تفاعلا مع الأحداث المؤلمة والمرعبة التي عرفها حراك جيل Z

الحكمة تقتضي صب الماء على الحرائق بدل صب الزيت
عبد الرحمان الغندور
أنتمي سياسيا ونضاليا لجيل انتفاضة 23 مارس 1965، التي عشت عنفها ومجزرتها الدموية، مثلما عشت انتفاضة يونيو 1981 بعنفها الدموي واعتقالاتها ومحاكماتها، كما عشت تفاصيل أحداث دجنبر 1991 بفاس وعاينت الدبابات تجوب الشوارع ولعلعة الرصاص تقض الاسماع. وفي كل هذه الانتفاضات كانت الانطلاقة سلمية عبر تظاهر يندد بالسياسات المتبعة ويقدم مطالب مشروعة. لكن الدولة لم تكن تعرف سوى العنف والقمع الذي كان من الضروري ان يقابله المتظاهرون بعنف مضاد، نتجت عنه المجازر والخراب والدمار الذي لا زال التاريخ يسجله.
وجاء العهد الجديد، مع ملك جديد، وسمعنا فيه خطابات عن الفهم الجديد للسلطة، وانطلقت دينامية المصالحة والانصاف، واستبشرنا خير بأننا فعلا ندخل عصرا جديدا يقطع مع مفاهيم الدولة القمعية التي لا يهمها سوى الهاجس الأمني. لا سيما مع انتفاضة 20 فبراير 2011، التي نتج عنها دستور جديد، يعتبر على علاته أفضل دستور عرفه المغرب في مساره السياسي، حيث حلمنا بانتهاء الدولة الامنية القمعية والشروع في بناء دولة المؤسسات والحوار والعدالة والكرامة واحترام حقوق الانسان.
لكن المشاهد المرعبة التي عاشها المغرب مؤخرا، والتي امتدت من شرقه إلى غربه، حيث انتشرت ظواهر العنف الأمني وما رافقه من عنف مضاد، نتج عنه التخريب وتدميرالممتلكات العامة والخاصة. وفي خضم هذا الانفلات الأمني الخطير، لا بد من التذكير أن نقطة الانطلاق كان تظاهرا سلميا متزنا يطالب بالتعليم والرعاية الصحية والعمل الكريم، من طرف شباب يحملون هواتفهم بدلاً من الحجارة، ويهتفون بشعارات مسؤولة، بعيدة كل البعد عن الشعارات العدمية التي تخترق الخطوط الحمراء.
لكن هذه السلمية تمت مواجهتها باستعراض للقوة لا يمكن تبريره، مما فتح الباب على مصراعيه للفوضى، وأتاح الفرصة لعصابات التخريب والمتربصين بالأمن للتحرك بحرية. لقد أخطأت الدولة عندما عولج سؤال اجتماعي بمنطق أمني بحت، كما أن المتظاهرين يفتقدون وسائل التحصين من اختراقات المشمكرين والمشرملين الذين بممارساتهم يجردون المطالب من وجهها الاجتماعي والأخلاقي.
وهنا لا بد من التذكير بأن القوة وحدها لا تصنع الاستقرار، ولا بد من تحرير أدوات التدبير السياسي، باعتماد الإنصات الحقيقي، والتفاعل البناء، ومد الجسور، وقبول النقد، وتوفير قنوات تمكن المطالب المشروعة من الوصول إلى أجندة صنع القرار، بدلاً من تكميم الأفواه وترويج رواية أن “الأمور على ما يرام”. أو أن الأحتجاج مؤامرة مدبرة من طرف خصوم المغرب.
لا يمكن تحميل المواطنين الذين يمارسون حقوقهم الدستورية في التظاهر السلمي مسؤولية انزلاقات الآخرين، كما لا يمكن تحميلهم نتائج سوء التدبير الذي يضع الأجهزة الأمنية في مواقف تفوق طاقتها. وكما نطالب الدولة بالمرونة وتجاوز التطبيق الحرفي للقانون إلى استدعاء روحه في التعامل مع الاحتجاجات الاستثنائية، نطالب المجتمع بمراعاة السياقات وأخذ عواقب الأمور بعين الاعتبار.
لقد كنت متخوفا، بناء على تجاربي السابقة منذ ستينات القرن الماضي، من هذا الانفلات منذ أن بدأت عمليات تفريق المتظاهرين الشباب بعنف زائد. الشيء الذي يدعو الدولة إلى مراجعة اختياراتها السلطوية في التعاطي مع المبادرات السلمية، كما على الشباب الذين خرجوا بدافع حب الوطن أن يحموا أنفسهم من المتربصين ويكونوا أدوات تهدئة وحفاظ على الاستقرار. فلا صحة ولا تعليم ولا شغل في غياب الاستقرار، ولا مستقبل ولا تنمية ولا عدالة إذا أصبح العداء والاستعداء سبيلا للعلاقات بين المغاربة.
إن اختيار مواجهة التظاهر السلمي بالقوة والاعتقالات العشوائية هو استدعاء ضمني للعنف، واستفزاز لفئات أخرى، وفتح الباب لأجندات التخريب. يجب التراجع عن هذا النهج قبل فوات الأوان، ووقف مشاهد تقديم الشباب المعتقلين للقضاء بعد توقيفات عشوائية شاهدنا جميعاً عدم شرعيتها.
إذا كان الهدف من الاحتجاج هو تحسين الأوضاع وفرض أولوية التنمية، فإن أخطاء التعاطي الرسمي تقاطعت مع انحرافات بعض الفئات الطائشة أو الإجرامية، مما أنتج تلك المشاهد المخيفة للهجوم على السيارات والمرافق وتعريض الأرواح للخطر. وواجب الدولة اليوم ليس استعراض القوة، بل التمييز بين المحتج السلمي والمخرب، وفتح تحقيقات شفافة في كل استعمال غير مشروع للقوة، كما يجب التحقيق في الاعتداءات على الممتلكات والأشخاص.
ومن جهة أخرى، على الشباب الذين يقودون الحراك أن يحموا مطالبهم من التلوث، ويحموا الممتلكات من التخريب، ويحموا صفوفهم من المخربين والمجرمين وذوي السوابق، لأن المغرب يحتاج الى الكثير من التعقل والحكمة حتى لا ندمر آخر الإمكانيات في بناء دولة الحق والقانون.
كما أن التعقل والحكمة من طرف الدولة، تستدعي خطابا سياسيا مسؤولا من أعلى سلطة، يوازي خطاب 9 مارس 2011 يتعهد بمسلسل إصلاحي حقيقي، مقابل التزام مدني بوقف العنف وحماية الممتلكات. فلا يليق بالمغرب أن يبيت على صور الدمار والحرائق، ولا أن يستيقظ على التصعيد والتصعيد المضاد.
من واجبنا جميعاً أن نقول بلا تردد: لا شرعية لمشهد تُكمم فيه الأفواه، ولا كرامة لسلطة تُخضع من لا سلاح لهم بالإذلال. وفي المقابل، لا معنى لاحتجاج سلمي يقوده المشمكرون والمشرملون، فمن يريد الخير لهذا البلد عليه أن يرسم خطاً فاصلاً بين الحق في الاحتجاج المكفول دستوريا، والتخريب المدمر المدان قانونيا وقضائيا.