حين تخذلنا الأنظمة: من الشرعية إلى العجز الممنهج

حين تخذلنا الأنظمة: من الشرعية إلى العجز الممنهج

الدكتور حسن العاصي

           في الأزمات الكبرى، حين تتكاثف التحديات وتتعاظم المخاطر، يتطلع المواطنون إلى أنظمتهم السياسية بوصفها الحصن الأخير والملاذ الآمن. غير أنّ التجربة التاريخية والمعاصرة تكشف لنا، بمرارة متكررة، أنّ هذه الأنظمة كثيرًا ما تتحول إلى مصدر للخذلان بدل أن تكون سندًا للحماية. فالسلطة التي يفترض أن تُدار بمنطق المسؤولية والشرعية، تنزلق في كثير من الأحيان إلى منطق البقاء والاستحواذ، حيث تُقدَّم مصالح النخبة الحاكمة على حساب حاجات المجتمع، ويُستبدل خطاب الرعاية بخطاب التبرير، وتُستبدل سياسات التنمية بإجراءات القمع والتضييق.

حين نتأمل في مسار التاريخ السياسي الحديث، ندرك أن الخذلان لم يعد مجرد حادثة عابرة أو خطأ في الحسابات، بل أصبح سلوكاً ممنهجاً تتبناه أنظمة الحكم في لحظات الامتحان الكبرى. فالأنظمة التي تُفترض وظيفتها حماية الشعوب وصون كرامتها، كثيراً ما تتحول إلى أدوات لإعادة إنتاج التبعية، وإلى آليات لإجهاض آمال الجماهير في الحرية والعدالة. هنا يتجلى التناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي الذي يَعِدُ بالنهضة والإصلاح، وبين الواقع المعيش الذي يكرّس الاستبداد ويُعمّق الفجوة بين السلطة والمجتمع.

من منظور أكاديمي، يمكن قراءة هذا الخذلان بوصفه تعبيراً عن أزمة بنيوية في علاقة الدولة بالمجتمع، حيث تغيب آليات المساءلة، وتُختزل الشرعية في شعارات فارغة أو في تحالفات خارجية. أما من زاوية صحفية نقدية، فإن هذا الخذلان يتجسد في صور يومية ملموسة: في صمت الأنظمة أمام المآسي الإنسانية، في تواطؤها مع القوى المهيمنة، وفي عجزها عن تقديم حلول حقيقية لأزمات البطالة والفقر والهجرة. إننا أمام مشهد تتكرر فيه الوعود، لكن تتلاشى فيه الأفعال، لتبقى الشعوب وحدها في مواجهة مصيرها.

إنّ خذلان الأنظمة لا يظهر فقط في لحظة الانهيار الاقتصادي أو الفشل الأمني، بل يتجلى أيضًا في غياب الرؤية، في تهميش الثقافة، وفي تعطيل إمكانات الأفراد والجماعات. وحين يُترك المواطن عاريًا أمام العاصفة، بلا حماية ولا أفق، يصبح الخذلان فعلًا سياسيًا وأخلاقيًا مركبًا، يضرب الثقة في المؤسسات ويقوّض العقد الاجتماعي الذي يفترض أن يربط الدولة بمواطنيها.

من هنا، تأتي أهمية مساءلة هذه الأنظمة، ليس فقط من زاوية الأداء السياسي، بل من زاوية المسؤولية الأخلاقية تجاه شعوبها. فالمقال الذي يبدأ بعنوان “حين تخذلنا الأنظمة” لا يكتفي بتسجيل لحظة غضب أو خيبة، بل يسعى إلى تفكيك البنية العميقة لهذا الخذلان، وإلى فهم كيف يتحول النظام من أداة للحماية إلى أداة لإعادة إنتاج القهر، وكيف يصبح المواطن شاهدًا على انهيار المعنى قبل انهيار المؤسسات.

