الوَرْدَةُ التِّي تُوبِّخُ العَالَم
عبد الرحيم التوراني
عبارة بسيطة طالعتها مرة على صفحة فيسبوك، لكنها لامست شيئا عميقا في نفسي. تقول العبارة: حتى “بائعة الورد ستفرح إن أهديتَ لها وردة”.
لما توقفتُ عند العبارة أدركتُ أن المسألة ليست في الورد، بل في الحاجة إلى التأكيد والاعتراف، وبدأتُ أُحلل المشهد الذي يتردد صداه في كل مكان، من مرآة السيدة إلى قاعات السياسة.
تأملتُ في النساء، فرأيتُ أن الأمر يتجسد في نوعين من الجمال والحاجة.
تلك التي تمتلك الحُسن والفتنة الطبيعية، تراها تبتسم وهي تحب أن تُنعت بالجميلة. إن حاجتها هي حاجة لتأكيد الواقع، كأن تقول لها: “نعم، إنَّ جمالك حقيقة”.. إنها تطلب التوقيع على صك ملكية تمتلكه بالفعل.
ولكن، ما يثير الدهشة هي الفئة الأخرى، من اللواتي يعشن في حاجة دائمة وملحة لمن يكذب عليهن، تجدهن تبتسمن بغرور عندما يُقال لهن: “أنتِ جميلة، بل وأكثر من جميلة..”.. إن حاجتهن ليست للتأكيد، بل للتعويض.. إنهن بحاجة إلى هذا الكذب اللطيف.. هذه الجملة الساحرة، التي تخلق لهن واقعاً نفسيا موازيا يمكنهن من خلاله مواجهة العالم والمنافسة فيه. كلما كان الوجه أقل حسنا في المرآة، زاد ارتفاع صوت من يؤكد لهن جمالهن.. حتى يترسخ الوهم.
هذا الإدراك يجعلنا نقفز بتفكيرنا من الجمال الشخصي إلى عالم السياسة. سنجد أن هذا الهوس بالاعتراف المزيف لا يبلغه أحد بقدر ما تبلغه الدول والكيانات غير الديمقراطية.. إذ لا يتفوق على هؤلاء المغرورات، رغم قبحهن الظاهر، سوى تلك الدول والأحزاب التي تزعم أنها ديمقراطية.
نجد تلك الدول والأحزاب فاقدة لأدنى معايير الحرية والعدل والديمقراطية، لكنها تصرخ في وجه العالم: “نحن الديمقراطية”…
إن هاته الفئة لا تكتفي بالزعم، بل تحب أن يقال عنها ذلك علنا.. إنها تشتري أقلام الصحفيين الأجانب وفئة المؤثرين المحليين، وتستأجر خبراء العلاقات العامة، وتدفع أموالاً طائلة لصبغ هذا الوصف عليها. إنها تبحث عن الوردة الكاذبة التي تؤكد جمالها السياسي الزائف.
ومن شدة الكذب المُنظَّم، ومن تكرار الجوقة الإعلامية التي تدور في فلكها، يترسخ لدى قياداتها الاعتقاد بأنها فعلاً دولة ديمقراطية.
تُصاب هذه الدول والأحزاب بوهم الامتلاك السياسي. تتحول حاجة التعويض إلى غرور وطموح أعمى.
يتطور الأمر إلى درجة تعتقد فيها هذه الكيانات أنه أصبح لديها “فائضاً” مزعوماً، مستعدة لـ “تصدير ديمقراطيتها” المتوهمة إلى الدول والهيئات الأجنبية التي تحاول جاهدة بناء مؤسسات حقيقية…
إنه المضحك المبكي حقا، حيث إن من يعيش في بيت وسخ، يصر على تعليم جيرانه نظافة المنازل.
يذكرنا هذا برائحة البقايا المتعفنة التي تحاول أن تلبس ثوب المجد. نعم، هذا المشهد تحديدا، مشهد المخلوق الحزبي المهترئ، هو التطبيق الأقسى والأكثر سخرية على قاعدة “الكذب السياسي”.
