خرائط الحيرة الفلسطينية: أربع مفترقات وطنية.. قراءة في أزمة التمثيل الفلسطيني

خرائط الحيرة الفلسطينية: أربع مفترقات وطنية.. قراءة في أزمة التمثيل الفلسطيني

الدكتور حسن العاصي

           في لحظةٍ من لحظات الصمت الطويل، حين تتوقف الكلمات عن مواساة أصحابها، وحين لا يعود الحنين كافيًا لتفسير هذا التيه، يقف الفلسطيني أمام مرآة التاريخ، لا ليرى وجهه، بل ليتساءل: من يُمثّلني الآن؟ ومن يُدافع عن وجعي؟ ومن يُعيد ترتيب هذا الشتات الذي صار هويةً أكثر من كونه حالة؟

لم تكن القضية الفلسطينية يومًا أزمة حدود أو نزاعًا على الأرض فقط، بل كانت وما زالت قضية وجودٍ وتمثيل، قضية شعبٍ يبحث عن نفسه في كل المنابر، في كل الساحات، في كل الأصوات التي تتحدث باسمه دون أن تُصغي إليه. منذ أن وُلدت منظمة التحرير الفلسطينية، حملت الحلم، ورفعت الراية، وكتبت أولى فصول الرواية. ثم جاءت السلطة الفلسطينية، ككيانٍ إداري مؤقت، فصار المؤقت دائمًا، وصار الحلم مُعلّقًا بين اتفاقيات لا تُنفّذ، وواقعٍ لا يُحتمل.

ومع مرور السنوات، تآكلت الشرعية، وتراجعت الثقة، وتحوّل التمثيل إلى مسألة خلافية، لا وطنية. الانقسام السياسي، الجمود الدبلوماسي، غياب الانتخابات، وتهميش الشتات، كلها عوامل دفعت كثيرين إلى إعادة طرح السؤال القديم الجديد: من يُمثّل الفلسطينيين اليوم؟

في هذا المقال، نُبحر في أربعة خيارات تُشكّل خارطة التفكير السياسي الفلسطيني الراهن:

  1. حلّ السلطة الفلسطينية: كخطوة جذرية تُعيد تحميل الاحتلال مسؤوليته، وتُحرّر الفلسطينيين من عبء إدارة الأزمة.
  2. إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية: كمظلة شرعية جامعة، تُعيد بناء المشروع الوطني على أسس تمثيلية وشعبية.
  3. الجمع بين المسارين: كخيارٍ مركّب يُعيد التوازن بين الإدارة والتمثيل، ويُعيد صياغة العلاقة بين السلطة والمنظمة.
  4. تشكيل إطار وطني جديد: خارج البُنى التقليدية، يُعبّر عن الفلسطينيين في الداخل والشتات، ويُعيد إنتاج القيادة من خارج النخبة الحاكمة.

كل خيارٍ من هذه الخيارات يحمل في طيّاته أملًا وألمًا، فرصةً وخطرًا، ويُعبّر عن لحظةٍ من لحظات الحيرة الفلسطينية العميقة. لكن ما يجمعها جميعًا هو هذا السؤال الذي لا يهدأ: كيف يُمكن أن نُعيد بناء التمثيل الفلسطيني، لا كإجراءٍ سياسي، بل كفعلٍ وجداني، يُعيد للناس ثقتهم بأنفسهم، وبقضيتهم، وبمن يُنادي باسمهم؟

هذا المقال ليس مجرد تحليل سياسي، بل محاولة لفهم ما وراء الخيارات، ما وراء المؤسسات، ما وراء الخطابات. إنه بحثٌ عن صوتٍ لا يردّ، عن وجهٍ ضاع في الصور القديمة، وعن وطنٍ لا يزال يُكتب في الرسائل التي لم تُرسل.

 أولاً: تحليل خيار حلّ السلطة الفلسطينية

وهو تحليل لمفترق طرق تاريخي في المشروع الوطني الفلسطيني، ويستدعي قراءة دقيقة في السياق السياسي، والوظيفة التي أدّتها السلطة منذ تأسيسها، وما قد يترتب على غيابها من تداعيات داخلية وخارجية.