المقال لا يكتفي بتشخيص مظاهر الخذلان، بل يسعى إلى مساءلة جذوره الفكرية والسياسية، وإلى طرح سؤال جوهري: هل يمكن للأنظمة أن تستعيد ثقة مواطنيها، أم أن الخذلان أصبح جزءاً من بنيتها العميقة؟ بهذا المزج بين التحليل الأكاديمي واللغة الصحفية المشتعلة، يتحول النص إلى صرخة نقدية، وإلى محاولة لفك شيفرة العلاقة المأزومة بين السلطة والناس.

الخذلان السياسي

يُعدّ الخذلان السياسي أخطر أشكال الانهيار في علاقة المواطن بالسلطة، لأنه يمسّ جوهر العقد الاجتماعي الذي يفترض أن يقوم على الثقة والشرعية والمسؤولية. فالأنظمة التي يُفترض أن تكون حاميةً للمجتمع وضامنةً لاستقراره، تتحول في كثير من السياقات إلى أدوات لإعادة إنتاج القهر، حيث تُقدَّم مصالح النخبة الحاكمة على حساب المصلحة العامة، ويُستبدل خطاب الإصلاح بخطاب التبرير، وتُستبدل سياسات المشاركة الشعبية بإجراءات الإقصاء والتضييق. إنّ هذا الخذلان يتجلى في غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإحداث التغيير، وفي تحويل المؤسسات إلى هياكل شكلية تُدار بمنطق الولاء لا بمنطق الكفاءة، وفي استدعاء شعارات الوطنية والأمن القومي لتغطية الفشل وإسكات النقد.

من الناحية الأكاديمية، يمكن النظر إلى الخذلان السياسي باعتباره أزمة شرعية مزدوجة: شرعية الأداء وشرعية التمثيل. فعندما تفشل الأنظمة في إدارة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فإنها تفقد شرعية الأداء؛ وعندما تُقصي القوى المجتمعية وتحتكر القرار، فإنها تفقد شرعية التمثيل. هذا الانهيار المزدوج يخلق فراغًا سياسيًا خطيرًا، حيث يشعر المواطن أنّ الدولة لم تعد تعكس إرادته ولا تحمي مصالحه، بل تحولت إلى جهاز بيروقراطي متضخم يفرض سلطته دون أن يقدم مقابلًا حقيقيًا.

أما من الناحية الصحفية، فإنّ خذلان الأنظمة يظهر في تفاصيل يومية ملموسة: في غياب الشفافية، في التلاعب بالخطاب الإعلامي، في تحويل الانتخابات إلى مسرحيات شكلية، وفي إدارة الأزمات عبر لغة الإنكار بدل لغة المسؤولية. المواطن الذي يواجه هذه الوقائع لا يرى في النظام سوى سلطة متكلسة، عاجزة عن الإصغاء، ومهووسة بالبقاء، حتى لو كان الثمن هو انهيار الثقة وتآكل الانتماء. وهكذا يصبح الخذلان السياسي ليس مجرد إخفاق عابر، بل بنية متكررة تُعيد إنتاج نفسها عبر كل أزمة، لتترك المجتمع في مواجهة فراغٍ سياسي وأخلاقي لا يملؤه سوى الغضب والخيبة.

الخذلان الاقتصادي

إذا كان الخذلان السياسي يضرب في عمق الشرعية، فإنّ الخذلان الاقتصادي يضرب في أساس الحياة اليومية للمواطن. فالاقتصاد ليس مجرد أرقام في تقارير رسمية، بل هو شبكة معيشية تحدد قدرة الناس على البقاء، على العمل، على التعليم، وعلى الحلم بمستقبل أفضل. حين تفشل الأنظمة في إدارة الموارد، أو حين تُدار هذه الموارد بمنطق الفساد والمحسوبية، يتحول الاقتصاد إلى أداة قهر بدل أن يكون أداة تنمية. المواطن الذي يُفترض أن يحظى بفرص متكافئة يجد نفسه محاصرًا ببطالة مزمنة، وغلاء متصاعد، وانعدام أفق، بينما تُهدر الثروات في مشاريع استعراضية أو تُنهب عبر شبكات النفوذ.

