حلم صغير بحجم وطن

حلم صغير بحجم وطن

محمد بوحمام

          ليتها ظلت نائمة. ليتها ظلت مسترخية بدون حراك، ليتها ظلت على تلك الوضعية وهي تعب رحيق أنفاس الليل، في قفصها الصدري . ليت زيارتها هذه الليلة كانت أطول بقليل. فكلما بلغت نشوة البوح صاح حارس الأحلام معلنا نهاية الزيارة، وكأنه في حالة اعتقال، أو حبس احتياطي في قاعة منفردة مع شبح من إياهم، فيظل كل شيء معلقا، إلى حين الحصول على ترخيص جديد في الثلث الأخير من ليله الحالم والحظوة بحقه الطبيعي بخلوة روحانية، في جلسة مكاشفة تتحدى عتمات القلعة المحصنة، وتختزل كوابيس العمر في حلم واحد لاختصار كل الليالي في ليلة واحدة، وينتهي كل شيء.

هكذا ردد في صبيحة يوم مبتور من بدايته، قبل أن يغادر سرير القلعة المحروسة، المحكومة بنظام الحصص، من دون أن يتأكد في ما إذا كان قد استوفى فعلا حصته من النوم، أم أنه مجرد افتراء من ذلك اللعين، الذي نصب نفسه مسؤولا بدرجة حارس.    

وكما حصل في ليل القلعة، ابتدر يومه بقبلة البداية، من حيث انتهى الصراع اللامتكافئ مع ذلك الشبح السالب للنوم، لعله يتمكن من مواصلة الحلم، بأنفاس جديدة وبنفس الطاقة، قبل أن ينتهي مفعول قبلة الشحن التي لا تحتسب في عداد عمر الزيارة، شحنة مجانية من القائمين على هندسة المشاعر بتلك القلعة، المتحكمين عن بعد في المشاعر والأحاسيس وانتظام الأنفاس، وحتى حجم التبان ولون الجوارب، كما زعم أحدهم ذات زلة، وإن كانت مطوقة بشروط صارمة، تخضع لقدرة كل واحد على تخزين أكبر قدر ممكن من الطاقة بأنفاس معدودة، لا تتعدى عمرا واحدا من الزيارة، وأي طلب للتمديد مرفوض.

ولذلك فإن كل واحد مطالب بتدبير أنفاس عمره بما توفر لديه من طاقة في خزينة حياته اليومية، المستخلصة من الخزينة العامة،…، لأن موعد الشحن المقبل غير محدد، ولا يمكن التكهن بتاريخ السماح بتجديد بطارية الوجود، في غياب أي مبرر يكسر هذه القاعدة، وأي حركة زائدة أو تشتث بصري أو ذهني أو حسي أو عضوي، يستخلص من المنبع الذي قد يجف في منتصف النهار، نهار المستفيدين من حقنة الحياة، عبر ارتشاف حصصهم من تلك القبلة السحرية. فالقانون صارم لا يقبل العبث، ولا أحد يعذر بجهله للقانون الطبيعي للنظام المعمول به.

بعد أول منعرج في مسالك القلعة، فوجئ برسالة من المجيب الآلي: شكرا على الزيارة فقد انتهت صلاحية بطاريتكم، …. ، ليعود خائبا من دون أن ينال حصته كاملة من الحياة، عاد خائبا بدون زاد يؤمن لها مواصلة ما تبقى من عمر يومه القصير الذي غالبا ما يتم تقزيمه إلى الحد الأدنى قبل ظهور الخيوط الأولى من شفق الغروب، في انتظار موعد الحصة المسموح بها بعد المغرب أو قبل صلاة العشاء بقليل، إن كان لديها في ذلك نصيب، ولذلك فإن تلك الحقنة غير مضمونة، ولا تؤمن الانخراط في الحياة لأي كان إلى ما لا نهاية، وأن مجانيتها لا تعني أنها مجانا، كما يفهم من منطوق النص، فهي تساعد على تصنيف نزلاء القلعة من خلال تلك الشحنة المحدودة المفعول، التي تمكن من توجيه مسار المستفيدين، ومدى تجاوبهم مع مفعولها السحري، ،ومعرفة إذا كانت دلاقيش المستفيدين صالحة لارتشاف الحياة أم لتلميع أحذية الحياة البراقة أصلا، أم لملء الحياة بالصراخ، أم لإكمال نصيب الحق في الحياة بهذه القلعة المعزولة عن الواقع، حفاظا على التوازنات، وإجراء عملية الفرز على ضوء النتائج المحصل عليها، دون احتساب أصوات من لا رصيد لهم في بنك القلعة بمن فيهم المدينون لصندوقها الفارغ بقبلات الدعم الإضافي لحقنة الوجود، لدواعي إنسانية قاهرة.

وقبل أن يستنفذ حصته من الحياة هذه الليلة، فكر بفتح حساب جديد في خزان العمر، بشفرة فريدة تنتهي بآخر حروف البشرية، الذي لا حرف بعده إلا بتغيير شامل لهذه الرموز التي عمرت طويلا. لعله يتمكن من التغلب على القهر اليومي المأزوم الموشك على الانهيار، أمام سطوة نظام الحصص، الذي يعتبره مجحفا و ظالما ولا يكفي حتى لإتمام حلم واحد، أو تسديد فاتورة رحلة إلى ضفاف الحياة، بدون تذكرة للعودة، لأنه لم يعد يفكر في الرجوع إلى بداية الليل، والعيش في قبو أحلام محروسة، لا يمكن أن تكتمل في عتمات القلعة الآهلة بالأرواح الشريرة، التي تتربص به كلما حاول إبداء أي تمرد أو عدم الرضا عن بتر أحلامه، وعجزه عن مقاومة شراسة حراس الليل الذين لا يتحدثون لغته ولا يتاونون في تطبيق نظام الحصص في النوم واليقظة، في الحلم والصحو، بل وحتى نصيبه في الصفع أو الركل، لإقبار كل البقع السوداء التي قد تلطخ صفحة القلعة وسمعة الساهرين على تدبير شؤونها العامة والخاصة والأكثر خصوصية.

فكل واحد ينال حقه ونصيبه من الحصص، حسب سقف كل حلم وتناغم مساحته مع الأركان الثابتة للقلعة، وحسب طبيعة ونوعية أقواله وأفعاله وما لم يقم به أو يفعله أصلا، لأن الجمود رديف الموت، وهذا فأل غير مستحب، ونذير شؤم لا يبشر بالخير.

استرخى في قاعة الانتظار، خلف طوابير المتهورين الذين بذروا شحنتهم في الطريق إلى الحياة، قبل بلوغ عتبة الحلم، ممن استنفذوا حصصهم من حقنة الحياة، الذين لم يعرفوا كيف يدبرون حصص عمرهم، إلى أن غالبه النوم، ليرى حلمه مدرج في لائحة المبحوث ضمن الحالمين بوطن…

شارك هذا الموضوع

محمد بوحمام

صحفي وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!