بيار لوتي عاشقا إيكزوتيكيا للمغرب*

كاركاسون- المعطي قبال
الرجل المقنع يدشن في العاشر من هذا الشهر بمدينة روشفور بشرق فرنسا بيت الكاتب والرحالة بيار لوتي 1850-1923. وقد دامت أشغال إعادة البناء والترميم للبيت قرابة 12 عاما. ويحتوي على كنوز ومآثر جلبها لوتي خلال أسفاره ورحلاته من أرجاء المعمور والتي شملت قارات آسيا، بلدان الشرق الأوسط، إفريقيا وغيرها من القارات التي الأخرى. وفي كل مرة عاد لوتي بشهادات بكتب وتقارير وكنوز لها مسحة المغامرة. وفي الوقت الذي فضل بعض الرحلات والمفكرين والادباء أن تخصص لهم متاحف تحمل أسماءهم، اختار لوتي تسمية بيت كمأوى دائم للإقامة والسكن. وبحسب الملف الإعلامي سيكون هذا التدشين باذخا على صورة صاحب البيت الذي استبق زمانه ليرتدي الثياب الفاقعة الخفيفة، ليلجأ للمساحيق لتجميل وجهه أو يتزيا بالقفاطين المغربية والطرابيش التركية والمغربية.
تلك أحد الصور التي احتفظ بها الجمهور الفرنسي لبيار لوتي: رجل إيكزوتيكي بالنسبة للبعض ومتهور في نظر البعض الآخر إن لم يكن خارجا عن زمانه. لكن اهتمام الجمهور الفرنسي بشخص لوتي تأتى من كونه كاتب التحق بالأكاديمية الفرنسية بفضل نتاجه النابع من تجربته كرحالة مغامر برا وبحرا عبر القارات واستكشافه لأماكن جغرافية جديدة. يضاف إلى هذه الصفات كونه حاكي بارع دغدغ بقصصه متخيل الجمهور. وتعتبر أولى رواياته «آزيادي» التي اصدرها عام 1978 دليلا على ذلك. تدور أحداث الرواية من حول قصة حب بين بحار إنجليزي وشابة تركية تعيش في حريم شيخ ثري. ينمي البحار حول هذه العلاقة عشقا قويا. بوفاتها تتزايد حدة هذا العشق. بهذه الرواية أحيا بيار لوتي الأسطورة الرومانسية. بعد آزيادي أصدر لوتي ما يشبه التتمة في عنوان «شبح الشرق».
من بين الدول التي زارها لوتي يبقى المغرب محطة مهمة في ترحالاته العديدة. أولا لكون المملكة تعد أول بلد مغاربي زاره وتردد عليه. كونه أيضا المملكة التي كانت تحت سيادة السلطان مولاي الحسن الأول وثالثا كان البلد محط أطماع قوى عظمى مثل بريطانيا، إسبانيا، هولاندا، وبالأخص فرنسا التي أصبحت لها في الأخير السيادة على المغرب. وقد نسجت فرنسا بإحكام استراتيجية لإزاحة نفوذ خصومها (الإسبان بالأخص)، وإحكام قبضتها على البلد. لعب القناصلة والسفراء دورا هاما في تهيئة النخبة قبل أن تتدخل الآلة العسكرية لإحكام قبضتها على البوادي والحواضر. في هذا الصدد، لعب سفير فرنسا المعين، جول باتنورت دورا رئيسيا في «التسلل» إلى دواليب المخزن. مهد الطريق بمعية ترسانة الجيش لاحتلال المغرب. وعليه فالسفراء كانت لهم وظيفة مخابراتية وإعلامية في