باحثون في التراث البرتغالي بدكالة بين الاستقلالية وغياب الدعم

تجربةُ الثلاثي ضريف واجماهْري وعوّام
أحمد لعْيوني
♦ ترُكز هذه المقالة على تجربة ثلاثة باحثين في تاريخ منطقة دكالة وهم الجلالي ضريف، المصطفى اجْماهري، وعبد اللطيف عوّام. كما تحاول إبراز المجهود التطوعي الذي يبذله هذا الثلاثي من أجل التعريف بالتراث المغربي البرتغالي الذي تزخر به المنطقة في ظل غياب أي شكل من أشكال الدعم♦
في حوار للمفكر عبد الكبير الخطيبي مع جريدة “الأحداث المغربية” بتاريخ خامس ماي 1999، حثّ الخطيبي على “تشجيع الأطر الراغبة في البحث عن طريق توفير إمكانيات محلية وعن طريق خلق تعاون مع مؤسسات خارجية”. ويظهر من قولة الخطيبي أنه هنا لا يتحدث عن انتماء الباحث إلى مؤسسة جامعية أو إدارية بل يقصد أيضا الباحثين المستقلين. ذلك أن المعيار الوحيد الفارق لديه هو حضور الرغبة في البحث من عدمها. والرغبة الحقيقية، كما هو معلوم، ليست مجرد أمنية، بل عملا يتجلى من خلال نشر الكتب والمساهمة في المجلات والمشاركة في الملتقيات والندوات ذات الصلة.
من هذا المنظور الخطيبي يعمل ثلاثة باحثين متطوعين، ومنذ ثلاثين سنة، على إغناء الرصيد التاريخي حول جهة دكالة وخاصة منه المتعلق بحاضرتي الجديدة وآزمور. هؤلاء الباحثون وهم الجلالي ضريف والمصطفى اجْماهْري وعبد اللطيف عوام لهم مساهمة طويلة في البحث الميداني ويجتهدون بشكل تطوعي خارج أية مؤسسة إدارية أو جامعية أو بلدية. وفي عملهم هذا ينصب مجهودهم على إحداث تراكم معرفي وتوثيقي في حقل التاريخ المحلي. أما دوافعهم للانخراط في ذلك فهي الشغف بالثقافة والاستعداد النفسي والانتماء للمنطقة.
ويتجلى هذا المجهود الجماعي المبذول بشكل ملموس في صيغ مختلفة تتباين بين نشر كتب أو مقالات ودراسات في مجلات وكذا مداخلات ومحاضرات تُلقى في مناسبات مختلفة. ولا يقف اهتمام الباحثين عند تيمة معينة أو جزئية خاصّة بل تشغلهم جميع الثيمات بما فيها المجال والإنسان والعادات والتاريخ والذاكرة، ما دامت كلها تدخل ضمن حدود منطقة البحث، أي دكالة. بمعنى أن عنصر المكان هنا هو المعيار الحاسم.
في سياق هذا الاهتمام الشامل بالمنطقة المذكورة يندرج انكباب الباحثين الثلاثة على تاريخ الوجود البرتغالي بدكالة والتراث المشترك المغربي البرتغالي على اعتبار أهميته الكبيرة بالنسبة لحاضرتي الجديدة وآزمور وخاصة منذ تسجيل المدينة البرتغالية لمازغان سنة 2004 في قائمة التراث العالمي.
وقد نشر الباحثون عشرات الدراسات في الموضوع وساهموا في عدة لقاءات نُظمت بالجديدة وأزمور وكذا خارجهما في بعض المناسبات. ويمكن الإشارة بالنسبة لمنجزات الجيلالي ضريف إلى دراساته : “الاستراتيجية المائية للبرتغاليين بمازغان”، “مازيغن المدينة المرسى حاضرة البحر”، “كتابات وشعارات برتغالية منقوشة على الحجر بقلعة مازغان”، “القانون التنظيمي للساحة العسكرية مازغان في نهاية القرن 17″،”أماكن الذاكرة بالجديدة ومتلازمة المشاعر التراثية”، “المقاومة المغربية للوجود البرتغالي بدكالة”، و”العلاقات بين دكالة والبرتغال خلال احتلال آزمور ومازغان”.
كما يساهم الباحث ضريف ككاتب عام لجمعية ذاكرة دكالة للمحافظة على التراث في إعداد ملفات مجموعة من المعالم التراثية المحلية بغاية تسجيلها في لائحة التراث الوطني، ومن بينها ملف النقوش والكتابات البرتغالية المنحوتة على الحجر بالمدينة البرتغالية المحصنة مازغان.
ونشر المصطفى اجْماهْري في ذات الموضوع مجموعة دراسات، منها: “لغز المقبرة البرتغالية بمازغان”، “بناية الصابة المختفية بقلعة مازغان”، “كيف استحوذت زوجة القنصل البلجيكي على المسقاة البرتغالية؟” والعلاقات بين دكالة والبرتغال بعد تحرير مازغان”. كما ساهم سنة 2004 في حلقتين من البرنامج التلفزي المغربي “كان يا ما كان” خُصصتا لقلعة مازغان، فضلا عن مداخلتين في الموضوع على أمواج الإذاعة المغربية شين أنتير كولتور سنة 2025. ولهذا الباحث أيضا كتاب مشترك بالفرنسية مع الدكتور كرستيان فوشير صدر سنة 2012 تحت عنوان “مازغان تراث عالمي للإنسانية“. هذا الكتاب يكاد يكون الوحيد من نوعه المتاح حاليا للقراء في المكتبات.
