تقاطع الموضوع ومحاوره وميزات الإبداع الشعري في ديوان “سلام على الأقاصي”

تقاطع الموضوع ومحاوره وميزات الإبداع الشعري في ديوان “سلام على الأقاصي”

عبد النبي بزاز

يتشكل ديوان “سلام على الأقاصي” للشاعرة المغربية ماجدة التدلاوي من 23  نصا موزعا على 3 محاور. يضم المحور الأول  “الأقصى على اليمين… عشرة نصوص، والمحور الثاني “الأقصى على اليسار … ”  تسعة نصوص، بينما يتألف المحور الثالث “مكناسة أو سلطانة الإسماعيلية من  أربعة نصوص. ولعل “التيمة ” الأبرز داخل نصوص الأضمومة الشعرية هي العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني؛ حيث تنهل جل قصائد محور “الأقصى على اليمين … ” من معجم تدل مفرداته  وعباراته عن واقع الظلم الإسرائيلي في حق الفلسطينيين مثل “جور الأعداء، أسروا، قتلوا، يد الطغاة، أيادي الغزاة…” ص 35، وفي قول الشاعرة: “تمادى المحتل وبغى/ واستنزف الأرض وطغى … ” ص 39، وهو ما يجسد أيضا نصوص المحور الثاني، ففي أول نص نقرأ: “قتل.. وقتل../ فقتل .. ثم قتلى … ” ص 80، وفي قصيدة “إلى أين الرحيل؟! ” حيث نقرأ: “زمن يصنع بالقتل / قتيلا فقتيلا /ويزيد بالدمار/ دمارا شاهدا ودليلا” ص 85، بينما يغيب في المحور الثالث “مكناسة أو سلطانة الإسماعيلية” نظرا لطبيعة نصوصه الزاخرة بنوستالجيا استرجاعية، وتوق استشرافي لحاضرة ضاربة في العراقة بحضارتها الأصيلة، وتاريخها الغني إلا أن حاضرها يعيش تراجعا وترديا تعقد الآمال العريضة على تغيير مأمول يعيد لها توهجها القديم، وإشعاعها الغابر لربط الصلة، وتجديد العهد بين ماض زاهر مشرق وحاضر يتوق لما هو أفضل.