من منظور أكاديمي، يمكن توصيف هذا الخذلان باعتباره أزمة توزيع وعدالة. فغياب السياسات الاقتصادية العادلة يؤدي إلى تراكم الثروة في يد قلة، مقابل اتساع رقعة الفقر والهشاشة. هذا الخلل البنيوي لا يقتصر على أرقام الناتج المحلي أو نسب التضخم، بل يتجلى في تعطيل الحراك الاجتماعي، حيث يصبح الانتقال من طبقة إلى أخرى شبه مستحيل، ويُحكم على أجيال كاملة بالبقاء في دائرة الحرمان. إنّ الاقتصاد هنا لا يفشل فقط في تحقيق النمو، بل يفشل في تحقيق العدالة، وهو ما يجعل الخذلان الاقتصادي أكثر قسوة لأنه يضرب في صميم الكرامة الإنسانية.

أما من زاوية صحفية، فإنّ هذا الخذلان يظهر في التفاصيل اليومية: في طوابير الخبز، في عجز الأسر عن دفع تكاليف التعليم أو العلاج، في هجرة الشباب بحثًا عن فرصة، وفي انهيار الثقة بالعملة الوطنية أو بالسياسات المالية. المواطن الذي يواجه هذه الوقائع لا يرى في النظام سوى سلطة عاجزة عن إدارة أبسط احتياجاته، أو متواطئة في تركه يواجه مصيره منفردًا. وهكذا يصبح الخذلان الاقتصادي ليس مجرد إخفاق في السياسات، بل جريمة أخلاقية تُرتكب بحق المجتمع، لأنها تحرم الناس من حقهم الأساسي في العيش الكريم.

الخذلان الاجتماعي والثقافي

حين تفشل الأنظمة في صون النسيج الاجتماعي والذاكرة الثقافية، فإنها لا تترك فراغًا عابرًا، بل تُحدث تصدّعًا عميقًا في معنى الانتماء ذاته. يتجلّى الخذلان الاجتماعي في سياسات تُحوّل المجتمع إلى كتلة صامتة، عبر تقييد المبادرات المدنية، وإضعاف مؤسسات الوساطة (النقابات، الجمعيات، المنتديات)، وإخضاع المجال العام لمنطق الولاء بدل الكفاءة والمشاركة. بهذا، يُحرم المواطن من حقه في التعبير والتنظيم، وتُصادر طاقة المجتمع على بناء حلول ذاتية للأزمات، فتترسّخ ثقافة العزلة والتوجّس، ويُعاد إنتاج الهشاشة جيلاً بعد جيل.

أما ثقافيًا، فخذلان الأنظمة يظهر في تهميش الفنون والآداب والبحث العلمي، وفي التعامل مع الذاكرة الجماعية كعبء سياسي ينبغي التحكم فيه لا كرصيد وطني ينبغي رعايته. تُستبدل الثقافة النقدية بثقافة ترويجية، تُرعى المواسم الاستعراضية وتُهمل المشاريع المستدامة، فتفقد المؤسسات الثقافية استقلالها، ويُحاصر المثقفون بين رقابة مباشرة وتأطير ناعم. النتيجة هي تخريب بطيء للخيال الاجتماعي: تضعف أدوات السؤال، ينكمش أفق التغيير، ويصبح المواطن مُستهلكًا للسرديات الرسمية أكثر منه مُنتجًا لمعنى جديد. بهذا المعنى، الخذلان الثقافي ليس نقصًا في التمويل فقط، بل تقويضًا للوعي الذي يحمي المجتمع من القهر ويمنحه القدرة على المقاومة المدنية.

