خارج المستطيل الأخضر: الوعي الشقي في زمن “الغفوة الجماعية”
عبد الرحمان الغندور
توقفتُ عن الكتابة منذ انطلاق “موسم” كأس إفريقيا لكرة القدم، ليس خروجاً عن “الإجماع القهري”، بل حفاظاً على وعيي الشقي الذي يرفض الانخراط في “العابر” ونسيان “الثابت”. إنني ألتمسُ الأعذار للمنخرطين والمهووسين -وفيهم الكثير من الصديقات والأصدقاء- وأتمنى لهم متعة الفرح بالانتصارات، وأدعو الله أن يجنبهم قسوة الخسائر والانكسارات.
لكنّ الغلو في الهوس المجنون الذي عاينته في الأسبوع الأول يدفعني للكتابة بذات الوعي الشقي. فبينما تنحبس الأنفاس وتتجه الأنظار نحو ملاعب باهظة الكلفة، نجد أنفسنا أمام ظاهرة تفوق حدود الرياضة لتصبح نوعاً من “الهوس الكاسح” الذي اجتاح العقول بمختلف مشاربها ومراتبها؛ رجالاً ونساءً، شيوخاً وشباباً وأطفالاً، أغنياءً وفقراء. لقد تحول المجتمع إلى كتلة من الانتظارات القلقة بين نشوة النصر وانكسار الهزيمة.
إن هذا الغرق الكلي والجماعي في تفاصيل الكأس، وما يرافقه من ضجيج إعلامي وسُعار على منصات التواصل، يبدو كأنه “غفوة جماعية” خُطط لها بذكاء كي يتراجع الوعي بالقضايا الجوهرية التي تؤرق الوجود المجتمعي، ويصير الهمّ السياسي والاقتصادي والثقافي مجرد هوامش أمام هوس المباريات، وتتوارى آلام الواقع خلف صرخات التشجيع، وكأننا في محاولة جماعية لنسيان “الثابت” المستمر عبر الارتماء في حضن “العابر” العرضي.
يُلفّ الصمتُ الغرفةَ المليئةَ بهمومٍ لم تجد حلها، بينما تعلو أصواتُ المعلقين فرحاً أو أسىً، وكأنّ مصير العالم بأكمله معلقٌ بتلك الكرة التي تجري بين الأقدام. إنه الهوسُ الكاسح الذي يجتاح العقولَ كالنار في الهشيم، فينسى المرءُ تحت وطأة نشوته أو قلقِه أنَّ وراءَ تلك المدرجاتِ عالماً يعاني. تنتفض الجماهيرُ في حالةٍ من الانتظار القاسي بين فكي الخوفِ من الهزيمةِ والأملِ في النصر، وكأنّ حياتَهم كلَّها تُختزلُ في تلك الدقائق التسعين. إنه هروبٌ جماعي من واقعٍ مؤلمٍ إلى حلمٍ عابرٍ، تصفّر فيه الأرقامُ الاقتصاديةُ وتهدأُ الآلامُ السياسيةُ، وتغفو كلُّ همومِ الوجود المجتمعيّ تحت سحر الهدفِ المنشود.
لكن المأزق الحقيقي يكمن في اللحظة التي تلي صافرة النهاية وإسدال الستار عن هذا “الموسم”، حيث سيكون الاستيقاظ قاسيًا بقدر حجم الاندفاع والهوس، فخروج المغرب من المنافسات سيفجر موجة من الألم والغضب التي قد تعمي البصيرة، وحتى الاستمرار في الرحلة دون الظفر بالكأس سيترك جرحاً غائراً في الوجدان الجمعي. أما في حال التتويج، فإننا سنكون أمام “فرح عابر” يستهلك طاقته في بضعة أيام من الاحتفال، قبل أن يذوب في هواء الواقع القاسي.
إن اليقظة الحقيقية، بمرارتها المكتومة، هي التي ستجعل المغاربة يدركون أن انتصارات الملاعب لم تكن يوماً ترياقاً للجوع، ولا دواءً للمريض، ولا سبيلاً لتطوير تعليم متعثر، ولا درعاً يحمي المنكوبين من قسوة الطبيعة. إنها غفوة مهما عظُمَ دويُّها لابدّ أنْ يتبعها استيقاظ، وسيأتي الصباحُ حاملاً معه ثقلَ الحقيقةِ ذاتها التي تركتَها خلفَ أبواب الملاعب. وسيكونُ الاستيقاظُ مرّاً على كلّ حال، فالعابرُ لا يمحو الثابت.
فالاستيقاظُ الحقيقيّ، الأقسى والأكثرُ إيلاماً، هو ذلك الذي لا علاقةَ له بنتائج المباريات؛ هو عندما تعودُ الأنفاسُ إلى معدلها الطبيعيّ، وتخفتُ زغاريدُ الملاعب والمنصات والقنوات، ونجدُ أنفسنا وجهاً لوجهٍ مع أسئلتنا القديمة الجديدة: هل عالج هذا الانتصارُ مريضاً؟ هل أطعم جائعاً؟ هل دَفَّأ مَنْ تجتاحُه رياحُ الشتاءِ في خيمةٍ بالية؟ هل قدّمَ حلاً لتلميذٍ يدرسُ في ضوءِ شمعة، أو لطالبٍ يحملُ همَّ مستقبلٍ غامض؟ هل ردَّ كرامةً لمُهَمَّش، أو أنصفَ مظلوماً، أو بنى مستشفى، أو أصلحَ طريقاً؟ الإجابةُ ستأتي صادمةً، ولكنّها صادقةٌ كمرآةٍ عارية.
فالكرةُ، بكلّ بهجتها المجنونةِ وأحزانها المدوّية، عابرةٌ كالضباب، أمّا الواقعُ فصخْرٌ صلدٌ قائمٌ في انتظارنا. ولعلَّ الفرق بين الاثنين هو أنَّ الأولى تمنحنا شعوراً زائفاً بالقدرةِ على الحلم، بينما الثاني يُذكّرنا بقسوةٍ بأنّ كثيراً من الأمورِ الخارجةَ عن الملاعب لا تزال تنتظرُ من يلتفتَ إليها.
فليستعدَّ الناسُ نفسياً لاحتمالاتِ الفرحِ والحزنِ الكرويّ، ولكنّ الأجدرَ بهم أنْ يستعدّوا، فوق ذلك، لليقظةِ الكبرى؛ يقظةِ الوعيِ بالذاتِ الجماعيّة، وبالأولوياتِ الحقيقيّة، وبذلك الواقعِ البئيس الذي لا يُصلحه إلا سياسات إصلاحية حقيقية، بعيداً عن أضواءِ الملاعبِ وصخبِها الزائل. إن الكرة في نهاية المطاف تظل “حدثاً عابراً”، بينما يظل الواقع بتحدياته ومراراته هو الحقيقة “القائمة” التي تنتظرنا جميعاً. لذا، فإن المسؤولية تقتضي منا اليوم استعداداً نفسياً رزيناً لكل الاحتمالات، ليس فقط لتقبل نتائج المباريات، بل للاستعداد للاستيقاظ الأكبر، الاستيقاظ على واقع يتطلب منا وعياً يتجاوز سحر المستطيل الأخضر، لنواجه استحقاقات الحياة الحقيقية التي لا تُحسم بصافرة حكم، بل بوعي شعب وعمق تفكيره في مستقبله.
