظاهرِ عِندَه طَعْنَةٌ في قَلْبِ الإنسانِ. ولعلَّ هَذا مَا جَعَلَ أُسلوبَه يَتَّسِمُ بالجِدِّيةِ والصَّلابةِ، فالعَقَّادُ في دِفَاعِهِ عَن الإنسانِ مُقَاتِلٌ فِكريٌّ لا يَعرِف المُهَادَنَةَ.

أمَّا الكاتبُ الأيرلندي جورج برنارد شو (1856 – 1950 / نوبل 1925) فَهُوَ لا يَتعاملُ معَ الإنسانِ بِوَصْفِهِ مِثَالًا عقليًّا ثابتًا، بَلْ بِوَصْفِهِ دراما حَيَّة، يَتقلَّب بَيْنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، والحِكمةِ والتَّهْريجِ، والسُّمُوِّ والسُّخْفِ. غَيْرَ أنَّ هَذه المُفارَقات لَمْ تَدْفَعْهُ إلى اليأسِ مِنَ الإنسانِ، بَلْ إلى الإعجابِ بِما يَملِك مِنْ قُدرةٍ دائمةٍ على النُّهُوضِ مِنَ الفَوْضَى.

كانَ شو إنسانيًّا لأنَّه رَأى أنَّ الإنسانَ أعظمُ مِنَ القُيودِ الاجتماعية التي تُلبِسه الأقنعةَ، وأذكى مِنَ الخُرافاتِ التي تُكبِّله، وأقوى مِنَ الأوهامِ التي تُحاصِره. وَهُوَ يَدعو، بلهجته اللاذعةِ، إلى تَحريرِ الإنسانِ مِنْ عُبوديةِ التقاليدِ، وجُمودِ المُؤسَّساتِ، لا لِيَجْعَلَ مِنْهُ بَطَلًا مِثاليًّا، بَلْ لِيَمْنَحَهُ الحَقَّ في أنْ يَكُونَ نَفْسَه، عَلى الرَّغْمِ مِنْ عِلَّاتِهِ ومُشكلاتِه وتناقضاتِه. ولعلَّ أعمقَ جوانبِ النَّزْعَةِ الإنسانيةِ عِندَ شو إيمانُهُ بأنَّ التَّغْييرَ الاجتماعيَّ لا يَحْدُثُ عَبْرَ تَجميلِ الواقعِ، بَلْ عَبْرَ الصَّدْمَةِ الفِكريةِ التي تُوقِظ العَقْلَ مِنْ سُبَاتِه، وَلَوْ بالتَّهَكُّمِ المُرِّ والسُّخْريةِ المَريرةِ والكوميديا السَّوْدَاءِ.

وعَلى الرَّغْمِ مِن اختلافِ النَّبْرَةِ بَيْنَ العَقَّادِ وشو، فالأوَّلُ جادٌّ صُلْب، والثاني ساخرٌ لاذعٌ، إلا أنَّهما يَلْتقيان في نُقْطَةٍ جَوهرية، وَهِيَ رَفْضُ اختزالِ الإنسانِ في قَالَبٍ ضَيِّق. فالعَقَّادُ يَرفُضُ أنْ يُخْتَزَلَ الإنسانُ في المَذهَبِ الماديِّ أو السُّلطانِ السِّياسيِّ أو التقاليدِ التي تُفَرِّغُ العقلَ مِنْ حُرِّيته. وشو يَرْفُضُ أنْ يُخْتَزَلَ الإنسانُ في الطاعةِ العَمْياءِ، والمَسرحياتِ الاجتماعيةِ التي تَفْرِضُها الطَّبَقَاتُ والسُّلُطاتُ والمُعْتَقَدَاتُ المَوْرُوثة. كِلاهُما يَثُورُ على النَّمَطِ الواحدِ الذي يَشُلُّ رُوحَ الإنسانِ، وكِلاهُما يَقِفُ إلى جانبِ الإنسانِ الفَرْدِ لا الإنسانِ النَّمَطِيِّ.

هَذا الالتقاءُ لا يُلْغي الاختلافَ، بَلْ يُضِيئُه. العَقَّادُ يَتَّخِذُ مِنَ العَقْلِ حِصْنَه الأوَّلَ، وشو يَتَّخِذُ مِنَ السُّخْريةِ سِلاحَه الأمضى. العَقَّادُ يَكتبُ كَمَنْ يَضَعُ لَبِنَةً في بُنْيَانٍ فِكريٍّ مُتماسِك، وشو يَكتبُ كَمَنْ يَضَعُ مِرْآةً تَكشِف للمجتمعِ وُجوهَه المَخْفِيَّة. ومعَ ذلك، فَكِلاهُما يَنتهي إلى رَفْضِ تَسْليعِ الإنسانِ، أوْ تَدجينِه، أوْ تَحويلِه إلى آلَةٍ.