الخذلان الأخلاقي

لا تُقاس الأنظمة بما تُعلن، بل بما تفعله حين يتعرّض أضعف مواطنيها للتهديد. الخذلان الأخلاقي يظهر حين تتحوّل الأزمات الإنسانية إلى ملفات تفاوض، وحين تُدار معاناة الناس بمنطق العلاقات العامة بدل منطق المسؤولية. عندما تُقدَّم الأرقام على الوجوه، والسياسات على الكرامة، يصبح النظام شريكًا في إنتاج الألم، ولو عبر الصمت أو اللامبالاة. هنا تتعرى الدولة من ادعاءاتها، لأن أخلاقها تتحدّد في لحظات الضعف: هل تنحاز للإنسان أم للسلطة؟

من منظور معياري، تنهار شرعية الدولة حين تُخِلّ بواجب العدالة والإنصاف، وحين تتحايل على القانون لخدمة شبكة مصالح مغلقة. تُطبع الانتهاكات، يُطبّع التمييز، ويُعاد تعريف “المصلحة العامة” بما يوافق بقاء السلطة لا حقوق المواطنين. هذا الخذلان لا يترك أثرًا نفسيًا فقط، بل يُفكك رابطة الثقة التي يقوم عليها الاجتماع السياسي. ومع الزمن، تتحول الأخلاق العامة إلى مزيج من البرود والذرائعية، حيث يعتاد المجتمع على منظومة قيم تُكافئ القسوة وتُعاقب التعاطف، فتغدو الدولة آلةً بلا قلب، والمواطن رقمًا بلا اسم.

الخذلان في مواجهة القضايا الوطنية والقومية

حين تُعامل القضايا العادلة بوصفها أعباء دبلوماسية، يفقد الخطاب الرسمي روحه، ويفقد المواطن يقينه بأن دولته تمثّل ذاكرته وضميره. في السياق العربي، تبدو فلسطين مثالًا صارخًا: تُختزل قضية شعب في بروتوكولات وبيانات، بينما تُهمَّش رواية الذاكرة والمقاومة، ويُطلب من الجمهور أن يتعايش مع اللاعدالة كـ“واقع” لا فكاك منه. هذا التحويل النفعي للقضايا الكبرى يقتل المعنى، لأن العدالة ليست ملفًا إداريًا، بل ميثاق هوية يُعيد تعريف الوطن ويمتحن أخلاق السلطة.

خذلان الأنظمة هنا يتجلى أيضًا في الارتهان لسرديات خارجية تُعيد صياغة الأولويات الوطنية بما يخدم تحالفات ظرفية. تُغلق الحدود على الذاكرة، تُفتح الأبواب للمصالح العابرة، ويُطلب من الناس أن ينسوا لكي تستمر اللعبة. بهذا، تفقد الدولة وظيفتها التمثيلية، لأن من لا يحمي القضايا المؤسسة للوعي الجمعي لا يستطيع أن يدّعي تمثيل شعبه. إنّ دولةً تذعن في الحقّ الوطني ستذعن في الحقّ المدني، لأن معيار العدالة لا يتجزأ: من يُفرّط في قضية الأمة سيفرّط في حقوق المواطن.

الآثار المترتبة على الخذلان

خذلان الأنظمة لا يمرّ بلا كلفة؛ إنه يراكم شروخًا تتحول مع الوقت إلى انهيارات. أول هذه الآثار هو فقدان الثقة في المؤسسات: حين يُختبر المواطن مرارًا بخطاب يعد ولا يفي، يُمدح ولا يحمي، تتآكل صدقية الدولة، ويصبح القانون أداة انتقائية لا مرجعًا جامعًا. ثانيها تفكك الرابط بين المواطن والدولة: تتراجع المشاركة، يضعف الانتماء، وتتحول السياسة إلى مسرح منفر، فتملأ الفراغ قوى غير رسمية قد تحمل بذور فوضى أو بدائل مشروعة تبحث عن منافذ.

ثالثها هو التحول الاجتماعي الهادئ نحو اللامبالاة أو الانفجار: إمّا أن ينسحب الناس إلى نجاة فردية بائسة، أو أن يندفعوا إلى احتجاجات متكررة تُطالب بأدنى حقوقهم. وفي الحالتين، يدفع المجتمع ثمنًا باهظًا: اقتصاد يتباطأ، ثقافة تتسطح، شباب يهاجر أو ينكسر، وذاكرة تُمسخ أو تُقاوم بلا سند مؤسسي. أخيرًا، تتولد هشاشة سيادية: دولةٌ تفقد أخلاقها تضعف في الداخل والخارج، لأن قوة السيادة تُقاس بصلابة العقد الاجتماعي كما تُقاس بصلابة الحدود.