ويلاحظ التقاطع اللافت بين معجم وموضوعات المحور الأول، والذي  سخرت نصوصه لتصوير مأساة فلسطين، وما يتعرض له شعبها من جور وضيم على يد العدو الصهيوني الغاشم في الكثير من مقاطعه وتعابيره كما في قصيدة “صراخ أبكم” …”حيث تقول الشاعرة: “فصوت العدو وحده صار يتحكم/ وإخواننا هناك في غزة لم يسلموا ” ص 41، وتقول أيضا في نص “لا تسأل عن المصير”: “توالت رحلة الشقاء/ والشعب صابر / وتعددت أساليب العناء / والعدو جائر/ شلال دم ونار وخراب” ص 52، هذا التقاطع يتجلى وينكشف من أول نص  موسوم بـ “ثورة  الربيع” في المحور الثاني “الأقصى على اليسار … ” حيث تتكرركلمة القتل: “قتل.. وقتل.. / فقتل.. ثم قتلى” ص 80، في تصوير لما حدث خلال الربيع العربي من دمار وموت : ” ياشام ، / أين أنت من ماضيك … / تشهدين بيد أبنائك هذا الدمار …/ حصاد الموت يحفك ” ص 80، والتهجير : ” سيل يهاجر الأرض / والديار ليس لها مثيلا / يفارق الأهل والأحبة … تسير الحشود / على الأقدام طويلا ” ص  83، كما يرد في نفس النص: ” زمن يصنع بالقتل / قتيلا فقتيلا / ويزيد بالدمار / دمارا شاهدا ودليلا ” ص 85، مع استخدام ألفاظ تجسد ما صاحب الربيع العربي من مآسي وفجائع  ( نار ودخان ،و نحيب وعويل ، وصدى أنين ) ص 87، لرسم أفق تقاطع حافل بأجواء القتل والتنكيل بين مأساة فلسطين ، ومخلفات الربيع العربي الذي التأم مهندسو ملحمته لتأسيس ثورة تغيير يروم نبذ الظلم ، واستئصال شأفة الفساد: “ضاقت النفوس / واشتعل صوت الشعب / فشهد التاريخ / ثورة العرب ” ص 77، إلا أن هذه الانتفاضة تم الالتفاف حولها والإجهاز عليها لأسباب متعددة فخبا توهجها ، وخمدت شرارتها: ” ما ذا جنينا اليوم من ثورة الربيع / وهل بقي للربيع / لحن في المسامع ؟!” ص 79 ، كما يتمثل هذا التقاطع على مستوى تغيير قادم عبر أمل يستوطن النفوس ، ويشيع في القلوب والأذهان لكل فلسطيني مقتنع بعدالة قضيته ، ومتمسك بالدفاع عنها بعزم وإصرار مهما كلفه ذلك من تضحيات جسام : صابرون كصبر أيوب /عابرون زمن العيوب / واثقون بعلام الغيوب ..  / وبعودة الأقصى ” ص 40 ، في تحد لكل أشكال البطش والتنكيل والتقتيل : “مهما قصفوا مهما قتلوا مهما شردوا/ …نعود وسنعود وسنعود/ وسيرجع الولد والأحفاد ” ص 45، دون تراجع أو تخاذل في مواجهة الموت ، وتحمل تبعات ، وأشكال ترهيب المستعْمِر وغطرسته وجبروته : ” نواجه المنايا كل يوم ولا نستسلم ” ص45، بعدة قوامها الصبر والصمود : ” توالت رحلة الشقاء/ والشعب صابر / وتعددت أساليب العناء/ والعدو جائر ” ص 52. وأيضا في قصائد المحور الثاني ” الأقصى على اليسار … ” التي تنفتح على أمل قادم يتجاوز الخيبات والنكسات بترميم التشققات ، ورأب التصدعات لخلق التئام قادر على تجاوز الانكسارات ، وصنع انتصارات تفتح ثغرات في طريق استعادة عهد  العز والأمجاد  : ” فبعد الآصال لابد من غدو/ ولابد للنصر من دنو/ وكل الآمال ستشدو بشدو/ ويعلو الحق في كل جو” ص90 ، ليكبر حجم هذا الطموح  الوحدوي، وتتسع دائرته كما ورد في نص “على عتبات الاتحاد”: “حييت أرض العروبة محبة تسقينا / وبالمحبة نحيي عصر الفاتحين/ سنسكت ألسنة الأعادي والحاسدين/ ونصد بالأيدي أياد تعادينا ” ص 93، في دعوة لخلق أواصر وحدة عربية تصون الأرض ، وتذود عن وحدتها وسيادتها : ” وبالوحدة العربية نحمي أراضينا ” ص95، ومن ثمة الانتقال إلى خلق صلح عربي إقليمي بين المغرب والجزائر لما يجمعهما من روابط تاريخية ولغوية وعقدية ، مع الحث على ترميم ما عرفته العلاقات بين البلدين الجارين من فجوات : “أنت شقيقتي وأهلي وعشيرتي فعودي / وعودي إلى الرشد حتى لا تضيع كل الوعود … / وكوني للإخاء رمزا لتعرفي طعم الصعود/ حتى نعيد البهجة وفتح الحدود” ص 101، في إشارة لفتح الحدود المغلقة ، والعلاقات المعلقة بتوخي الرشد والتعقل والحكمة دون المساس بوحدة تراب المغرب وحدوده والتي هي رمز سيادته ووجوده ، والتي لا يمكن التفريط فيها : ” هذي أرضي ورسم خريطتي وتلك حدودي / والصحراء صحرائي والعالم يشهد والتاريخ خلودي/ ففي كل حبة من حبات رمالي وجودي / وفي كل شبر من ربوع بلادي نفوذي .” ص 102. وتنتقل الشاعرة للتغني بوطنها مبرزة ومعبرة عن مدى ارتباطها به ، وعشقها له : ” هذا وطني ومهجة فؤادي … أهيم في حبك وشعري بك شادي” ص 103، موازاة مع التعلق بمكان الولادة ، وموطن النشأة مدينة مكناس ، والتعبير عما يجتاحها من مشاعر حب وود  إزاءها: ” أنتِ، يا مسقطي شهدت معك شكل القدر” ص 117، مع الإشادة  بمعالمها التاريخية والحضارية من أسوار ممتدة منيعة، وأبواب عتيدة حصينة: “فاحضني أسوارك وأبوابك حتى لا تندثر ” ص 117، وتراثها الفني الأثيل: “سنغني معا، / قصائد الملحون والكلام الموزون والنثر/ في جنانك الغناء” ص 119، من قصائد الملحون، والطريقة العيساوية المقترنة بكرامات أولياء صالحين ، مع ذكر بعض هذه المآثر ، وتعداد أسمائها: “عرفت بالمدارس والمساجد والقصور/ وأبهى أبوابك باب منصور/ السور الإسماعيلي  حامي عهدك القديم / وساحاتك الفسيحة تتقدمها ساحة الهديم ” ص 121، ورموزها المعمارية: “ومن روائع الفن والمعمار الشهير/ المسجد الأعظم أو الجامع الكبير” ص  122، والولي الصالِح سيدي عبد الرحمن المجذوب الذي جذبته رحابها، وأغواه عبق أجوائها حيث دون قصائده الماثورة، وصدع بأزجاله المؤثرة والمضيئة: “أتاك ولي الله المجذوب / بأقواله يصلح العيوب” ص 122، وما شهدته المدينة من تراجع مثير للقلق والتساؤل عن معالم مجدها ، وإشعاع حضارتها: “أين عزتك، أين مجدك، أين حضارتك الثرية؟ / هاهي مآثرك وقصورك وأسوارك  الإسماعيلية / تتألم في صمت” ص 126، دون فقدان الأمل في استرجاع بريق عز مضى، ومجد ولى: “مكناس، قومي واخلعي ثوب النسيان / والبسي ثوب الفخر والعزة ” ص 127، ولا يفوت الشاعرة التعبير عن مشاعر الحزن والأسى إزاء زلزال الحوز المروع ، وما خلفه في نفسها من مشاعر الغم والشجن: “راحوا  على بغتة حيث راحوا/ ففي ثوان راحت مساكن وأرواح…/ سالت دموع العين والمقل / وصدمت الأبصار من حيل. ” ص 111، مذعنة راضية بمشيئة الخالق وقضائه وقدره: “أتى أمر الله وقضى حكمه الجلل بلا تأجل” ص 111، مصورة هول المصاب ذات ليل بهيم كئيب: “عشنا أجمعين، هول ذاك الليل الطويل” ص 112، مع التحلي بالصبر وبريق الأمل وخيوطه: “وزادنا الصبر/ فلنحيا بالأمل..” ص 112، إذ ما جدوى العويل والنواح أمام تداعي المساكن، وسقوط الأرواح: “تلك الدواوير انهارت/ كأشلاء أشباح …/ لا سبيل للرجوع/ ولا ينفع النواح.”ص113.