تأسست السلطة عام 1994 بموجب اتفاق أوسلو، ككيان إداري انتقالي يُفترض أن يقود إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. تولّت مهامًا مدنية وأمنية في مناطق محددة من الضفة الغربية وقطاع غزة، دون سيادة حقيقية على الأرض أو الحدود. ارتبط وجودها بعملية تفاوضية لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة، بل تآكلت بفعل الاستيطان، الانقسام الداخلي، وتراجع الدعم الدولي.

 الإيجابيات المحتملة لحل السلطة

1ـ السلطة تُغطي على الاحتلال قانونيًا وإداريًا، وحلّها يُعيد تحميل إسرائيل مسؤولياتها كقوة احتلال أمام المجتمع الدولي. (كشف الوجه الحقيقي للاحتلال)

2ـ يُعيد القضية من نزاع إداري إلى مواجهة مباشرة مع الاحتلال، ويُعزز خطاب التحرر الوطني بدلًا من إدارة أزمة. (إعادة تعريف الصراع)

3ـ يُشكّل صدمة سياسية قد تُجبر المجتمع الدولي على إعادة النظر في مسار التسوية، خاصة في ظل فشل حل الدولتين. (كسر الجمود السياسي)

4ـ يُعيد مركزية المنظمة كممثل شرعي ووحيد، ويُمهّد لإعادة هيكلتها وتوسيع تمثيلها الوطني. (إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية)

5ـ يُنهي أحد أكثر الملفات جدلًا، ويُحرّر القرار الفلسطيني من التبعية الأمنية لإسرائيل. (إنهاء التنسيق الأمني)

 السلبيات والمخاطر المحتملة لحل السلطة

1ـ السلطة تُدير التعليم، الصحة، البنية التحتية، وحلّها قد يُخلّف فراغًا إداريًا يُفاقم معاناة المواطنين. (انهيار الخدمات الأساسية)

2ـ غياب الأجهزة الأمنية قد يُفتح الباب أمام الفوضى أو صراعات داخلية، خاصة في ظل الانقسام السياسي. (فوضى أمنية محتملة)

3ـ كثير من المساعدات الدولية مرتبطة بوجود السلطة، وقد يتوقف التمويل في حال حلّها دون بديل واضح. (تراجع الدعم الدولي)

4ـ لا توجد حتى الآن بنية جاهزة لتحلّ محل السلطة، مما يُهدد بفراغ سياسي وتمثيلي. (غياب البديل التنظيمي الفوري)

5ـ إسرائيل قد تستغل غياب السلطة لتوسيع السيطرة، وفرض وقائع جديدة على الأرض دون مساءلة. (استغلال إسرائيلي للفراغ)

 هل هو خيار استراتيجي أم تكتيك؟

بعض المحللين يرون أن التلويح بحل السلطة يُستخدم كأداة ضغط على إسرائيل والمجتمع الدولي، وليس كخيار فعلي. لكن في ظل انسداد الأفق السياسي، وتآكل شرعية السلطة، يُصبح هذا الخيار مطروحًا بجدية، خاصة إذا اقترن بإعادة بناء منظمة التحرير، وتوحيد الصف الوطني.

 إن حلّ السلطة ليس مجرد قرار إداري، بل هو إعادة تعريف للمشروع الوطني الفلسطيني. إنه خيارٌ جذري، يحمل في طيّاته فرصة لكسر الجمود، لكنه أيضًا محفوفٌ بالمخاطر، ويتطلب استعدادًا شعبيًا وتنظيميًا، ورؤية واضحة لما بعده. النجاح في هذا المسار لا يتوقف على حل السلطة فقط، بل على ما يُبنى بعدها: من وحدة وطنية، وتمثيل شرعي، واستراتيجية مقاومة تُعيد الاعتبار للقضية في وجدان العالم.

هل ترغب أن أُطوّر هذا التحليل إلى ورقة بحثية أو خطاب سياسي؟ يمكنني أيضًا صياغته بأسلوب سردي يحمل نبرة وجدانية لو أحببت.

 ثانياً: تحليل خيار إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية

 يتطلب فهمًا عميقًا لدورها التاريخي، وتحليلًا دقيقًا للواقع السياسي الفلسطيني الراهن، وتقييمًا موضوعيًا لإمكانات هذا الخيار في استعادة المشروع الوطني الفلسطيني من حالة التآكل والانقسام.