غاية الأهمية. أقنعة وهويات منتحلة في بلد جامد الحركة كانت هذه الرحلة أول زيارة يقوم بها بيار لوتي للمغرب فيما سبق له أن طاف على عدة دول وقارات. أبان لوتي عن معرفة دقيقة للبلد بحيث جاءت توصيفاته وملاحظاته عن المخزن، آلياته ووظائفه وكذا عن القبائل وظاهرة السيبة ومستقبل المغرب وآفاقه السياسية والاجتماعية، جاءت في الصميم. هل ساعدته المخابرات الفرنسية ومن يسمون بـ «المستشارين التقنيين»، آنذاك في تحاليله للوضع السياسي بحيث قدمت له معلومات عن البلد والبيئة البشرية والجغرافية؟
من غير المستبعد أن تتضمن هذه الفرضية قسطا من الحقيقة. من بيار لوتي واسمه الحقيقي جوليان فيو إلى الحاج لوتي الخ… مسار نزع خلاله أقنعته العديدة. ما الدافع إلى ارتداء هذه الأقنعة التي تظهره مرة في هيئة درويش ومرة في هيئة سلطان تركي أو قائد سفينة. في اتجاه البلد البكر في 20 من فبراير من عام 1889 بعد ان رفض القاص والروائي الشهير غي موباسان الاقتراح ، بعث جيل باتنوتر المعين حديثا سفيرا لفرنسا بالمغرب، برسالة إلى بيار لوتي يعرب فيها عن أسفه لعدم التعرف عليه شخصيا باكرا وليقترح عليه مرافقته بعثة تشمل عسكريين، خبراء تقنيين، رجالات إعمال وفنانين متوجهة إلى المغرب حيث يقدم السفير الجديد أوراق اعتماده للسلطان الحسن الأول. لم يشد السفير الجديد عن القاعدة النابوليونية القاضية بدعوة فنانين وكتاب ومثقفين إلى الانضمام إلى البعثات العسكرية. «جال بذهني أن فكرة زيارة أحد البلدان التي لم تؤثر فيها الحضارة الغربية وفي ظروف استثنائية ستكون ذات جاذبية ويمكنكم – استخلاص مادة لكتاب أصيل»… وبما أن لوتي كان بلا شغل، قبل بعرض السفير بعد موافقة الهيئة البحرية التي كان لوتي تابعا لها، تم تعيينه «المؤرخ الرسمي للبعثة الدبلوماسية في بلاد الإسلام». كانت البعثة تتشكل من طبيب و17 شخصا آخر منهم عسكريون وفنانون. ومستشارون تقنيون. في 17 من مارس رأى النور سامويل ابن بيار لوتي. بعد يومين على ولادته غادر لوتي مدينة روشفور ليلتحق بالباخرة «سيتوري» التي ستنقله إلى طنجة. حصيلة هذه الجولة التي دامت 6 أسابيع كانت تأليفه «في المغرب» وقد جاءت على شكل تحقيقات صحفية وتقارير نشرت يوميا على صفحات المجلة الشهيرة آنذاك «ليلستراسيون» والتي كان يستهلكها بالأخص الفرنسيون المؤمنون برسالة الاستعمار وحضارته. « في المغرب »، هو الكتاب العاشر لتيار لوتي وقد دشن مجموعة نصوص تحقيقية أنجزت بمناطق مختلفة بالشرق الأقصى والأوسط مثل «الجليل» ( بفلسطين)، الصحراء، «القدس». «آخر أيام بكين»، «الهند من دون الإنجليز»، «في اتجاه إصفهان»، «حج إلى آنغكور».
