النصب السياسي بـ”السماوي” و”الطلاميس”

النصب السياسي بـ”السماوي” و”الطلاميس”

عبد الرحيم التوراني

           يروج حاليا مقطع فيديو انتشر بشكل واسع على منصات التواصل.. فيديو يجسد حالة فريدة من الارتباك السياسي والاجتماعي. يظهر المشهد مواطنًا مغربيًا، يقف أمام ميكروفون قناة على يوتيوب، ويُسأل في إطار ما يعرف بـ “الميكروتروتوار” عن رأيه في الإنجاز الرياضي الكبير، أي فوز المنتخب الوطني للشباب بكأس العالم في الشيلي.

ولأن هذا المواطن تعود ونشأ وفتح عينيه على ربط أي إنجاز أو نجاح، رياضيًا كان أو غير رياضي، بمركز الهيبة والسلطة. فقد بدأ إجابته باندفاع طبيعي بشكر الملك..

 لكنه وفي غمرة الارتباك الناتج عن الموقف المفاجئ، سقط الرجل في فخ اللسان، حيث قال:

“جلالة الملك… صلى عليه وسلم“…

شعر الرجل بالخطأ الفادح للحظة، حاول أن يستدرك الموقف بسرعة، فغيّر الصيغة قائلاً:

جلالة الملك… رضي الله عنه”…

 ولما أدرك المواطن المسكين أنه مستمر في اقتراف أخطاء دينية لا تليق، استسلم للواقع، وهو يتمتم، اكتفى بذكر اسم جلالة الملك محمد السادس، متمنيًا له “الشفاء”، منهيًا بذلك هذا الموقف الملتبس.

أحد الأصدقاء علّق على الفيديو بمرارة، معتبراً أن هذا الارتباك اللغوي والديني ينم عن مدى الجهل والجهالة التي “ينعم” بها عدد من المواطنين، مفسرًا بأنها حالة قصوى من الذعر أمام المايكروفون والسلطة الرمزية التي يمثلها.

إن هذه الحادثة بكل ما تحمله من سذاجة وارتباك، تذكرني بصديقنا الإعلامي عبد الكريم الأمراني، الذي لا يفتأ يتكلم في تدويناته عن بلاد “الرعب والخرس”، مستخدمًا أوصافًا مقتبسة من عالم جورج أورويل المظلم في روايته الشهيرة “1984”.

الجهل هنا ليس مجرد نقص في المعرفة، بل هو نتيجة لثقافة طويلة من التوجيه و”التطميس”، الذي يدخل في دائرة النصب السياسي بما يسميه المغاربة “السماوي” أو “الطلاميس

***

في سياق قريب، لا يمكن النظر إلى ما جرى في المؤتمر الأخير للاتحاد الاشتراكي بمعزل عن “النصب السياسي بالسماوي”، فالأخطاء والقرارات التي شابت المؤتمر، لا تخرج عن كونها تجسيدًا آخر لهذه المنظومة من الجهالة والتجهيل، ومن الذعر والرعب والإخراس، الذي يغلف فسادًا مبينًا، حيث يصبح التملق والارتباك لغة العصر، حتى على لسان من يدعون تمثيل الشعب.

هذا الارتباك اللفظي ليس خطأ فرديًا، بل هو من أعراض مرض اجتماعي. إنها اللحظة التي يظهر فيها التجهيل كسياسة، حيث تختلط في العقل الباطن للمواطن الألقاب وقيم القداسة ومفاهيم التقديس. فإذا مُنح حق التعبير المفاجئ، اختلطت عليه الأمور وتداخلت لديه صيغ وعبارات التبجيل المقتبسة من شلالات الإعلام الرسمي، وكأن كل إشارة إلى القمة يجب أن تمر حتماً عبر بوابة القداسة الدينية.

ليس هذا سوى نتاج طبيعي لنظام طويل الأمد، نظام يغذي الذعر والرهبة ليضمن الخضوع. إن المشهد المأساوي لذلك المواطن المرتبك ليس مجرد حكاية طريفة عابرة يمكن أن تُروى في المقاهي الشعبية، بل هو قراءة سريعة ومختزلة لمآلات الجهالة في أعلى درجاتها، وتعبير صارخ عن ثقافة الخضوع التي تخترق وعي البسطاء.

لكن المأساة لا تتوقف عند هذا الحد من السذاجة السياسية، بل تتجاوزها إلى الواقع الذي يبعث على الكفر بالسياسة وبالمشروع الإصلاحي.

***

في خضم هذا المشهد الكارثي، علينا أن نتذكر تلك اللمسة “الإيمانية” التي سبقت نصر “لشكر” الأخير…

علينا أن نتذكر أن إدريس لشكر، وقبل أيام من مؤتمره المشؤوم الذي أجهز على ما تبقى من إرث الاتحاد الاشتراكي، قام بزيارة خاصة لضريح ولي صالح بركراكة.. لم تكن الزيارة لطلب المغفرة أو الرشد، بل كانت لـ “الاستبرَاك من الولي الصالح” وطلب المدد في العمل السياسي…

نعم، وقف “الرفيق” أمام الضريح، ودعا الولي الصالح صراحة أن يوفقه في تحقيق ما يعتبره الآخرون من المستحيل: “التربيع بعد التثليث”، أي الفوز بولاية رابعة بعد أن ضمن ثلاث ولايات سابقة.

وكان الولي الصالح بالمرصاد.. فقد استجاب للدعوة.. وكان للمتقرفد ما طلب!

هنا، تكتمل حلقة الجنون، يتحول الزعيم الذي يدَّعي الانتماء إلى الاشتراكية العلمية والعقلانية، إلى زبون وفيّ للبركة والمزارات، يجمع ببراعة بين رئاسة الحزب التائه والتعلق بأذيال الأولياء، ليضمن بذلك استمرارية الفساد على حساب المشروع.

يا لها من نهاية درامية مؤلمة ومضحكة في آن.. خصوصا بعد أن اختُتم “مهرجان بوزنيقة” بالزغاريد وبصيحات الهتاف الصارخ: “يا مهدي… يا عمر…”…؟؟؟

والمقصود من وراء هذا التهليل المكشوف هو الإيحاء بأن لشكر يسير “على خطى الشهداء” الأوائل، وعلى رأسهم المهدي بنبركة وعمر بنجلون.. إنها محاولة بائسة لسرقة التاريخ وإلباس الفساد ثوب الثورية.

يا له من بهتان مفضوح.. وكأن الولاية الرابعة المدعومة بـ “بركة الأضرحة” والمحققة عبر “مجازر المؤتمرات” يمكن أن تتطهر بمجرد ذكر أسماء من دفعوا حياتهم ثمنًا لقضية نبيلة…

https://www.facebook.com/reel/1148760783414286

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!