لقد تأسست منظمة التحرير عام 1964 كمظلة وطنية جامعة للشعب الفلسطيني، ومثّلت لسنوات طويلة عنوان النضال والتمثيل السياسي في المحافل الدولية. نالت اعترافًا دوليًا واسعًا كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، خاصة بعد خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974. بعد اتفاق أوسلو عام 1993، تراجع دور المنظمة لصالح السلطة الفلسطينية، وتهمّشت مؤسساتها تدريجيًا، مما أدى إلى ضعف تمثيلها وانفصالها عن قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، خاصة في الشتات.

 الإيجابيات المحتملة لإعادة إحياء المنظمة

1ـ المنظمة هي الإطار الذي يُمكن أن يشمل كل الفلسطينيين، في الداخل والشتات، ويُعيد توحيدهم سياسيًا. (استعادة التمثيل الوطني الجامع)

2ـ يُمكن للمنظمة أن تُعيد صياغة الرؤية السياسية الفلسطينية، بعيدًا عن قيود أوسلو، وبما يتناسب مع الواقع الجديد. (إعادة بناء المشروع الوطني)

3ـ إعادة هيكلتها تسمح بضمّ حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي، مما يُنهي الانقسام ويُعزز الوحدة الوطنية. (إدماج القوى السياسية كافة)

4ـ رغم تراجع دورها، ما زالت المنظمة تحظى باعتراف دولي، ويمكن البناء على ذلك في المحافل القانونية والدبلوماسية. (تعزيز الشرعية الدولية)

5ـ المنظمة، بصفتها إطارًا تحرريًا، يُمكن أن تُعيد تفعيل أدوات المقاومة السياسية والشعبية ضد الاحتلال. (إعادة الاعتبار للمقاومة الشعبية)

 السلبيات والتحديات المحتملة

1ـ مؤسسات المنظمة تعاني من ترهّل، وتغلغل مصالح شخصية وسياسية تُعيق الإصلاح الحقيقي. (تغول البيروقراطية القديمة)

2ـ القيادة الحالية تُفضّل الحفاظ على الوضع القائم، وتُقاوم أي تغيير يُهدد امتيازاتها أو سلطتها. (غياب الإرادة السياسية للإصلاح)

3ـ كثير من الفلسطينيين، خاصة في الشتات، فقدوا الثقة في المنظمة كممثل فعّال لقضاياهم. (صعوبة إعادة بناء الثقة الشعبية)

4ـ إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، وإجراء انتخابات نزيهة، تتطلب توافقًا داخليًا غير متوفر حاليًا. (تحديات التمثيل الحقيقي)

5ـ استمرار وجود السلطة يُربك العلاقة بين المؤسستين، ويُضعف استقلالية المنظمة. (تداخل الصلاحيات مع السلطة الفلسطينية)

 هل هو خيار واقعي أم طموح؟

إعادة إحياء منظمة التحرير ليست مجرد رغبة رومانسية في استعادة الماضي، بل هي ضرورة سياسية في ظل فشل المسارات التفاوضية، وتآكل شرعية السلطة، وتفاقم الانقسام. لكن نجاح هذا الخيار يتطلب :إرادة سياسية حقيقية من الفصائل كافة. وإصلاح مؤسساتي جذري، يشمل المجلس الوطني واللجنة التنفيذية. وإشراك الشباب والشتات في القرار السياسي. وفصل واضح بين المنظمة والسلطة، أو إعادة تعريف العلاقة بينهما.

 إن إحياء منظمة التحرير هو رهان على استعادة الهوية الوطنية الجامعة، وعلى إعادة بناء المشروع الفلسطيني من جذوره. إنه خيارٌ يحمل إمكانات كبيرة، لكنه يتطلب شجاعة سياسية، وتضحية بالمصالح الضيقة، ورؤية استراتيجية تُعيد الاعتبار لفكرة التحرر، لا مجرد إدارة الأزمة.

 ثالثاً: تحليل خيار الجمع بين المسارين: حل السلطة الفلسطينية وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية

هو محاولة لتجاوز الثنائية التقليدية، وتقديم رؤية مركّبة تُعالج المأزق السياسي الفلسطيني من جذوره، دون الوقوع في فخّ التبسيط أو الانفعال. هذا الخيار لا يكتفي بنقد الواقع، بل يسعى إلى إعادة بناءه على أسس جديدة، تُعيد الاعتبار للتمثيل الوطني، وتُحرّر القرار الفلسطيني من التبعية والجمود.

