بمناسبة الدورة الثانية لمهرجان بغداد السينمائي (4): السينما العراقية.. وقفة متأنية عند البدايات

رضا الأعرجي
نص القانون رقم 146 لسنة 1975، الذي تم بموجبه وضع الكيان الخاص للمؤسسة العامة للسينما والمسرح أو “دائرة السينما والمسرح” لاحقاً، على أن السينما واحدة من وسائل التثقيف، التوعية، التربية .. الخ.
ونستطيع القول أن “دائرة السينما ….” وهي تضع خططها الانتاجية، لم تأخذ بهذه الاعتبارات، وبدلاً منها رفعت شعار “تحريك عجلة الانتاج” الذي كان ثمرته فيلم “الرأس” الذي قلنا عنه في الحلقة السابقة أنه جاء مخيباً لآمال الكثيرين رغم الكادر الفني، والممثلين ذوي الخبرة، والوسائل التقنية التي تمتلكها المؤسسة والتي اُعتبرت حينها متفوقة على ما تمتلكه السينما المصرية ذات التاريخ العريق والطويل في الانتاج السينمائي.
وكما يبدو، فان المؤسسة الناشئة خشيت أن تغامر بأول أفلامها على أساس هذه الاعتبارات، وبعبارة أخرى، خشيت أن تخسر الجمهور العراقي الذي اعتاد السينما العربية والأمريكية بمواصفاتها المعروفة فاختارت تقليد نموذج السينما السائد دون أن تدرك بأنها ستتأخر في الوصول إلى وضع تقاليدها الخاصة، فلا يكفي لانطلاقة سينما شابة مجرد نفض الغبار عن الاجهزة، أو مجرد انتاج فيلم يرضي الجمهور.
وهكذا، ظلت “الدائرة ….” في مجموع انتاجاتها اللاحقة تبحث عن الانتشار في تقليد الأفلام السائدة، على عكس بعض السينمات التي لها تقريباً نفس ظروف السينما العراقية لكنها استطاعت ضمن تقاليدها الخاصة الخروج الى العالم، ومواجهة أفلام عواصم السينما التقليدية دون أن تلجأ الى التقليد.
وحينما نؤكد على أهمية اعتبار السينما جزءً من الثقافة، والثقافة الوطنية على وجه الخصوص، ووسيلة من وسائلها، فلأن السينما العراقية حتى عام 1975 كانت سينما متخلفة، بل كانت الفن الوحيد المتخلف بين بقية الفنون كالمسرح والرسم والفنون الأدبية الأخرى، وبالتالي لم تملك نفس القدرة التي كانت لبقية الفنون لمواجهة ضرورات المرحلة، ومواكبة المستوى الثقافي العام.
الماضي ـ الحاضر
كانت الظاهرة الملفتة للنظر في الانتاجات السينمائية التي تلت فيلم “الرأس” هي نوعية هذه الأفلام من حيث تعدد مواضيعها إلى الحد الذي يمكن معه القول أن كل فيلم عراقي يعد تجربة مختلفة عن سواها. وقد تكون هذه الظاهرة في صالح سينما شابة مثل السينما العراقية، إلا أن مراجعة سريعة لأغلب تلك الأفلام: “بيوت في ذلك الزقاق”، “النهر”، “يوم آخر”، ترينا أن التنوع الظاهر فيها هو تنوع ضمن موضوع واحد تقريباً، موضوع المواجهة بين الماضي والحاضر. وكانت النتيجة أفلاماً لا تهم المتفرج ولا تُشبع احتياجاته النفسية، فما الجدوى من وضع الخطط ما لم ترتبط باهتمامات المشاهد وبالواقع اليومي، وليس أي واقع آخر؟
لقد تطرقت سينمات بعض الدول الأوربية، خصوصاً في شرق أوربا ذات التوجه الاشتراكي سابقاً، إلى الحال نفسه، سواء بمبالغة أو تقصير، ولكن الملاحظ هو أن الجرأة والواقعية في مسايرة التطورات الاجتماعية بمكان أو زمان معين كانت كثيراً ما تنقصها، إذ لا ينبغي التطرق لقضية ما إلا إذا دخلت نطاق التاريخ. وقد اثبتت التجربة أن الافلام التي انتجت ضمن هذا المقياس كانت لمجرد الانتاج السينمائي الصرف، ولمجرد استغلال الطاقات المادية والبشرية لا غير.
وإذ نسوق هذا المثال لا نقصد الدفاع عن سينمات دول أخرى المعروفة بتركيزها على الجنس والأشباح والأبطال الخارقين .. الخ. فما يعنينا من كل هذا هو أن يكون موضوع الفيلم، وهو جوهر العمل السينمائي، مستجيباً للحاضر، وللحياة اليومية التي يجد المتفرج نفسه في تفاصيلها وثناياها.
