جفني يرف: إصدار جديد في القصة القصيرة جدا

جفني يرف: إصدار جديد في القصة القصيرة جدا

إصدارات:

              صدرت حديثّا المجموعة القصصية “جفني يرف ـ قصص قصيرة جدا” للكاتب الأردني الدكتور حسين جداونه في كتاب إلكتروني، وهي المجموعة القصصية السابعة عشرة ضمن مشروعه الإبداعي في السرد الوجيز: القصة القصيرة جدا. يضم الكتاب مئة نص، تعالج موضوعات تتعلق بالجوانب النفسيّة والإنسانيّة والاجتماعية والثقافية والسياسية، عبر معمار قصصي قصير جدا.   ويقع الكتاب في مئة واثنتي عشرة صفحة من القطع المتوسط، الطبعة الإلكترونية الأولى 2025 م.

تتشكل هذه المجموعة القصصية على هيئة مرايا مشروخة، تعكس واقعًا مأزومًا، تلتقط هشاشته، وتضخمه، بعد أن تعبث به، فيبدو غرائبيًّا، لا يخضع لمقتضيات التفسير أو مسلمات السببية. ولعل ما يعرف بالأدب اللامعقول، أو العبثي، هو أحد تجليات هذا الواقع، إذ يصوغ رؤاه المتوترة، والقلقة، في رحلة الكشف عن تصدع المعنى وهشاشته، في عالم تضمحل فيه الإجابات، ويغرق في المزيد من التساؤلات.

     قصص هذه المجموعة لا تقدم إجابات، بل تحفر في الطبقات النفسية والاجتماعية للإنسان المعاصر، المسكون بهواجس القلق والفقد والهشاشة والاغتراب عن الذات وعن الواقع، فهي مقاربات حادّة للوجود الفردي والجماعي، تقترح الشك بديلا عن اليقين، والتأمّل بديلا عن العمه.   

     وقصص هذه المجموعة ليست حكايات مكتملة، ولا تعوّل على حبكة منطقية، أو شخوص واضحة المعالم، بل رؤى تتمرّد على السكون، وعلى المنطق الساذج، المتصالح مع عالم لا منطقي، فهي قصص تستفز القارئ؛ ليصبح شريكًا لها في تفكيك أركان الواقع وفضحه، وإعادة بنائه من جديد.

     تتأسس هذه المجموعة القصصية على عناصر اللامعقول، بوصفها أدوات تفكيك للواقع المعيش ولمركزية المعنى. فاللامعقول ليس مجرد تقنية سردية، أو خيارًا أسلوبيًّا، بل موقفًا جماليًّا معرفيًّا من الوجود في صورته الراهنة، حيث تتقاطع بنيات القصص السردية مع رؤية وجودية عميقة، تتكشف عبر تشظي المعنى، وتحول الشخصيات إلى علامات دلالية غير مكتملة.

     تعانق نصوص هذه المجموعة أدب اللامعقول، حيث يتداخل الواقعي باللاواقعي، والعادي بالمفارق، والعجائبي بالمألوف، ويتشكل العالم تشكلا وجوديًّا متصدّعًا، وهي نصوص لا تتخلى عن المنطق لكنها تدرجه داخل بنية تتجاوزه، ليستخدم ضد نفسه، وليعمل على تفكيك العالم القائم، ووضع القارئ أمام موقف وجودي تأمليّ، قلق ومفتوح على التأويل.

     وليس ثمة عبث في القصص، وإن بدا أحيانًا كذلك، فغياب المعنى، وحضور الغياب هو احتجاج على عبثية الواقع نفسه، وعلى المعاني الجاهزة، والبديهيات والمسلمات. والنصوص هنا عبارة عن فضاءات للتأمل النقدي في هشاشة البنى النفسية والاجتماعية، وفي تناقضات الإنسان المعاصر الرازح تحت نير واقع خانق، يتداخل فيه المعقول باللامعقول، والخاص بالعام. فاللامعقول فنيًّا يصبح بعدّا وجوديًّا وليس مجرد تقنية أسلوبية، أو غرابة مجانية، وتتحول المفارقة إلى وسيلة لتفجير المسكوت عنه في الواقع.

     وتنزع بعض هذه القصص إلى بناء مشاهد سردية، تقوم على مقدمات لا ترتبط بنتائجها ارتباطًا منطقيًّا أو معقولا، فهو ارتباط عصيّ على الفهم والتفسير، إذ إنه يفجر الدلالة بدل أن يعمل على استقرارها، مما يشكل صدمة للقارئ، وتقوم على إنتاج أثر جمالي يتأسس على التوتر مقابل الاستقرار. فهي نصوص غير مكتملة، تستدعي قراءة فاعلة، لتأويله، ولإعادة بنائه وفق أفق من القلق واللايقين.