 الفكرة الجوهرية

الجمع بين المسارين يعني:

ـ حلّ السلطة الفلسطينية أو إعادة تعريف دورها كجسم إداري لا يُنافس التمثيل السياسي الوطني.

ـ إحياء منظمة التحرير الفلسطينية كمظلة شرعية جامعة، تُعيد توحيد الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وتُعيد صياغة المشروع الوطني على أسس تحررية وتمثيلية.

هذا الخيار لا يُفاضل بين السلطة والمنظمة، بل يُعيد ترتيب العلاقة بينهما، بحيث تُصبح السلطة أداة تنفيذية خاضعة للقرار الوطني، لا بديلًا عنه.

 الإيجابيات المحتملة

1ـ يُنهي حالة الازدواجية بين السلطة والمنظمة، ويُعيد مركزية القرار الوطني إلى الإطار الشرعي الجامع. (استعادة التوازن السياسي)

2ـ يُتيح إعادة بناء مؤسسات المنظمة عبر انتخابات للمجلس الوطني، ويُشرك الشتات والفصائل كافة في القرار. (تعزيز الشرعية الشعبية)

3ـ يُقلّص من التبعية الأمنية والمالية لإسرائيل والدول المانحة، ويُعيد صياغة العلاقة مع المجتمع الدولي على أساس التحرر لا الإدارة. (تحرير القرار الفلسطيني)

4ـ يُعيد الاعتبار لفكرة التحرر الوطني، ويُحرّر الخطاب السياسي من قيود أوسلو، ويُعزز أدوات المقاومة الشعبية والدبلوماسية. (إعادة تعريف المشروع الوطني)

5ـ يُمهّد لتجاوز الانقسام بين غزة والضفة، ويُعيد بناء الثقة بين الفصائل، ويُعيد إنتاج القيادة على أسس توافقية. (تهيئة الأرضية لمصالحة وطنية)

 التحديات والمخاطر

1ـ القيادة الحالية قد تُقاوم هذا التحوّل، خوفًا من فقدان الامتيازات أو السلطة.  التحدي: (غياب الإرادة السياسية)

2ـ الفصل بين صلاحيات السلطة والمنظمة يتطلب تعديلًا دستوريًا وإداريًا دقيقًا. التحدي: (تعقيد العلاقة القانونية والمؤسساتية)

3ـ حلّ السلطة دون جاهزية بديل تنظيمي قد يُخلّف فوضى في الخدمات الأساسية. التحدي: (مخاطر الفراغ الإداري)

4ـ المجتمع الدولي قد يُعيد النظر في علاقته بالكيان الفلسطيني إذا غابت السلطة كواجهة رسمية. التحدي: (تراجع الدعم الدولي)

5ـ إصلاح المنظمة يتطلب توافقًا واسعًا، وانتخابات شاملة، وتجاوزًا لعقود من التهميش والجمود. التحدي: (صعوبة إعادة بناء المنظمة)

 السياق السياسي والواقعي

 بحسب دراسة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فإن العلاقة بين السلطة والمنظمة تعرضت لمد وجزر، وخلقت إشكالات بنيوية منذ تأسيس السلطة عام 1993. كما تشير ورقة مركز مسارات إلى أن ازدواج الصلاحيات بين السلطة والمنظمة يُعيق التحوّل إلى الدولة، ويُربك التمثيل السياسي الفلسطيني. لذلك، فإن الجمع بين المسارين يُعدّ محاولة لتجاوز هذا التداخل، وإعادة بناء المشروع الوطني على أسس واضحة ومتكاملة.

الجمع بين حلّ السلطة وإحياء منظمة التحرير ليس مجرد مناورة سياسية، بل هو إعادة هندسة للمشروع الوطني الفلسطيني. إنه خيارٌ يتطلب شجاعة سياسية، ورؤية استراتيجية، واستعدادًا لتحمّل تبعات التحوّل. نجاحه لا يتوقف على النوايا، بل على القدرة التنظيمية، والتوافق الوطني، والضغط الشعبي لإعادة بناء التمثيل الفلسطيني من جديد.

شارك هذا الموضوع

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!