أبحر لوتي إذا في العشرين من شهر مارس على متن باخرة «السيتوري» التي توجهت صوب وهران قبل عودتها إلى مالقة ثم مليلية لتصل في الأخير إلى جبل طارق. في 26 من مارس اتجهت الباخرة صوب طنجة . بوصوله إلى المدينة الشيء الذي أثار انتباهه هو صمت المدينة وهدوءها. لاحظ وكأن المدينة قد اعتمرت كفنا أبيض، كفن الإسلام. بعد قفزة لمدينة تطوان التي بقيت على العكس من طنجة بمنأى عن الصراعات والأحقاد بين الدول العظمى والتي لن تعرف نفس الحداثة التي عاشتها طنجة، يعود في نفس اليوم إلى هذه الأخيرة حيث كانت تنتظره القافلة المكونة من مسؤولين فرنسيين ومرافقين مغاربة عينهم السلطان لحراسة والسهر على راحة ضيوفهم الفرنسيين. قبل الرحيل تسنى لبيار لوتي أن يطوف على بعض معالم المدينة. وهو قبالة أوروبا التي تترأى على الشط المقابل، أحس أنه تراجع تاريخيا إلى الوراء. ولما سمع خلال جولته عزيف ناي، «شعر وكأن هذا النشيد هو نشيد لأزمنة الماضي، نشيد الماضي الميت» وراوده التفكير بأنه هنا يوجد عند المدخل المدنس من طرف الجميع لإمبراطورية المغرب التي سيدخلها عما قريب. تخللت الأمطار الغزيرة واللامنقطعة هذه الرحلة من طنجة إلى فاس والتي كانت العاصمة الديبلوماسية والروحية للبلد. وفي كل محطة كان القياد وشيوخ القبائل يغدقون على القافلة مآدب ( المعروفة بالمونة) سخية مشكلة من طوابق وطواحين متنوعة ومغربية أصيلة. وما بقي من الأكل إما كان الحراس يرمونه للفقراء المتحلقين من حول الخيام أو يرمونه في الخلاء. يركز لوتي على معاملات القسوة والاحتقار ليستقريء فيها العنف الموجه ضد المستضعفين. اجتازت القافلة قبائل معروفة بولائها للسلطان كما مرت من أماكن تابعة لبلاد السيبة، لكنها لم تتعرض لأي هجوم أو اعتداء. وقف بيار لوتي عند العديد من التفاصيل التي تشكل الحياة العادية للمواطنين لكنه افتتن بالطبيعة وثرائها وتنوعها. وتأكدت له القاعدة القائلة بان «المطر هو المغرب» وأن ثمة علاقة حميمية تجمع ما بين الأمطار والمغرب. اللحظة القوية تبقى هي استقبال السلطان الحسن الأول للوفد الفرنسي وعلى رأسه السفير الجديد. لم يتجاوز الاستقبال عشر دقائق تخللتها كلمة السلطان وخطاب السير الجديد. بعدها أدار الملك حصانه ليغادر باحة الاستقبالات.
بقدر ما انتقد لوتي المخزن هازئا بثقل الشكليات والرسميات ونظام العلاقات بين العائلات النافذة، بقدر ما افتتن بشخص السلطان كونه إنسان رزين، هاديء، متعلق بإيمانه ويدير وجهه لكل ما هو جديد وحديث. فالحداثة التي كانت آنذاك هوس فرنسا، لم يكن السلطان مولاي الحسن الأول من الراغبين فيها. لا السكك الحديدية، لا المواصلات ولا أساليب التكنولوجيا كانت تستهويه. بالنسبة لخيار لوتي يبقى السلطان مولاي الحسن الأول سلطان الظل. لا يخالط الأجانب ولا الضيوف خلال المآدب التي يوفرها لضيوفه.
على أي، باستثناء السيف وبضعة أغراض أخرى وهي هدايا قدمها السلطان لبيار لوتي لا نعرف بالتفصيل كم عددها وقد تشمل بالكاد الزرابي والحلي والأثاث المغربي من الصنع الفاسي وقد يفصح بيت لوتي عند تدشينه عن مكنون الكنوز المغربية التي يحتويها والتي لن يطالب بها يوما على النقيض من بعض الدول التي نجحت في استرجاع آثارها وتراثها الذي سطت عليها فرنسا أيام الاستعمار وحولته إلى ودائع في متاحفها الوطنية أو الخاصة. يبقى «في المغرب» ضمن الأدب الاستشراقي، محطة أساسية لمقاربة المغرب والمغاربة في حياتهم اليومية، في علاقاتهم الدينية والاقتصادية وفي حروبهم الداخلية وتصورهم للأجانب.
كما أنه يخبرنا عن جملة من القضايا تهم الإقطاع ووظائفه، ظاهرة السيبة والتناحر بين المخزن والقبائل المنشقة أو الراغبة في الانشقاق، ظاهرة الاستعباد، تصورات المغاربة للأجنبي وهي تصورات تحكمها ثنائية العشق والكراهية. كل هذه العناصر وغيرها تشكل مادة ثرية يمكن ان يستفيد منها بل يستغلها المؤرخ، عالم السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.
* للمزيد من المعلومات عن رحلة بيار لوتي للمغرب يمكن الرجوع إلى البحث الذي أنجزته بالفرنسية بعنوان «في الحميمية الكولونيالية لمدينة فاس» الصادر عن منشورات توبقال بالتعاون مع مجلس الجالية المغربية بالخارج.