يَنْبُعُ اختلافُهما العميقُ مِنْ مُنْطَلَقٍ أُسلوبيٍّ وثقافيٍّ. العَقَّادُ مُفكِّر عَرَبيٌّ إسلاميٌّ يَرى الإنسانَ مِنْ خِلالِ وَحْدَةِ العَقْلِ والرُّوحِ، ويَمْنَحُه بُعْدًا أخلاقيًّا مُتَسَامِيًا، حتى حِينَ يَتناولُ السِّيرةَ البَشَرِيَّةَ في سِياقاتٍ تاريخية. وشو كاتبٌ أُوروبيٌّ عَلْمَانيُّ النَّزْعَة، يَرى الإنسانَ مِنْ خِلالِ صِرَاعِه معَ المُجتمعِ والسُّلطةِ والعُرْفِ، ويَمْنَحُه بُعْدًا واقعيًّا ساخرًا. هَذا الاختلافُ يَنعكِس في طَريقةِ تَصويرِهما للإنسانِ. عِندَ العَقَّادِ، الإنسانُ مَشروعُ ارتقاءٍ مُستمر، وعِندَ شو، الإنسانُ مَشروعُ نَقْدٍ مُستمر.

في أعمالِ العَقَّادِ، تَتجلَّى النَّزْعَةُ الإنسانيةُ في الدِّفاعِ عَنْ حُرِّيةِ الفِكْرِ، وَدِراسةِ العُظَمَاءِ باعتبارهم قِمَمًا إنسانية تُحْتَذَى، وتَمجيدِ الإرادةِ الفَرديةِ التي تَصْنَعُ التاريخَ.

وفي مَسرحياتِ شو ومَقالاتِه، تَتجلَّى النَّزْعَةُ الإنسانيةُ في الثَّورةِ على التقاليدِ، وكَشْفِ التناقضاتِ الاجتماعيةِ، والدِّفاعِ عَن الطَّبَقَاتِ المُهَمَّشَةِ، والهُجومِ على النِّفَاقِ السِّيَاسِيِّ والدِّينيِّ.

كانَ العَقَّادُ إنسانيًّا بِمَعنى الدِّفاعِ عَنْ قِيمةِ الإنسانِ، وكانَ شو إنسانيًّا بِمَعنى كَشْفِ حَقيقةِ الإنسانِ. وَبَيْنَ القِيمةِ والحَقيقةِ، تَتشكَّل مَدرستان مُتكاملتان في رُؤيةِ الإنسانِ رُوحًا وَجَسَدًا.

ويُمكِن جَمْعُ النَّزْعَةِ الإنسانيةِ عِندَ العَقَّادِ وشو في صِيغةٍ واحدةٍ قائمة على تَصَوُّرٍ واحدٍ، وَهُوَ أنَّ الإنسانَ عَقْلٌ حُرٌّ وَضَميرٌ يَقِظ، لكنَّه أيضًا مَخلوقٌ يَبحثُ عَنْ ذَاتِه بَيْنَ مُفَارَقَاتِ الحَياةِ.

العَقَّادُ يَمنحُ هَذا الإنسانَ جَنَاحَيْن: العَقْل والحُرِّية. وشو يَمْنَحُهُ مِرْآةَ الوَعْيِ والقُدرةَ عَلى الضَّحِكِ مِنْ نَفْسِه. وَمِن اجتماعِ هَذَيْن الجَنَاحَيْن والمِرْآة، يَتكوَّن مَفهومٌ إنسانيٌّ أكثرُ نُضْجًا: إنسان قادر على صَوْنِ كَرامته، وَنَقْدِ ذَاتِه، وتَجاوزِ حُدودِه.

إنَّ النَّزْعَةَ الإنسانية بَيْنَ العَقَّاد وشو لَيْسَتْ مُجرَّد مُقارَنةٍ بَيْنَ مُفَكِّرَيْن، بَلْ هِيَ مُقارَنة بَيْنَ ثقافَتَيْن تَتكاملان في رَسْمِ مَلامحِ الإنسانِ الحَديثِ مَعنويًّا وماديًّا. العَقَّادُ يُشيِّد بُنْيانًا عقليًّا راسخًا يُدافِع عَنْ حُرِّيةِ الفَرْدِ وَسُمُوِّهِ الرُّوحيِّ، وشو يَفتحُ نوافذَ النَّقْدِ الساخرِ على المُجتمعِ، لِيَكْشِفَ هَشَاشَتَه وَطَاقَتَه في آنٍ معًا. وَبَيْنَ البِناءِ والنَّقْدِ، والجِدِّ والسُّخْرية، تَتَّضِح الصُّورة، وَتَتَبَلْوَر الرُّؤية، وَيَكتمِل المَعنى: الإنسان مِحْوَرُ الفِكْرِ، وغايةُ الإبداعِ، وَسُؤالٌ لا يَنتهي، لأنَّه الكائنُ الذي يُفَتِّشُ عَنْ ذَاتِه، وَهُوَ يَعِيشُ مَعَهَا، وَيَمْشِي مُثْقَلًا بالأسئلةِ، وَيَتْرُكُ في كُلِّ فِكرةٍ أثَرًا مِنْ رُوحِه.

شارك هذا الموضوع

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!