وإذا كنا قد أثرنا ما يربط محور “الأقصى على اليمين… ” ومحور “الأقصى على اليسار …” من تقاطع معجمي وتصويري وموضوعي/ تيمي مختزلا في “تيمة ” الموت وما يحيط به من جور وتنكيل، وما يخلفه من خراب ودمار فيما تعرض له قطاع غزة من سفك لدماء الأبرياء، وما آلت إليه ثورة الربيع العربي من أوضاع مشابهة من قتل، وتخريب، وتهجير، ورغم اختلاف الخلفيات والمرامي فإن إواليات التقاطع  لم تنتف بل ظلت قائمة على أمل في تغيير منشود لاستعادة ما سلب من حقوق وحريات، وما انتهك من حرمات وثوابت . فضلا  عن تضمن الديوان للعديد من الموضاعات ؛ كموضوع السِّلْم  والسلام في قصيدة “ليحيا السلام” حيث تقول: “يولد النور/ من ذلك الظلام/ ونغني السلام” ص31، وما يرمز إليه النور من بارقة أمل تخترق جحافل ظلام الضيم والجور ناشدة السلام، صادحة بأنغامه وألحانه، ونشر السلم وإشاعته: “لنرفع السلم /على الأعلام” ص 32، و”تيمة” الأمل المكلل بالنصر: “وحنين الرجوع صدى/ رجوع الغائبين للأقصى …/ صوت النصر مبلل بالدموع / يحبو على عتبات الرجوع” ص 38، في عودة مظفرة إلى الأراضي المغتصبة: “سنمشي نحو شمس الحق المنشود …/ لأننا  بالحب حتما …/ .. سنعود .” ص64، حنين ينمو ويشمخ بين الأضلع والحنايا ليزهر توقا للرجوع إلى الديار المحتلة بعد إجلاء المستعمِر الغاشم، واقتلاع وجوده الناشز من تربتها وترابها . الأمل   بالنصر، والإيمان به سيظل راسخا في أذهان وقلوب كل عربي عانى من حيف التسلط ، ونير الطغيان كما تفصح عن ذلك الشاعرة: “ولا بد للنصر من دنو” ص 90. و”تيمة ” الوحدة العربية كنزعة قومية ترددت في الكثير من نصوص الديوان  مثل ما ورد في قصيدة “لا تسأل عن المصير”: “فهذه أرض قدسية / مهما طال الزمان العسير / ستبقى عربية / سيل العروبة يسير / لنصرة القضية” ص 51، نفس “التيمة” تتكرر في محور “الأقصى على اليسار …” حيث نقرأ: “سنلتقي وشمل العروبة يلاقينا” ص 94، في دعوة إلى التمسك بحبل الله، والانضمام والالتفاف حول آصرة العروبة: “لنعتصم بحبل الله أجمعينا / وبالوحدة العربية نحمي أراضينا” ص 95، لنبذ التفكك، والتخلص من شرك الفرقة ، وربقة التشرذم . والموضوع الديني الذي برز بشكل جلي في ثنايا الديوان في تحديد علاقة العبد بخالقه عبر إحساس بالهيبة والخشوع: “خشعت الأبصار للرحمان” ص51 ، وفي إيمانه بقضائه وقدره: “واتركوا كل شيء للقدر ” ص 52 ، وأمله الكبير في عدله وإنصافه: “عباد، أملهم في الرب المعبود ” ص 63، والفوز والظفر بجنته: “حالمون بجنة الخلود” ص63. واحتل المكان حضورا لافتا في المتن الشعري كالقدس: “سلام على القدس وأهلها … / المسجد الأقصى دليل بريقها” ص 34، وغزة: ” يا غزة الأبرار ” ص 65، والأندلس: “يا حزنا لضياع بلاد الأندلس” ص70 ، وبلاد ثورة الياسمين (تونس)، ودمشق: “من بلاد ثور الياسمين/ حتى أبواب دمشق” ص79، والحوز، ومكناس: “أوج المعالي توارى في مكناس” ص  123. و”تيمة ” المعاناة جراء ظلم الطغاة ،واستبداد المحتل الغازي: “تعب المتعبون من الغياب / تعب المنسيون في المنفى” ص 37، الذي مارس أبشع أشكال القتل والقهر في حق الأبرياء من  الشعب الفلسطيني: “وتزهق أرواح الأبرياء / والأطفال  تتيتم ” ص 42، وما نتج عن ذلك من مآسي  (تهجير، نفي، وتيتيم)، وحظر الماء، والغذاء، والدواء.