     ويقوم السرد في النصوص جميعها على التكثيف وعلى الاقتصاد في اللغة، لكنه ينفتح دلاليًّا على فضاءات فلسفية ونفسية تتجاوز حجم النص، لتنتج مفارقات وجودية متوترة ومفتوحة. وتنزلق الحبكة دومًا نحو المجهول، وتقطع القفلة سياق التوقع، لا لتقترح بديلا منطقيًّا، بل لتواجه القارئ بواقعه الذي ليس أقل عقلانية مما يقرأ.

     وتعكس هذه النصوص ازدواجية هذا العالم المأزوم، حيث يتهاوى المنطق أمام جنون الواقع، ويمتزج الحلم بالكابوس، والمعقول باللامعقول، والمألوف بالغرائبي، والممكن بالمستحيل، من هنا يغدو اللامنطقي ليس انحرافًا عن الواقع بل جزءا منه. وأداة كشف لا تشويش؛ لأنه يعكس حقيقة وجودية عميقة، إذ إن العالم لم يعد يسوده نسق عقلاني خالص، بل أصبح مسرحًا لعبث مقنع بمنطق هشّ.

     وتندرج هذه المجموعة ضمن حقل “القصة القصيرة جدًا” بوصفها جنسًا أدبيًا قائمًا بذاته، يتفاعل بوعي مع متغيّرات اللحظة الثقافية والسياسية والوجودية. فالقصة القصيرة جدا عمل سردي متوتر، تنبثق خطابًا جماليًّا مكثفًا، يتعامل مع الحكي معاملة مختلفة عن المألوف، إذ تسعى إلى توليد أثر عميق يربك القراءة، ويفتح باب التأويل على مصراعيه، وتقوم على الحذف واللمح والدهشة، وتقوم على توتير اللحظة السردية، وتفجير الشحنة الدلالية في حيّز صغير جدا، مما يجعل الكلمة الواحدة ذات حمولة رمزية واستعارية وإيقاعية بالغة الدقة.

     والقصة القصيرة جدا نص تفكيكي للسرديات الكلاسيكية، إذ يتشكل جماليًّا ومعرفيًّا تشكلا مضادًّا للمألوف، هي وليدة وعي معاصر في لحظة ارتباك معرفي وتشظ وجودي. فهي نص مكثف، ومباغت، ومشحون بإيحاءات تتجاوز حجمه القصير جدا، وتختزل الحبكة إلى لحظة انكشاف، أو مفارقة، أو صدمة دلالية، وتتخذ من الدهشة إستراتيجية بنائية، لا تأثيرًا عابرًا. وهي تبني دلالاتها من خلال ما تخفيه بقدر ما تظهره، وهي تستثمر المسكوت عنه، والتناص، والانزياح، واللغة البنائيّة المكثفة، والتضاد بين الشكل والمعنى، لتجابه الواقع، لا لتعبر عنه، بل تفككه، وتعيد تأويله.

     تشتغل القصص على المسافة الفاصلة بين المعقول واللامعقول، وعلى القلق بوصفه هويّة سردية، فتتولد الأسئلة من الأسئلة، ويهيمن على المجموعة التوجس كإطار شعوري عام، حيث يتسلل في بنية النصوص، فيتماهى الواقعي بالخيالي، والمنطقي باللامنطقي، فيخلق أجواء غرائبية، تشبه الكوابيس اليومية التي يستفيق منها الإنسان المعاصر، ليجد نفسه أمام كوابيس جديدة.

     تجسد هذه المجموعة من القصص القصيرة جدا التوجس كنسق دائم يسكن اللغة والسرد والبناء، فكل قصة يرف جفن الوعي فيها، كأن شيئًا على وشك الحدوث، أو أنه حدث فعلا، ولكن خارج منطق الأحداث. فالتوجس هنا ليس مجرد شعور عابر، بل هو موقف فلسفي تجاه واقع لا يمكن الوثوق به، واقع مسكون بالقلق والاضطراب، شخوصه قلقة تتأرجح بين ما يظهر وما يخفى.

  “جفني يرف” مجموعة قصصية لا تقرأ دفعة واحدة، بل تتذوق على دفعات، فهي دعوة لتجريب التوجس، ليس بوصفه قلقًا خارجيًّا، بل كارتباك داخلي من هذا العالم الذي لا يكفّ عن خداعنا بواقعيته الظاهرة.

شارك هذا الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!