نستطيع أن نرى المشهد بوضوح: غرفة مُضاءة بشكل سيئ، ربما تفوح منها رائحة الغبار والدخان والورق القديم. يجلس هو، المخلوق الحزبي المهترئ، وقد جمع حوله ما تبقى من الفلول، أفرادٌ لا يجمعهم مبدأ بقدر ما يجمعهم الولاء للكرسي، ولهفة وصولية للحصول على التزكية للترشح في الانتخابات، أو التعيين في منصب بأحد المجالس الاستشارية…
أراه يضرب على الطاولة بيده المغلولة، التي ربما ارتجفت قليلاً من وهن السنين أو ثقل الكذب، ويصرخ بأوداج منتفخة كأوداج “الغياط”: “نحن اليسار..”…
ياله من مشهد.. هذه الصرخة ليست إعلانا لوجود، بل هي توسلٌ لإنكار العدم.. إنها محاولة يائسة لخلق حقيقة صوتية في وجه حقيقة الواقع المهترئ.
التباعد بين الصرخة والواقع هنا مذهل.. أعلم كما تعلم أنت.. أن لا ذرة تجمع “صاحبنا” باليسار الحقيقي، لا في المبدأ، ولا في الممارسة، ولا في التوجه نحو طبقة الكادحين. لأن اليسار هو الانحياز للفقير، وهو النقد للسلطة، وهو الحلم بالتغيير الجذري... لكن ما يمثله هذا المخلوق هو “اليسار المخزني”.. هذا هو الوصف الأصدق. إنه اليسار الذي يركع تحت أقدام السلطة العميقة، وقد تحول من أداة للتغيير إلى مجرد ذراع تخدم النظام وتمنحه شرعية زائفة، مغلفة بخطاب حماسي قديم.
يسار “خدام الدولة”، أو “اليسار اليميني”.. الذي تخلى عن شعاراته الاقتصادية العادلة، ليتبنى برامج رأسمالية متوحشة، وليشارك في توزيع الثروات على طبقة النخبة. هو يسار يدفع العمال للهتاف بحياة مستغليهم، وبتأييد ومساندة الظلم والفساد.
يسار كاريكاتور، هذا الذي تشوه في الطريق، فصار مجرد هيكل أجوف يعيش على أمجاد الماضي وصور الشهداء، ويأكل من فتات الموائد. هو يسار بلا مبدأ، يسار فقد البوصلة وتحول إلى عبء على الحركة التي يدعي تمثيلها.
وهذا الكائن السياسي، هو النسخة الأكثر بؤساً من المرأة غير الجميلة التي تصر على سماع المديح. إنه يصرخ “نحن اليسار” ليس قناعة، بل لأن اسمه القديم هو الشيء الوحيد الذي يملك قيمته السوقية الباقية، حتى لو كانت قيمة بالية.
والحقيقة المؤلمة هي أنه عندما يصرخ “نحن اليسار“… يكون المعنى الحقيقي الكامن في صوته هو: “أيها الناس… لا تنسوا أننا كنا هنا يوما…”.
لقد ورث هذا المخلوق المهترئ شعار الوردة الاشتراكية.. ذلك الرمز النبيل للعدالة والعمل الجاد والجمال الذي يُهدى للعمال.. وهو يتمنى أن يهديه الآخرون.. المراقبون أو الأنصار المفترضون، تلك الوردة التي تؤكد شرعيته كـ “يسار”.
وهو يتوسل في صمت: “الله يرحم والديكم.. اعترفوا بي.. أعطوني الوردة التي تؤكد أنني ما زلت جزءاً من التغيير والحلم…”..
ولكن، عندما لم يتقدم أحد، ولم تُبادر أي يد لتلبية أمنيته أو إهداء الشرعية الكاذبة، لم يستطع الانتظار. لقد وصل إلى مرحلة لم يعد فيها الكذب كافيا، بل يجب أن يتحول إلى مشهد مادي ملموس.
فشاهدناه يرسل في طلب الورد من السوق، لكنه لم يطلب الورد الطبيعي الذي يحمل شذى التراب والجهد، بل طلب الورد البلاستيكي المُزيف.
ثم قام بـ “تتويج ذاته“.. فرش مقره الفخم والمترنح بالورد البلاستيكي اللامع، وجلس فوقه، بغرور لا يناسب حجمه، مباهيا وصارخا: “أنا هو الورد المتورّد الاشتراكي الندي…”…
جلس هذا المغرور فوق عرشه الزائف، ونسي أن البلاستيك الذي صُنعت منه وروده المزيفة وخزه تحت مؤخرته.
