تحذيرات.. الانهيار الشامل طريق إلى الهاوية

تحذيرات.. الانهيار الشامل طريق إلى الهاوية

عبد الرحمان الغندور

           بينما تشهد مجتمعات عديدة في عالم اليوم تحولات جذرية تتبعها عمليات بناء جديدة، يبدو المشهد المغربي مختلفاً جوهرياً. إننا إزاء واقع لا تنطبق عليه قواعد التدمير الخلاق، بل يواجه ظاهرة الانهيار الشامل والمستدام دون أفق للبناء. فما يعيشه المغرب اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل تحول الانهيار إلى نمط وجود، إلى ثقافة تتجذر في كل مسام الحياة، مع غياب شبه تام لإرادة البناء أو حتى لمجرد إيقاف هذا التدهور.

لنتأمل أولاً نماذج عالمية عكست منطق التدمير الخلاق؛ ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت من تحت الأنقاض لتبني معجزة اقتصادية أصبحت نموذجاً للديمقراطية والازدهار. واليابان التي تحولت من دمار شامل بقنبلتين نوويتين إلى قوة اقتصادية وتكنولوجية رائدة. وجنوب أفريقيا التي انتقلت من نظام الفصل العنصري البغيض إلى نموذج للمصالحة والديمقراطية.

  حتى في السياق العربي، قدمت تونس نموذجاً لانهيار النظام الديكتاتوري وبناء نظام ديمقراطي هش، ما فتئ أن استرجع مكونات الهدم فيه من خلال ما يشهده من تراجع عن الديموقراطية واستفحال قمع الحريات، ووجود العديد من المناضلين من مختلف الأطياف يصارعون الموت في زنازن “الثورة” وكأننا أمام قدرية قاسية تمنع أي بناء ممكن. كما نلاحظ أن دول الخليج حققت شبه انهيار للمجتمع التقليدي وأنجزت تحولاً مذهلاً من مجتمع بدوي بسيط إلى مركز اقتصادي وثقافي عالمي يعرف الثراء وحد مقبول من توزيع الثروة، رغم النقص الفظيع في ثقافة الديموقراطية وحقوق الانسان.

في المقابل، يمثل المغرب نموذجاً مغايراً تماماً، حيث تتعاقب الانهيارات دون أن يولد منها جديد.

ففي الجانب الاقتصادي، لم يعد الأمر مجرد أزمة دورية أو ركود مؤقت، بل تحطيم منهجي للبنيات الاقتصادية التقليدية دون أن يحل محلها أي بديل منتج. فالفلاحة التقليدية تترنح تحت وطأة الجفاف والتهميش، رغم كل المخططات الخضراء والزرقاء. والحرف التقليدية تلفظ أنفاسها الأخيرة، والصناعة المحلية تعاني من هشاشة هيكلية تمنعها من المنافسة. في المقابل، لا تظهر سوى اقتصاديات طفيلية قائمة على المضاربة والريع وتقاسم الصفقات بين نخب محصورة في الهولدينغات الاحتكارية، مما يكرس التبعية ويعمق الفجوات. لقد تحول الاقتصاد إلى فضاء للاستنزاف لا للإنتاج،  وللاستحواذ لا للاستثمار،حيث تتراكم الثروات في أيدي قلة بينما تغرق الأغلبية في دوامة الفقر والهشاشة.

أما على المستوى السياسي، فالمشهد لا يقل كارثية. لقد فقدت المؤسسات التقليدية مصداقيتها بشكل شبه كامل. فالدولة تبدو عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية، والأحزاب السياسية تحولت إلى هياكل فارغة من المضمون، والنقابات فقدت دورها في الدفاع عن الحقوق، والجمعيات الجادة تكافح للبقاء في مناخ من التضييق واللامبالاة. بينما يعيش غيرها من الجمعيات الذيلية في الاستفدة من نصيبها من الريع لنشر التفاهة والرداءة. وبالتالي لم يعد هناك مشروع سياسي جامع، بل مجرد إدارة للأزمة بلغة الخطابات والشعارات الجوفاء. إن العقد الاجتماعي الذي كان يربط الدولة بالمواطن قد انفرطت عقده، تاركاً فراغاً هائلاً يملؤه اليأس والإحباط.

ويغذي ظاهرة الانهيار المستمر تفشي الفساد كثقافة مؤسساتية، حيث أصبحت الرشوة وسيلة طبيعية لإنجاز المعاملات، وتحولت الصفقات العمومية إلى غنائم توزع على الزبناء والمقربين المرتبطين بالنخب المستحوذة. ففي قطاع الصحة، نرى تدهور المستشفيات العمومية مع صفقات مشبوهة للمعدات الطبية، وفي التعمير، ينتشر الفساد في رخص البناء والتهرب من الضرائب العقارية. وفي جميع المجالات والأنشطة لن تجد سوى مؤشرات الفساد.