نحو استعادة الشرعية وبناء أفق جديد

حين تخذلنا الأنظمة، لا نخسر السياسات فحسب، بل نخسر اللغة التي نقول بها أنفسنا، ونفقد الرابط الذي يشدّنا إلى ما نسمّيه وطنًا. فالخذلان هنا ليس مجرد إخفاق إداري أو سياسي، بل هو انهيار في البنية الرمزية التي تمنح المجتمع معنى وجوده. إنّ الدولة حين تتحول إلى جهاز قمعي أو بيروقراطي متكلّس، فإنها لا تجرّد المواطن من حقوقه فقط، بل تجرّده من القدرة على التعبير عن ذاته، وتحوّل الوطن من فضاءٍ جامع إلى عبءٍ خانق.

هذه المقالة لا تسعى إلى الرثاء أو البكاء على الأطلال، بل إلى التفكيك: تفكيك بنية الخذلان التي تتجلى في السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق والقضايا الوطنية الكبرى. فالتفكيك هنا ليس تمرينًا نظريًا، بل فعلًا معرفيًا وأخلاقيًا يهدف إلى كشف آليات التهميش، وإعادة مساءلة السلطة، وتعرية الخطاب الذي يبرّر القهر ويُعيد إنتاجه. إنّ مساءلة الخذلان هي الخطوة الأولى نحو استعادة المعنى، لأنّ ما يُفقد في لحظة الانهيار ليس فقط الثقة بالمؤسسات، بل القدرة على تخيّل مستقبل مختلف.

من هنا، يصبح السؤال المركزي: كيف نعيد بناء شرعية تُنصف الإنسان، وتحرّر الذاكرة، وتستعيد معنى الدولة بوصفها رعايةً لا قهرًا؟ هذا السؤال لا يخصّ السياسة وحدها، بل يخصّ كل ما يجعل الحياة قابلة للعيش: العدالة الاقتصادية، المشاركة الثقافية، الأخلاق العامة، والالتزام بالقضايا الكبرى التي تُعرّف هوية الشعوب. إنّ إعادة بناء الشرعية ليست مجرد إصلاح إداري، بل هي إعادة تأسيس لعلاقة جديدة بين المواطن والدولة، علاقة تقوم على الثقة لا على الخوف، وعلى المشاركة لا على الإقصاء، وعلى الكرامة لا على الاستغلال.

إنّ ما نطمح إليه هو أن يتحول هذا التشخيص إلى خريطة عملية واقعية للإصلاح الممكن، حيث تُستعاد الدولة كفضاءٍ جامع، وتُستعاد الذاكرة كرصيدٍ مقاوم، ويُستعاد الإنسان كغايةٍ لا كوسيلة. فالمعركة الحقيقية ليست ضد الأزمات وحدها، بل ضد الخذلان الذي يجعل الأزمات قدرًا أبديًا. وحين نواجه هذا الخذلان بالمعرفة والنقد والمساءلة، نفتح الطريق أمام أفق جديد، أفقٍ يُعيد للسياسة معناها، وللاقتصاد عدالته، وللثقافة حيويتها، وللأخلاق حضورها، وللقضايا الوطنية صدقيتها.

نحو خريطة عملية للإصلاح الممكن

إنّ مواجهة الخذلان لا تكتمل بمجرد تشخيصه أو فضحه، بل تحتاج إلى خريطة عملية تُوازن بين النقد والاقتراح، بين تفكيك البنية القائمة وبناء أفق جديد. هذه الخريطة ليست وصفة جاهزة، بل إطار سردي يفتح المجال أمام التفكير الجماعي في مسارات الإصلاح الممكن، عبر خمسة مستويات مترابطة: السياسي، الاقتصادي، الثقافي، الأخلاقي، والوطني.

