حركة جيل Z تنقل الكرة الى المربع الملكي وإلى الملك نفسه

عبد الرحمان الغندور
يجد المغرب نفسه اليوم في مواجهة تحديات حقيقية لا يمكن تغافلها، مصدرها الرئيسي هو هذا الجيل الجديد من الشباب، المعروف باسم جيل Z، الذي رفع صوته عالياً في شوارع الوطن. هذا الجيل، الذي نشأ في عصر التكنولوجيا والانفتاح الرقمي، ويطالب بإصلاحات جذرية تتجاوز الوعود التقليدية، ويُشكّل ضغطاً متزايداً على الدولة عموما، وعلى الدولة العميقة والمحيط الملكي والملك نفسه بشكل خاص، وهي الجهات التي تقود دفة الحكم منذ عقود. إن التحديات التي يفرضها هذا الحراك الجديد ليست مجرد مطالبات اقتصادية أو اجتماعية، بل هي إشكالية وجودية تمس جوهر النظام القائم.
إن خروج هؤلاء الشباب بشكل موحد في زخم جماعي عبر مدن متعددة، حاملين نفس المطالب وبنفس الإيقاع، قد شكل لحظة تاريخية مفصلية غير مستغربة رغم طابعها المفاجئ، من حيث شكلها غير المسبوق وآليات تنظيمها العفوية، وشعاراتها التي لم تُصمم في الغرف المغلقة، وتوقيت انفجارها الذي لم يحسب له أحد حسابًا. لأن الرواسب المتراكمة من الأزمة الاجتماعية والسياسية كانت قد بلغت مرحلة الغليان، حيث لم يعد هناك من منفس إلا هذا الانفجار الشعبي العارم، الذي يأتي دائمًا بالشكل الذي لا تتوقعه الأجهزة القمعية، متجاوزًا تهديداتها ومحاولاتها لإفساد الإرادات أو ممارسة القتل المعنوي ضد الأحلام.
وتكمن إحدى السمات البارزة لهذه الاحتجاجات في إصرار القائمين عليها على تأكيد طابعها الاجتماعي المحض، انطلاقًا من معاناة يومية معيشة. فهم يطالبون بالعمل والصحة والتعليم والسكن اللائق، مطالب تبدو في ظاهرها اجتماعية بحتة، لكن وعيهم المتقد يدرك أن هذه المطالب تتحول حتمًا إلى مطالب سياسية بمجرد المطالبة بتحقيقها. لأنها تستدعي إعادة نظر جذرية في كيفية إنتاج الثروة الوطنية وتوزيعها بعدالة، والتي لا تتحقق دون مراجعة شاملة لهيكل الاقتصاد ونظم التكوين والتأهيل؟ ولا تنجز دون مساءلة آليات تدبير السلطة وطريقة اتخاذ القرار. فالسياسة حاضرة بقوة من خلال المطالبة الصارخة باجتثاث الفساد الذي استشرى في الجسد الوطني، ومن خلال الدعوة إلى ترشيد الاستثمارات وتحويلها من مجرد أرقام في التقارير إلى مشاريع تنموية حقيقية يلمسها الناس في حياتهم. وتتجلى السياسة بوضوح في تلك الإدانة الحازمة للقمع بكافة أشكاله، الذي وُجه إلى الصدور العارية والأصوات المطالبة بحقوقها المشروعة.