وأمام صعوبة الإلمام بكل “تيمات” نصوص الديوان، وما ميزها من تقاطع، وجمعها من روابط تاريخية وحضارية ولغوية وعقدية عمدنا إلى التمثيل لبعضها. كما لا يجب إغفال جوانب أخرى جمالية/ بلاغية، وإيقاعية وردت في قصائده. حيث انتظم الإيقاع عبر قافية أو روي  موحد في أغلب النصوص، في مزاوجة بين إيقاع داخلي خلقه تجانس وتوالي حروف من قبيل القاف والميم في: “تذوب حسرة من ألم الفراق/ ممزقة أرواحنا بأحداث لا تطاق / فظلم العدو فاق كل الآفاق” ص 36، وما أحدثاه من تناغم بين جمل النص وعباراته. وحرف القاف أيضا في قولها: “يلتهمنا القلق/ يعتقلنا الأرق / متى نرى آخر النفق؟” ص 60، وحرف الدال في: “سحائب الظلم يوما ستتبدد/ وأنوار الحق ستتعدد /هي القدس لنا للآبد / تبقى عربية ولو طال الأمد” ص 73، وصور شعرية بمسحة مجازية في مثل: “يشربون الريح/ وآهات جريح / متمسكون بالغمام ” ص 47، في نسق استعاري لا يخلو من جمالية في العبارة والمعنى، مع استعارة السيف للغدر، واليد للمكر: “سيف الغدر يطعن في حشاها / ويد المكر تصحب من  غزاها” ص66، واستخدام الماضي كأداة لرتق الأحلام: “ونرتق بماضينا الأحلام” ص 72. وهي استعمالات تعكس ما تمتلكه الشاعرة من مقدرات بلاغية وإيقاعية تضفي على قصائدها ميزات من التعدد والتنوع والانفتاح.

فديوان “سلام على الأقاصي” غني بتيماته، وأساليبه الموزعة بين مرجعيات مختلفة، والناهلة من حياض كثيرة أسهمت في تشكيل نصوص تقاطعت موضوعاتها عبر ادوات تعبيرية ذات أبعاد دلالية وجمالية لتحديد ملامح أفق إبداعي موسوم بالتجديد والتغيير.

_____________________________________________________________________________________________

* سلام على الأقاصي (ديوان شعري)، ماجدة التدلاوي- مطبعة دار المناهل ـ الرباط 2025.

شارك هذا الموضوع

عبد النبي البزاز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!