النقاشات الرقمية حول الصراع الإيراني الإسرائيلي

أحمد لعيوني
لقراءة الأبعاد السيكولوجية الخفية التي تتحكم في النقاشات الرقمية حول الصراع الإيراني الإسرائيلي ينبغي تقديم بعض التوضيحات حول ما يسمى في التحليل النفسي “إسقاطات الهوية واضطرابات الانتماء”.
منذ أن اشتد التوتر بين إيران وإسرائيل، تفجّرت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصًا فيسبوك، موجة من النقاشات الحادة التي تتجاوز في كثير من الأحيان مستوى التحليل السياسي لتغرق في أوحال التخوين والانفعالات والمواقف المتشنجة. وأخذ النقاش يتحول لصراع عقائدي بين أنصار المواقف المختلفة، بحيث تغيب فيه الموضوعية والعقلانية لتحل محلها الانفعالات، والتأويلات الدينية، والاصطفافات العاطفية. غير أن ما يبدو ظاهريًا جدالًا عقائديًا أو خلافًا سياسيًا، يخفي خلفه طبقات أعمق من الدوافع النفسية والجماعية التي تستحق التأمل والتحليل.
الفضاء الرقمي، في هذا السياق، ليس مجرد مرآة للرأي العام، بل هو ساحة لإعادة إنتاج الهويات، ولتصفية الحسابات السيكولوجية المرتبطة بالانتماء، بالخوف، وبالحاجة إلى الانتصار الرمزي.
الهوية المذهبية كدرع نفسي
جزء كبير من المتفاعلين مع الصراع لا يتعاطون معه كقضية سياسية، بل كقضية تمس ذواتهم العميقة. فإيران، سواء بالنسبة للمنتقدين أو المتعاطفين، فهي إما تهديد للذات لهؤلاء، أو تعبير عن النقاء العقدي لأولئك. وهذا ما يسميه علم النفس الاجتماعي بـ “تطابق الهوية” ( Fusion d’identité) حيث يُربط الحدث الخارجي بالانتماء الداخلي بشكل آلي وغير عقلاني.
الانفعال بدل التحليل : العجز المقنّع
في علم النفس الدفاعي، ثمة مفهوم يُعرف بـ “الإزاحة” (Déplacement psychologique)، حيث يتم تفريغ مشاعر القلق أو الغضب في هدف بديل أسهل. وفي حالتنا هاته، نجد أن مشاعر القهر الجمعي، والإحساس بالهزيمة أو العجز، تتحوّل إلى عدوان رقمي شرس يُفرّغ ضد المخالفين في الرأي أو المذهب، بدلًا من التوجه نحو فهم الواقع أو التأثير فيه. هنا، لا يبحث الفرد عن الحقيقة، بل عن الانتصار النفسي على خصم افتراضي يهدّد تماسكه الداخلي.
التنافر المعرفي والانسحاب الرمادي
بالمقابل، هناك فئة من المتابعين تعيش ما يُعرف بـ “التنافر المعرفي” (Dissonance cognitive)، حيث تتصادم القيم الأخلاقية والمذهبية أيضا مع المعطيات الواقعية : كيف يمكن تصور إيران داعمة للمقاومة، وفي الوقت نفسه متورطة في صراعات طائفية؟ هذا التنافر المعرفي يدفع بعضهم إلى اتخاذ موقف الحياد السلبي، أو اللجوء إلى relativiser كل شيء، وهو سلوك دفاعي نابع من الرغبة في الهروب من الإحساس باللا يقين.
فيسبوك كغرفة صدى لللاشعور الجمعي
لا يمكن إغفال أثر البنية الرقمية نفسها في تضخيم هذه الظواهر النفسية. فخوارزميات فيسبوك تُفضّل المحتوى المثير والمستقطِب، مما يعزّز “الاستقطاب العاطفي” (Polarisation Affective) ويجعل النقاش ساحة لصراع غرائزي أكثر منه مساحة للتفكير النقدي. هذا ما يُشبه إلى حد كبير ما وصفه فرويد بـ “تفريغ اللاوعي في الحشد”، حيث تتحول الجماعة إلى كيان بدائي ينشد الانتصار لا الفهم. وما يحدث على فيسبوك ليس معزولا عن واقعنا الثقافي والسياسي، بل هو انعكاس لصراعات مكبوتة، وهويات مأزومة، وأزمات عميقة. فمجتمعاتنا لم تحسم بعد علاقتها بالمقدس، ولا بالدولة، ولا بالآخر المختلف عقديا ومذهبيا. فالمعركة الحقيقية تكمن داخل العقول التي لم تتعلم بعد كيف تفكر بحرية، وتحاور باحترام، وتقاوم بوعي، وتحاول التمييز بين السياسي والعقدي، وأن الصراع مع إسرائيل قضية تحرر، لا شأن لها بالمذهب أو الهوية الطائفية. الصراع بين إيران وإسرائيل، وإن كان سياسيًا في جوهره، إلا أن تلقيه الرقمي في الفضاء العربي يكشف عن جروح نفسية أعمق، تتمثل في أزمة هوية، وعقدة مهدَّدة، وخوف من الفناء الرمزي. ولكي نفهم هذا الجدل بحق، علينا أن ننتقل من التحليل الإخباري إلى التحليل النفسي، من رد الفعل إلى فهم الدافع، أو بمعنى آخر : نحن في أمس الحاجة إلى وعي سيكولوجي جماعي.
فإن لم نُفلح في إصلاح السياسة، فقد نتمكن من البدء في إصلاح وعينا بها.