وكان المصطفى اجماهري قد حاز سنة 2001 على ميزة الشرف في المباراة الدولية الرابعة لأحسن المقالات الصحفية حول التراث من تنظيم المعهد الدولي لدراسات المحافظة على التراث بروما.
أما الباحث عبد اللطيف عوّام فهو بمثابة الجندي المجهول بآزمور، يتركز مجال عمله على مدينة آزمور وتاريخها وجغرافيتها بما فيها من تراث برتغالي موروث من القرن السادس عشر. وقد أنجز عدة أبحاث في الموضوع من بينها : “الاحتلال البرتغالي لآزمور، المراحل والوسائل”، ويتضمن جوابا عن السؤال : هل كان احتلال آزمور عقابا من الله لأهل آزمور، كما يدّعي الحسن الوزان؟ وهو جزء من دراسة شاملة بعنوان: آزمور من خلال وصف إفريقيا لحسن الوزان، شارك بها في ندوة أقيمت بكلية الآداب بالجديدة، ونُشرت في كتاب: “الأبعاد التاريخية والأنثربولوجية في مصنفات الرحلة”. ومن دراساته أيضا: “البرتغاليون في آزمور”، وتحتل ست صفحات من مونوغرافيا مدينة آزمور، قام بترجمتها من الفرنسية، ونُشرت ضمن كتاب: “المغرب وإفريقيا: دراسات تاريخية ومنهجية (مهداة إلى روح الفقبد الحسين بولقطيب). كما ترجم كتاب جان دوتوي بعنوان: “تاريخ مدينة آزمور، ما قبل الفتح الإسلامي إلى إعلان الحماية”، وهو يتضمن فصلا عن الفترة البرتغالية.
وكانت للباحث عوّام عدة مشاركات اهتمت بالتراث المغربي البرتغالي وذلك في ندوات علمية من بينها ندوة كلية آداب الجديدة سنة 2004 حول “آزمور حاضرة دكالة”، وندوة “المغرب وحوض البحر الأبيض المتوسط” المنظمة بالمكتبة الوسائطية بالجديدة سنة 2021، وندوة جمعية ذاكرة دكالة للمحافظة على التراث سنة 2022 المنظمة أيضا بمدينة الجديدة.
وكما يلاحظ من الأمثلة المذكورة يتعلق الأمر هنا ببحوث مبتكرة غالبا ليست مسبوقة على اعتبار أنها تنطلق من أسئلة مستجدة، أو من تساؤلات قديمة لم يتم الاهتمام بالجواب عنها، وأيضا من خلال معاينة الواقع الراهن لهذا التراث والذي يعرف في السنين الأخيرة إكراهات مختلفة على مستوى الصيانة والحماية والتثمين. فالمآثر التاريخية بدكالة ومنها الموجودة بالجديدة وآزمور تعاني بشكل ملحوظ من الإهمال الكبير والتآكل ومن غياب أي تفكير استثماري ثقافي أو سياحي في الأفق المنظور.
وكنماذج للدراسات غير المسبوقة التي قام بها الباحثون الثلاثة، دراسة ضريف حول النظام المائي للقلعة البرتغالية، ودراسة اجماهري حول لغز المقبرة البرتغالية بالجديدة، ودراسة عوّام حول الاحتلال البرتغالي لآزمور واستنزاف سمك الشابل.
ويعمل الباحثون الثلاثة بإمكانياتهم الذاتية وفي ظروف غير ميسّرة من حيث عدم وجود أرشيف محلي، وافتقاد مكتبة مختصة بمركز التراث المغربي-البرتغالي المستقر بالجديدة، فضلا عن تحملهم لتكاليف التنقل واقتناء المراجع، كل ذلك في سبيل خدمة مصلحة عامة وفي غياب تام لأي اهتمام جدي أو دعم مادي بطبع بحوثهم، مثلا، في مؤلف جماعي. هذا علما بأن الجهات المعنية بالموضوع متعددة : بلدية الجديدة، بلدية آزمور، المديرية الجهوية للثقافة للدار البيضاء-سطات، المجلس الجهوي للسياحة، فضلا عن المؤسسات الصناعية والسياحية الكبرى الموجودة بمنطقة دكالة والتي من المفروض أن تولي بعض العناية لهذا الجانب وتُدعم مثل هؤلاء الباحثين، بدل تركيزها غالبا على المهرجانات والمواسم، رغم أهمية بعضها.
والملاحظ أن المغرب يزخر بتراث معماري مغربي-برتغالي غني بمدن طنجة وأصيلا والعرائش وآسفي والجديدة وأزمور والصويرة والقصر الصغير، إلا أن الدراسات حوله قليلة بل نادرة إلا من بعض المبادرات الخاصة. وكان حريا بالوزارة الوصية أولا دعم الباحثين المهتمين بهذا المجال وثانيا إصدار كتاب جامع مزين بالصور أو كتب متفرقة عن تراث كل مدينة على حدة.
ويبقى أن المجهودات المبذولة من طرف الباحثين الثلاثة بالنسبة للتراث المغربي البرتغالي بدكالة هي بمثابة مساهمة فكرية وعلمية تتوخى إنعاش تاريخ المنطقة والمغرب ككل، ووضْع مادة علمية رهن إشارة القراء والباحثين.