يكاد المشاهد لكثير من الأفلام أن يحصي أنماطاً متعددة لها وليس نمطاً واحداً، فهناك الأفلام الرومانسية والاستعراضية والبوليسية، لكننا لا نكاد نعثر إلا على نمط الأفلام السياسية التعبيرية في غالبية الإنتاج السينمائي العراقي، وحين تم الشروع بإنتاج أنماط أخرى نراها تبدأ بالفيلم التاريخي دون غيره من الأنماط التي يمكن أن تستكمل بها مسارها الطبيعي، ذلك أن الفيلم التاريخي بإسلوبه الكلاسيكي المعروف يتطلب مجموعة من الخبرات التي لا يمكن أن تتوفر عليها إلا السينمات ذات التاريخ العريق والانتاج الغزير المتواصل، فالسينما المصرية على ما تمتلكه من عراقة وغزارة، لم يبلغ انتاجها من هذا النمط إلا ما يعد على أصابع اليد الواحدة مثل فيلمي “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين” و”فجر الإسلام” لصلاح أبو سيف.
طريق التقليد
إن “الدائرة….” أيام ذاك، لم تحاول انتاج الفيلم التاريخي حسب، وإنما حاولت اقتفاء موجة “أفلام الأرصدة الثقيلة” مثل فيلم “الرسالة” و”أسد الصحراء” لمصطفى العقاد الوجه البارز لها. ففي الوقت الذي كانت الدائرة الناشئة تضع أولى خطواتها على الطريق كانت أصداء العمل بفيلم “الرسالة” تنتشر في كل مكان في العالم العربي، وتنتشر معها أنباء الميزانية الضخمة التي رصدت له، والطاقم الفني المتميز والمسبوق بشهرة واسعة، إضافة إلى الحشد الكبير من نجوم السينما العربية والعالمية.
لقد وضعت “الدائرة…” هذا الفيلم في صلب اهتمامها وهي تعد لمشروعها الأيديولوجي الدعائي “القادسية” ولاحقاً “المسألة الكبرى” .. فماذا كانت النتيجة؟
من واقع انتاج الفيلمين وأفلام أخرى نهجت الطريق نفسه نرى أن “الدائرة…” أخذت بالنتائج التي حققها فيلم “الرسالة” ولم تأخذ بالتجربة التي خرج منها، وراحت ضحية الحلم بإمكانية تحقيق فيلم مواز بالسير على ذات الطريق الذي اختطه العقاد، واستطاع أن يحتل به أهم شاشات العرض في العالم.
إن الحلم لا يمر إلا من نفق الواقع، والواقع أن تجربة فيلم “الرسالة” ليست بالحلم سهل التحقيق، فهي ليست تجربة فرد عربي مغامر كما تبدو للكثيرين، ولكنها حصيلة تراكم خبرة في العمل السينمائي، وفي طريقة التعامل مع المواضيع الجماهيرية، وفي القدرة على النفاذ إلى المتفرج حيثما كان. وهكذا، كان فيلم “الرسالة” نموذجً الفيلم الأميركي الجماهيري حتى وهو يحمل توقيع مخرج عربي.
لقد أجاد مصطفى العقاد اللعبة، واللعبة هنا ليست رخيصة أو مبتذلة وانما هي لعبة المحترف الماهر الذي يستطيع أن يبيع الريح ويقبض ثمنه ذهباً خالصاً، فهو عندما أنتج نسختين من “الرسالة”، عربية وانجليزية، كان يدرك أهمية التوزيع، فما كان له أن يقدم على الانتاج لو لم يضمن سلفاً توزيع ما ينتجه خارج الوطن العربي، أي أن يضمن مقدماً وجود مجموعة من شركات التوزيع إلى جانبه قبل أن يشرع بتسطير أفكاره على الورق.
ومع أننا لسنا هنا بصدد تقييم تجربة فيلم “الرسالة” ولكن يمكننا التعليق عليها بأنها تجربة خاصة لا يمكن لها أن تتم بالطريقة التي رسمها مصطفى العقاد، وهي الطريقة التي ادركت الفرق بين الطموح وبين الحلم، وبين جماهيرية الفيلم وجماهيرية الموضوع، كما أدركت أن السينما ليست مجموعة من النوايا أو مجرد انتاج مرتفع الكلفة، وإنما هي مثلت أطرافه الانتاج والتوزيع والعرض، وبدونه تكون شيئاً آخر بالتأكيد.