على المستوى السياسي، الإصلاح يبدأ بإعادة تعريف الشرعية لا بوصفها مجرد بقاء في السلطة، بل بوصفها عقدًا اجتماعيًا يقوم على المشاركة والشفافية والمساءلة. هذا يعني فتح المجال العام أمام قوى المجتمع، تعزيز استقلال المؤسسات، وضمان أن تكون الانتخابات والقرارات السياسية انعكاسًا حقيقيًا لإرادة الناس لا مسرحيات شكلية. فالدولة التي تُعيد بناء ثقة مواطنيها هي الدولة التي تُعاملهم شركاء لا رعايا.

أما على المستوى الاقتصادي، فإنّ الإصلاح يتطلب كسر حلقة الفساد والمحسوبية، وإعادة توزيع الموارد بما يضمن العدالة الاجتماعية. لا يكفي الحديث عن النمو، بل يجب أن يكون النمو مصحوبًا بفرص متكافئة، بسياسات تشغيل للشباب، وبضمانات للعيش الكريم. الاقتصاد العادل هو الذي يُحرر المواطن من الخوف اليومي على لقمة العيش، ويمنحه القدرة على الحلم بمستقبل أفضل.

على المستوى الثقافي، الإصلاح يعني إعادة الاعتبار للذاكرة والخيال الاجتماعي، عبر دعم الفنون والآداب والبحث العلمي، وحماية استقلال المؤسسات الثقافية من هيمنة السلطة. الثقافة ليست ترفًا، بل هي أداة مقاومة، وفضاء لتوليد المعنى، وشرط أساسي لبناء مجتمع قادر على مواجهة القهر. إنّ إعادة إحياء الثقافة النقدية هو الطريق لاستعادة القدرة على السؤال، على الحلم، وعلى إنتاج سرديات بديلة.

أما على المستوى الأخلاقي، فإنّ الإصلاح يبدأ من إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية بوصفها معيارًا أعلى من كل الحسابات السياسية. هذا يعني أن تُدار الأزمات بمنطق المسؤولية لا بمنطق العلاقات العامة، وأن تُقدَّم العدالة على المصالح الضيقة، وأن يُعاد تعريف المصلحة العامة بما يضمن الإنصاف لا بما يبرر القهر. الأخلاق هنا ليست شعارًا، بل ممارسة يومية تُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة.

وأخيرًا، على المستوى الوطني والقومي، الإصلاح يتطلب إعادة الالتزام بالقضايا العادلة التي تُعرّف هوية الشعوب، وفي مقدمتها فلسطين. فالدولة التي تُفرّط في قضاياها الكبرى ستفرّط بالضرورة في حقوق مواطنيها. إنّ حماية الذاكرة الوطنية، والدفاع عن العدالة في القضايا المصيرية، هو جزء لا يتجزأ من بناء شرعية جديدة، لأنّ الوطن لا يُختزل في حدود جغرافية، بل يتجسد في القيم التي يحملها وفي القضايا التي ينحاز إليها.

بهذا الشكل، تصبح الخريطة العملية للإصلاح الممكن سردية متكاملة: تبدأ من السياسة لتعيد بناء الشرعية، تمر بالاقتصاد لتعيد توزيع العدالة، تتوسع في الثقافة لتعيد إنتاج المعنى، تتجذر في الأخلاق لتعيد الثقة، وتكتمل في القضايا الوطنية لتعيد تعريف الانتماء. إنها ليست مجرد خطة تقنية، بل مشروع لإعادة تأسيس الدولة بوصفها رعايةً لا قهرًا، وفضاءً جامعًا لا عبئًا خانقًا، ومعنىً حيًا لا مجرد جهاز إداري.

بهذا المعنى، لا تكون الخاتمة إغلاقًا للنص، بل دعوةً مفتوحة للتفكير والعمل، لأنّ مواجهة الخذلان ليست نهاية، بل بداية لمسار طويل نحو استعادة الشرعية وبناء وطنٍ يُنصف ذاكرته وأهله، ويمنحهم لغةً جديدة يقولون بها أنفسهم دون خوف أو قهر.

شارك هذا الموضوع

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!