الوطن على حافة الانهيار.. حاكمين ومحكومين

عبد الرحمان الغندور
ها قد يقع ما حذرنا منه في مقالاتنا السابقة، حين دعونا للحكمة، واعتبرنا الكرة في المربع الملكي، ودعونا الملك نفسه كضامن دستوري لسلامة المؤسسات ووحدة الوطن للتدخل من اجل إيقاف النزيف. وها نحن نستيقظ على التطورات الرهيبة والمرعبة والمنذرة بأوخم العواقب، حيث امتدت الأشباح الجانحة والمجرمة في جنح الظلام لتعمّق جراح المشهد. فصوت الرصاص لن يكون محض حدث عابر أو صدفة عمياء، بل هو الثمرة المرة للتركيبة المعقدة للمشهد. فمن جهة أولى، هناك الطبيعة المجتمعية للمحتجين الشباب وللظاهرة الاحتجاجية، التي لا تخلو من المارقين والجانحين وذوي السوابق، وقد نغامر بالقول بأنها قد تتضمن تسربات ممنهجة fuites systématiques لفاعلين مسخرين لجهات خارجية تسعى لضرب الوحدة الوطنية، أو لجهات داخلية متصارعة تسعى لتصفية حسابات سياسية بينها على حساب الدولة والوطن. ومن جهة ثانية فما حدث من لعلعة الرصاص يعود أيضا للسياسات المتصلّبة التي ظنّت أنها تُحكم السيطرة، بينما كانت تنسف، على نحو منهجي، أسس التماسك المجتمعي وتقوّض القنوات الطبيعية للحوار والتوجيه.
لقد انطلقت الموجة الاحتجاجية الجديدة من رحم جيل متطلع، حاملاً معه رؤى مثالية وسلوكاً سلمياً وحضاريا، حيث تحولت الهواتف إلى منابر للتعبير بدلاً من أدوات العنف، وحلّت لغة المطالب الواضحة محل خطاب اليأس والرفض المجرّد. لكن الاستجابة الرسمية لهذا المدّ السلمي كانت قاسية وعمياء، تمثّلت في إجراءات قمعية صمّاء وإغلاق لأبواب الحوار. والتاريخ يشهد بأن إجابة المطالب المشروعة بلغة القمع لا تنتج سوى الفراغ الذي يتحوّل إلى تربة خصبة لظواهر غامضة تستثمر حالة اللااستقرار، من أجل التخريب والتدمير والنهب، محوّلة الساحة من فضاء للمطالبة إلى ساحة للمواجهة التي تستدعي استعمال الرصاص، حيث انتهى الأمر بسقوط ضحايا في حادثة وُصفت رسمياً على أنها “دفاع عن النفس”، فيما كانت تقارير متضاربة تتحدث عن استهداف لمنشآت أمنية ومحاولة للاستيلاء على معدات، وسط عمليات تخريب طالت ممتلكات عامة وخاصة. وتكرّر المشهد في أكثر من مكان، حيث تم إحراق مؤسسة مالية وتدمير محتوياتها، مع استهداف لمركبات أمنية، فيما شهدت الأجواء حملات توقيف واسعة. هذا النمط المتكرّر من الهدوء النهاري الذي يتحوّل إلى فوضى ليلية يطرح أسئلة محيّرة عن هوية هذه العناصر، وعن توقيت ظهورها الدقيق بعد انتهاء التجمّعات السلمية، وكيفية نجاحها في الحركة بهذا الحجم رغم الوجود الأمني، مما يثير الريبة والشك ويطرح ألف سؤال وسؤال.
لكن جوهر الوباء، يكمن في عملية الاقصاء والتهميش والتبخيس الممنهجة التي طالت الحياة السياسية على مدى سنوات، حيث تم إفراغ مؤسسات الوساطة بين الدولة والمواطن من مضمونها. وتحوّلت التنظيمات الحزبية إلى ديكور شكلي، وفقدت النقابات استقلاليتها ومصداقيتها، وأصبحت المنظمات المدنية تحت شبهة دائمة، بينما تحوّل الإعلام إلى ساحة للتشويه بدلاً من أن يكون منصة للحوار الهادف.
لقد أضعفت الدولة نفسها بنفسها، وظنّت أنها تكتسب قوة، بينما كانت تخلع عنها دروعها الواقية واحدة تلو الأخرى، لتجد نفسها اليوم عاجزة عن مواجهة التحديات، بلا أطر فاعلة قادرة على الوساطة، ولا وجوه ذات مصداقية تستطيع تهدئة الأجواء. فأين تلك النخب التي تتمع بامتيازات غير مبرّرة؟ وأين وسائل الإعلام التي بُنيت على أنقاض الوظيفة الحقيقية لها؟ وما دورها اليوم في بناء جسور الثقة أو احتواء الأزمة؟ الجواب هو الصمت المخجل أو التبرير الببغاوي لما تقوله الدولة.