هذه الانهيارات الهيكلية لا تقف عند حدود الاقتصاد والسياسة، بل تمتد لتطال النسيج الاجتماعي بأكمله. فالعائلة، التي كانت لطالما شكلت حصناً منيعاً في وجه العواصف، تتهاوى تحت وطأة التحولات العميقة. المدرسة، التي يفترض أنها رافعة للتنشئة الاجتماعية والحراك، أصبحت فضاءً ينتج الفشل والتهميش. الشارع تحول إلى مسرح للصراع اليومي من أجل البقاء، حيث تذوب القيم الأصيلة لتحل محلها نوازع الأنانية والعدوانية. حتى العلاقات الإنسانية الأساسية لم تسلم من هذا التآكل، فالثقة بين الناس تتهاوى، والتضامن يتراجع، ليحل محله شك عميق واغتراب متزايد.

في هذا المناخ، لم تعد الثقافة والقيم بمنأى عن عملية الانهيار الشاملة. فالثقافة الشعبية الأصيلة تتراجع أمام موجات الاستهلاك العابرة، والفن الحقيقي يغيب ليحل محله إنتاج هجين يفتقر للروح. القيم الأخلاقية التي كانت تشكل ضمير المجتمع تهتز تحت وطأة الضغوط المادية والاغتراب الروحي. لقد أصبحنا أمام مجتمع يفقد تدريجياً مرجعياته الثقافية والأخلاقية، دون أن يكتسب بدائل حقيقية تعطيه معنى جديداً لوجوده.

الأخطر من ذلك كله هو تفاقم التفاهة والرداءة في المشهد الثقافي والاجتماعي. لقد طغت الأغاني الهابطة والمسلسلات التلفزية السطحية على حساب الفن الجاد، وتراجعت مبيعات الكتب لصالح المحتوى الرقمي السطحي، وتحولت العلاقات الاجتماعية إلى روابط مصلحية ونمط استهلاكي عديم العمق. حتى القيم الأخلاقية التي كانت تشكل ضمير المجتمع تهتز تحت وطأة الضغوط المادية والاغتراب الروحي.

هذه الانهيارات الهيكلية لا تقف عند حدود الاقتصاد والسياسة والثقافة، بل تمتد لتطال النسيج الاجتماعي بأكمله. فالعائلة، التي كانت لطالما شكلت حصناً منيعاً في وجه العواصف، تتهاوى تحت وطأة التحولات العميقة. المدرسة، التي يفترض أنها رافعة للتنشئة الاجتماعية والحراك، أصبحت فضاءً ينتج الفشل والتهميش. الشارع تحول إلى مسرح للصراع اليومي من أجل البقاء، حيث تذوب القيم الأصيلة لتحل محلها نوازع الأنانية والعدوانية.

ويوازي هذا الانهيار المؤسساتي ازدياد مطرد في قمع الحريات وتضييق الفضاء العام. نرى ذلك في تزايد ملاحقة نشطاء الحراك الشعبي والصحفيين، وإغلاق عشرات الجمعيات تحت ذرائع قانونية غامضة، وملاحقة رواد التواصل الاجتماعي بتهم ملفقة. لقد تحول الفضاء العام إلى ساحة مراقبة وحظر، بدلاً من أن يكون فضاء للحوار والإبداع والمشاركة.

الأخطر في هذا المشهد الكارثي هو أن الانهيار لم يعد يُنظر إليه على أنه حالة استثنائية تستدعي التصدي، بل تحول إلى نمط عادي للحياة، إلى واقع نتعايش معه بل ونتنافس في إنتاجه أحياناً. فبدلاً من أن تتجه الطاقات نحو البناء والإصلاح، نراها تتحول إلى آلات هدم أكثر فعالية. لقد استبدلنا ثقافة البناء بثقافة التكيف مع الانهيار، واستبدلنا الطموح للتغيير بالقناعة بالتدبير اليومي للأزمة.

في ظل هذا الواقع، يبرز سؤال مصيري: إلى أين يتجه المغرب؟ يبدو وكأننا إزاء نهاية للتاريخ المغربي بمعنى ما، ليس نهاية بالمعنى الهيغلي للكلمة، بل نهاية بالمعنى التراجيدي حيث تفقد المسيرة توجهها ومعناها. إننا نعيش لحظة تاريخية حرجة قد تكون نقطة تحول نحو الهاوية، أو ربما، في أفضل السيناريوهات، لحظة صحوة متأخرة تدرك فيها النخب في الدولة والمجتمع معاً أن طريق الانهيار لا يؤدي إلا إلى الهاوية.

إن استمرار هذا المسار لا يحمل في طياته أي أمل في ولادة جديدة، بل يشير إلى احتمالية تحول المغرب إلى كيان هش، يفقد تدريجياً مقومات بقائه كدولة ومجتمع. فالدول، كالكائنات الحية، لا تستطيع البقاء في حالة الانهيار الدائم. إما أن تجد في نفسها إرادة البناء والتجديد، أو أنها محكومة بالزوال. والسؤال الذي يظل معلقاً هو: هل سيستيقظ المغرب من سباته قبل فوات الأوان؟ أم أننا أمام مشهد أفول لا مفر منه؟

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!