بين الطفولة والأدب.. ذكريات للحكي

حين قدم المصطفى اجماهري ومبارك بيداقي هدية متأخرة لفؤاد العروي
أحمد لعيوني
الطفولة معين لا ينضب من الذكريات الجميلة التي تثير الحكي وتغني الكتابة ويهواها السامعون والمتلقون. ويذكر القراء والمتتبعون بمدينة الجديدة بخاصة، اللقاء الجميل الذي سبق أن نظمته مكتبة باريس بالجديدة في محور بعنوان : “رفقة فؤاد العروي، ذكريات الطفولة والشباب”. في هذا اللقاء الذي شهد إقبالا منقطع النظير قدم الكاتب المصطفى اجماهري وزميله مبارك بيداقي (من قدماء ثانوية الإمام مالك بالبيضاء) ذكرياتهما عن صديقهما المشترك الروائي فؤاد العروي وما عاشاه وقتها بمدينة الجديدة في نهاية الستينيات من وقائع مشتركة. حضر اللقاء وشارك في تنشيطه فؤاد العروي شخصيا كما حضره أفراد من عائلته وجمهور من المهتمين والمتابعين مغاربة وأجانب.
في نفس المناسبة قدم الأستاذ عبد العالي الرهوني ورقة أولية سماها “مدخل إلى علاقة صداقة مع الروائي فؤاد العروي” تحدث فيها عن طفولة الكاتب بالجديدة ودراسته بالمدرسة الفرنسية جان شاركو، ثم عن العلاقة التي ربطت بينه وبين المصطفى اجماهري ومبارك بيداقي بفضل قراءة المجلات الفرنسية المصورة لفترة الستينيات. وانتهى في مداخلته إلى أهمية القراءة في سياق تاريخي محدد وما كان لها من تأثير على تكوين جيل تلك الفترة معطيا المثال بالثلاثي فؤاد العروي، اجماهري وبيداقي.
وأوضح المصطفى اجماهري ومبارك بيداقي بأن صداقتهما مع الروائي فِؤاد العروي نشأت بالضبط سنة 1968 واستمرت إلى 1970، حين كان هذا الأخير تلميذا بالمدرسة الفرنسية الابتدائية بالجديدة. كانا يكبرانه بخمس سنوات، ويتابعان دراستهما بإعدادية تابعة للتعليم العمومي. وقتذاك عبرا له عن رغبتهما في أن يساعدهما على تحسين مستواهما في اللغة الفرنسية، فكانت الوسيلة المثلى لتحقيق هذه الغاية هي قراءة المجلات المصورة مثل بليك، وتان تان، وأستريكس، التي كان يزودهما بها، فضلا عن مرافقتهما إلى سينما باريس بالجديدة لمشاهدة الأفلام الفرنسية لفترة الستينيات. كما كان يشرك صديقيه في المحادثة بالفرنسية مع زملائه في القسم بمدرسة شاركو، حينما يلتقون خارج أوقات الدراسة أو في العطل.
ومن طريف ما تم ذكره خلال هذا اللقاء، أنه لما كان فؤاد العروي في صغره شغوفا بقراءة الحكايات الفرنسية المصورة مثل بليك، زامبلا وأستريكس، وعند اقتراب يوم 12 غشت 1969 عيد الميلاد الحادي عشر لفؤاد العروي، فقد قرر صديقاه، بالمناسبة، شراء ألبوم مغامرات تان تان، المجلة المصورة الشهيرة التي تنشر حكايات المغامرات الهزلية للبطل تان تان. كانت هذه المجلة حينها من أشهر المجلات المصورة الأوربية وأكثرها شهرة. ولذلك فكر الاثنان في اقتناء النسخة المعنونة “الرحلة 714 إلى سيدني” وإهدائها له. وهو الألبوم الثاني والعشرون الصادر سنة 1968 لدى الناشر كلوسترمان.
وقبل حلول ذكرى عيد ميلاد فؤاد، توجه الصديقان إلى السيدة جرمين دو بيازو، صاحبة مكتبة عصرية معروفة بوسط الجديدة، والتجأ إليها ليشتريا الألبوم فوجدا أن سعره حوالي ثلاثين درهما. ولما لم يكونا يملكان المبلغ فقد قررا جمعه على مراحل. ورغم مجهوداتهما لعدة أيام، وبسبب عوز أسرتيهما، فلم يتمكنا من جمع المبلغ الضروري، حتى حلّ موعد عيد الميلاد دون أن ينجحا في توفير ثمن الكتاب. فقررا عدم إخبار فؤاد بشيء.
في السنة الموالية 1970 التحق فؤاد العروي بثانوية ليوطي بالدار البيضاء مستفيدا من منحة القسم الداخلي بهذه المؤسسة التابعة للبعثة الفرنسية. بينما التحق صديقاه، بيداقي واجماهري، بثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء وانقطعت بالتالي علاقة المجموعة.
استمر الغياب الطويل لأكثر من ثلاثين عاما. حتى حين أصدر فؤاد العروي روايته الأولى “أسنان الطبوغرافي” سنة 1996، لم يعرفا من أول وهلة أن الأمر يتعلق بصديقهما المشترك، فأعادا التعرف عليه من جديد، بفضل مراسلات متبادلة، بعدما أصبح كاتبا معروفا.
بعد مرور 53 عاما قرر الأصدقاء الثلاثة عقد لقاء للحديث عن هذه الفترة الحاسمة في حياتهم، كل في حدود تجربته الخاصة. وكان الهدف المتوخى هو تعريف جمهور القراء ببدايات كاتب كبير من عيار فؤاد العروي. ومن ثم كان اللقاء المنظم بمكتبة باريس بالجديدة، بحضور فعاليات مختلفة مهتمة بالشأن الثقافي. وفي هذه الجلسة تم البوح ولأول مرة بهدية عيد الميلاد المستحيلة. وهو ما تأثر له فؤاد العروي خاصة لما قدما له الهدية المعنية وهي ألبوم تان تان “الرحلة 714 إلى سيدني”. وقد كتبا في كلمة الإهداء : “بعد 53 عاما عن عيد ميلادك لسنة 1969، تقبل منا هذه الهدية المتأخرة، مع كل الحب والتقدير”.
تأثر الروائي فؤاد العروي للهدية ولأواصر الصداقة الخالصة التي جمعته بصديقيه. قال في كلمته بالمناسبة : هذه “اللحظة الاستثنائية” غنية بالدروس: دروس الإخلاص والوفاء وحب الثقافة . إن أهمية مثل هذه اللقاءات تكمن في كونها تضيء غير معروفة للعموم عن حياة الأدباء والكتاب”.