لقد نبهنا وحذرنا كثيرا من أن ما نعيشه اليوم هو تجلٍّ لأزمة هيكلية عميقة تمسّ كيان الدولة بأكمله، ولا يمكن تحميل الحكومة الحالية وحدها تبعات الانهيار، رغم أنها الوجه الأبرز لهذا العجز. أيام من التوتر والملاحقات تمرّ دون موقف عملي ميداني مسؤول، خاصة من القوى السياسية التي تقود المشهد. وغياب الموقف لا يتناسب مع مؤسسات تُموّل من أموال دافعي الضرائب الذين يطالبون فقط بحقوق أساسية: رعاية صحية لائقة، تعليم ذو جودة، فرصة عمل كريمة.
كما أننا منذ سنوات ونحن نؤكد على أن الحقيقة التي يجب مواجهتها هي أن النهج الأمني الصارم الذي ساد لسنوات لم يحقق استقراراً حقيقياً، بل أوهم منفذيه بأنهم “انتصروا” على حراكات سابقة، معتبرين أي احتجاج ظاهرة مرضية عابرة يجب استئصالها بدلاً من اعتبارها جرس إنذار يستحق الإنصات.
ومع ذلك، لا بد من التمييز الواضح بين الاحتجاج السلمي المشروع وأعمال التخريب. فمن يحطم الممتلكات العامة والخاصة أو يهاجم المنشآت لا يمثل امتداداً للحراك الاجتماعي، بل يشوّهه ويطعنه في الظهر، سواء كان مصدره المجرمين وذوي السوابق أو كان من طرف الايدي الخفية، الخارجية أو الداخلية التي تلعب في الظلام. ومن واجب الشباب الواعي حماية مطالبهم من خلال عزل هذه العناصر، والحفاظ على السلمية كخيار استراتيجي، لأنها مصدر القوة الحقيقية. فالمسؤولية هنا مشتركة، وإن كانت مسؤولية الدولة أكبر، فهي صاحبة السلطة والموارد والقدرة على صنع القرار، وصاحبة القدرات اللوجيستيكية المبهرة.
كما أنه رغم قتامة المشهد وخطورته، فإمكانية الحلول تظل متوفرة كلما حضرت الحكمة والحس الوطني. والذي يبدأ من الاعتراف الجريء بأن الوطن يجني ما زرعته السياسات المتبعة، وأن الطريق إلى التعافي يمر عبر إعادة إحياء السياسة الحقيقية. وهذا يتطلب:
– الإفراج العاجل عن كل المعتقلين بسبب مشاركتهم السلمية في الاحتجاجات.
– فتح تحقيقات نزيهة وشفافة في كل حالات استخدام القوة المفرطة، وبنفس مستوى الجدية الممنوحة لا بد من التحقيق في أعمال التخريب والعناصر المسؤولة عنها، سواء كانوا من ذوي السوابق أو من طرف جهات مدسوسة، وأجهزة مخابراتنا تمتلك من القدرات والكفاءات ما يجعلها قادرة على ذلك.
– إعلان هدنة مجتمعية يلتزم فيها المحتجون بوقف مؤقت للاحتجاجات وحماية الممتلكات، وتتعهد فيها السلطة بإجراءات ملموسة: فتح حوار شامل، وضع جدول زمني ملزم للإصلاحات العاجلة، مراجعة شفافة لسياسات الإنفاق، وإعادة فتح الفضاء الإعلامي أمام جميع الأصوات.
كما تتطلب إعادة إحياء السياسة إطلاق أوراش إصلاحية هيكلية حقيقية لإعادة بناء المؤسسات الوسيطة، من أحزاب تختار قياداتها بحرية، ونقابات مستقلة، ومنظمات مجتمع مدني تعمل دون مضايقات، وإعلام حر يخضع لمعايير المهنية.
بدون هذه الخطوات، سنبقى ندور في حلقة مفرغة من القمع الواهم الذي يزيد الهشاشة وسهولة الاختراقات، وشباب غارق في اليأس، وشوارع تعيد إنتاج كوابيس الفوضى. ومن السذاجة الادعاء بأن “الأمن يأتي قبل السياسة”، فالأمن الحقيقي لا يُبنى إلا على سياسات عادلة وشفافة. والهدوء المُفروض بالقمع ليس سوى صمت مؤقت يسبق العاصفة. وما حدث يؤكد أن واجب المرحلة لا يقتصر على إعادة النظام الظاهري، بل يتعداه إلى إصلاح العقد الاجتماعي المنهار. لأن خيار تجميد الحياة السياسية لا يقوّي الدولة، بل يجردها من حصانتها الأخلاقية والاجتماعية. فيصبح الثمن يجعل الدولة عاجزة أمام أعمال التخريب، والمجتمع يعاني تحت وطأة الخوف والإحباط.
ومع هذا، يبقى الأمل ممكناً. وطريقه كلمة حق من أعلى الهرم، ولو بإعلان حالة استثناء أو حالة طوارئ، يقابلها تهدئة حكيمة من القاعدة، وفتح مسار إصلاح واضح وحقيقي، يربط بين الموارد العامة وتحسين الخدمات الأساسية وتوفير فرص العمل. وإلا فسنظل في منطقة الزوابع الكارثية التي لن ينجو من عواقبها أحد حكاما ومحكومين.