إن شعاراته زائفة، ومبادئه هشة، وهي تخدع السمع والبصر، لكنها لا تستطيع أن تخدع الملمس والحس. وهذا الألم الذي لا يدمي ولكنه يوخز، هو ألم الحقيقة المعلقة، هو الإحساس بأن كل هذا المجد المصنوع هو مجرد مادة مصطنعة لا تنتمي إلى الأرض أو الطبيعة أو الصدق.
هذا المخلوق، بجلوسه فوق وردته البلاستيكية، يمثل نهاية كل ادعاء، عندما تفقد المبدأ، وتحاول تزيين الواقع، فإنك تجلس على حقيقة قاسية توخزك، وتمنعك من الشعور بالراحة أو الرضا، حتى لو لم تُدمِكَ.
***
المخلوق الحزبي المهترئ، الذي صرخ يوماً في غرفة مغبرة “نحن اليسار”، وجلس مباهياً فوق الورد البلاستيكي الذي اشتراه لنفسه، لم يجد في النهاية مكانا له سوى العراء الملتهب الذي تلتقي فيه كل الأوهام الزائفة.
لقد تحول هذا المخلوق، الذي كان الحزب الذي استولى عليه يحمل يوما ما شعارا ثقيلا، تحول إلى واحدة من إحدى المشتغلات بأقدم مهنة في التاريخ.. هذه المهنة ليست مهنة الجسد فحسب، بل هي مهنة بيع الذات والضمير مقابل الاعتراف أو المنفعة الزائلة.
يقف فوق عراء الشارع الذي خانه هذا المخلوق طويلا. إنه يمثل النهاية التي لا مفر منها لكل من يبيع مبادئه، أو الزيف الكامل الذي ينتظر من يشتريه. وها هو ينتظر الانتخابات، ويتوسل المنصب الوزاري، ويتطلع إلى الاقتراب من القوة والتمسح بأهداب السلطة، وهو في هذا المشهد مثل تلك التي تنتظر زبونا عابرا يمنحها لحظة من الشعور بالوجود.
أما العبارة التي ينتظرها من هذا “الزبون” فهي ذروة السخرية التي تدمي: “أنتِ جميلة، ولا تستحقين بوقوفك الطويل في العراء وقسوة البرد.. كل هذا التعب.. أنت لا تستحقين وردة.. لأنك أنتِ بستان الورود البلاستيكية كله!”
***
في ختام هذا التذكر الطويل عن الوردة الحقيقية والوردة الزائفة، وعن صرخات المخلوقات الحزبية المهترئة، يجب علينا أن نعود إلى الصدق الأصيل، إلى صوت الروح التي لم تعرف الزيف.
نترحم على شاعرنا المغربي الجميل، أحمد بركات، الذي رحل مبكرا في ريعان شبابه، تاركا لنا إرثا من الكلمات التي لم تخف أبدا من مواجهة الحقيقة. لقد حمل ديوانه عنوانا يلامس عمق كل صراع في الوجود: “أبداً لن أُساعد الزلزال“…
هذه العبارة ليست مجرد شعر، بل هي بيان وجودي ورفض أخلاقي قاطع، هي إعلان من الشاعر بأنه لن يكون جزءاً من قوى التدمير، ولن يكون أداة في يد العنف، سواء كان عنف الطبيعة أو عنف السلطة.
وهذا يقودنا إلى قصيدته الخالدة التي تلخص كل ما تحدثنا عنه: “حَذِرٌ، كأني أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم…”.
الوردة التي توبخ ليست وردة بلاستيكية، إنها ليست رمزاً مزيفاً للجمال يُشترى بالمال ويُوخِزُ بالزيف. إنها وردة حقيقية، تحمل هشاشة وجمال الطبيعة.
إنه توبيخٌ صامتٌ للدول التي تدعي الديمقراطية وهي تغتال حرية مواطنيها... للأحزاب التي تصرخ “نحن اليسار”.. وهي تخدم اليمين. للنفوس التي ترضى بالكذب لتعوض نقصها.
رحم الله الشاعر. فقد ترك لنا وصية أن نكون حذرين، وأن نحمل الجمال، لكن جمالاً لا يخشى أن يتحدث بصوت الحقيقة ليوبخ الظلم والقبح.