لا ريب في أن الطريق نحو تحقيق هذه المطالب الشعبية النبيلة ليس مفروشًا بالورود، ولا يمكن لوهلة حماسية واحدة، مهما بلغت قوتها، أن تحقق المعجزة بين عشية وضحاها. فتحقيق هذه التطلعات يتطلب نضالًا طويلاً ومتواصلاً، وإرادة صلبة لا تلين. وأن هذه الاحتجاجات لها جذور في التاريخ الوطني، وهي الوريث الشرعي لسلسلة طويلة من المعارك النضالية التي خاضها الشعب المغربي منذ انتفاضة 23 مارس 1965، مرورا بـ 20 يونيو 1981، وانتفاضة فاس 1990 وما تلاها من حراكات الى حركة 20 فبراير 2011 وحراك الريف وجرادة وسيدي ايفني وغيرها، وكلها تشكل حلقات في سلسلة واحدة من أجل الكرامة والعدالة. إنها أحلام شبابنا الواعدة وطموحاتهم المشروعة، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا بشق الطريق نحو مجتمع ودولة جديدين يتم القطع فيهما مع كل أشكال الاستبداد والاستحواذ على مقدرات البلاد، وينتفي فيهما الفساد والكساد. إنهم برفضهم واستمرارهم في النزول إلى الساحات، لا يطالبون فقط بحقوقهم المسلوبة، بل يساهمون بشكل جوهري وأصيل في بناء لبنات ذلك الصرح الشامخ: صرح مجتمع ودولة الحرية الحقيقية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية.
وفي كل محطة من هذه المحطات، كانت أبرز هذه الإكراهات تتمثل في التناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي الذي يُروّج لإصلاحات هيكلية، والواقع الذي يرزح تحت وطأة الفساد المستشري، والاستبداد الاقتصادي الذي يُكرّس ثروات فئة قليلة على حساب الأغلبية الساحقة. وخذا ما أدركه جيل Z تماماً وأن الفرص الاقتصادية غير متكافئة، والمناصب والصفقات غالباً ما تكون حكراً على نخبة معينة، وأن التهميش الاجتماعي ليس مجرد صدفة، بل هو نتيجة لسياسات متعمدة. هذا الوعي الجديد، الذي يتغذى من وسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى الرقمي، يُعطي هذا الجيل قدرة غير مسبوقة على التنظيم وتعبئة الشارع، بعيداً عن القنوات التقليدية التي كانت الدولة العميقة تُسيطر عليها.
في هذا السياق، تواجه الدولة العميقة والمحيط الملكي، والملك نفسه، خيارات صعبة ومعقدة. هناك فريق يُؤمن بالحلول القمعية والأمنية، ويُجادل بأن الرد الصارم هو السبيل الوحيد للحفاظ على الاستقرار. يرى هذا الفريق أن أي تنازل قد يُفتح الباب على مصراعيه لمطالب أكبر قد تُهدد النظام، وأن السيطرة على الشارع عبر القوة تُعدّ الحل الأنجع. هذا الخيار، على الرغم من أنه قد يُخمد شرارة الاحتجاجات مؤقتاً، إلا أنه يُهدد بتأجيج الغضب الشعبي على المدى الطويل، ويُعرّض شرعية النظام للخطر، خاصة في ظل رقابة عالمية متزايدة على حقوق الإنسان.
في المقابل، يرى فريق آخر أن الحلول الأمنية وحدها ليست كافية، وأنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية. يرى هذا الفريق أن الحل يكمن في الإصلاحات الجذرية والشاملة، التي تُعالج جذور المشكلة، وليس فقط أعراضها. تُناقش هذه النخب إمكانية فتح الباب أمام حوار حقيقي مع الشباب، وتبني سياسات اقتصادية تُعزز التنافسية وتناهض الاحتكار، وتُوسّع قاعدة المستفيدين من الثروة الوطنية. كما أنهم يُدركون أهمية محاربة الفساد بجدية، ليس فقط عبر الخطابات، بل عبر آليات قانونية وقضائية مستقلة وفعالة.
إن التحدي الحقيقي أمام الدولة العميقة والمحيط الملكي والملك نفسه، يكمن في إيجاد توازن دقيق بين هذين الخيارين. فهل يمكن للنظام أن يُقدّم تنازلات حقيقية دون أن يفقد السيطرة؟ وهل يستطيع أن يُحارب الفساد دون أن يُهدد مصالح النخبة التي تدعمه؟ إنّ الإجابة على هذه الأسئلة ستُحدد مصير المغرب في السنوات القادمة. فإما أن يُدرك النظام أن جيل Z ليس مجرد عابر سبيل، وأن مطالبه المشروعة تستحق استجابة حقيقية، أو أن يختار طريق المواجهة، الذي قد يؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها.