“دفاتر الجديدة” دراسات مُبتكرة ومشروع طويل المدى
مبارك بيداقي
يقول الدكتور محمد نور الدين أفاية في حوار مطول مع مجلة “زمان” النسخة الفرنسية لشهر يوليوز 2025: “هناك نقص ملحوظ على مستوى المعرفة التاريخية للجهات والمدن والأسماء والعائلات والهجرات ومكونات وهياكل المجتمع الأخرى”. بمعنى آخر، لا زال هناك، بعد 70 سنة على استقلال المغرب، نقص في البحوث والمنشورات حول تاريخ بلدنا خاصة على صعيد الجهات والأقاليم. وما زلنا في أمس الحاجة لدراسات تضيء الواقع القريب، مجالا وإنسانا.
والملاحظ أن غالبية من يتصدى لهذا النوع من الدراسات المحلية والجهوية هم الباحثون الشغوفون والمتطوعون مثل إبراهيم كريدية في آسفي، والمصطفى اجماهري في الجديدة، وعمر لخضر بالنسبة للصويرة، وأحمد لعيوني بالنسبة لمدينة ابن أحمد، والمرحوم عيسى العربي بالنسبة لآيت عتاب، وأحمد بومزكو في سوس، والحبيب الدايم ربي في سيدي بنور، ومحمد بن يعقوب في شفشاون، وأسماء أخرى تجتهد في نفس السياق وبنفس الوتيرة.
ويعود الفضل للأسماء المذكورة وأخرى غيرها في أنها أول من تصدت لمواضيع وتفاصيل محلية لم تكن معروفة ولا مطروقة قبلها. فكانت أعمالها هذه، على اختلاف عمقها وانتشارها، بمثابة الأرضية الأولى، أي أعمالا مبتكرة travaux inédits. ولربما في بعض الحالات هي الوحيدة في مجالها. ذلك لأن الدراسات المحلية، كما هو ملاحظ، هي انشغالات مُتعبة تتطلب جمع الشذرات من هنا وهناك والتنقل بين الأمكنة ومراجعة الشهود وجمع شهاداتهم الشفوية إضافة إلى المصاريف المالية الضرورية، وهذا ما لا يشجع الباحثين غالبا على الانكباب عليها بل يدعو إلى نفور الكثير منها.
هذه الفعاليات من كُتّاب الجهات والأقاليم، خريجة الجامعات والمعاهد العليا المغربية، تعمل في إطار المجهود الشخصي وتحتاج إلى الدعم المادي والمعنوي، كما تحتاج إلى التفاتة المجتمع المدني لتكريمها والاعتراف باجتهادها وعملها.
كمثال على هذا الاهتمام المجتمعي النبيل، فقد نظّمت جمعية دكالة منذ شهر بالجديدة، بحضور فعاليات المجتمع المدني المحلي والوطني، حفلا تكريميا للكاتب المغربي المصطفى اجماهري، تحت عنوان “دفاتر الجديدة من أجل ذاكرة جمعية”. وقد أبرز هذا الحفل من خلال الكلمات التي ألقيت خلاله من قبل الباحثة سمية نعمان كسوس، والوزيرة نزهة الصقلي، والعميد عبد الواحد مبرور، وكذا من خلال الشهادات المصورة بالفيديو والتي قدمت في القاعة لجامعيين مغاربة وأجانب بأن هذا الباحث استطاع منذ 33 سنة، بمجهود شخصي تطوعي وأيضا بشغف كبير، أن يساهم في التعريف بتاريخ مدينته وجهته ومن خلالهما بتاريخ المغرب وبثقافته الغنية.
في هذا المضمار جاء في شهادة الدكتور محمد بنهلال، الأستاذ السابق بجامعة إيكس أون بروفانس والباحث المشارك في المركز الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا، والذي تابع أعمال المصطفى اجماهري طيلة سنين، بأن هذا الباحث يُعتبر “شخصية لا يمكن تجاوزها في مجال الدراسات المحلية”. وهو أيضا ما نوّهت به السوسيولوجية سمية نعمان كسوس في إشارتها إلى كون اجْماهْري اختار العمل على المدى الطويل في صمت وتواضع قلّ نظيره بين الباحثين، متمنية “أن يكون في كل مدينة باحث مثل اجماهري يُعرف بها”.
***
إن الباحثين والقراء على اختلاف وضعياتهم سيعثرون اليوم على كتب ودراسات أولية مبتكرة، كان المصطفى اجماهري سباقا إلى إخراجها من العدم إلى الوجود بكثير من الصبر والمثابرة وباستشارة مع جامعيين معروفين. بل إن مجموعة من كتبه هي الوحيدة المتوفرة حتى اليوم في مجالها وموضوعها. أخص بذلك مثلا كتابه “التاريخ المجهول لمرسى الجديدة”، وكتابه “الجديدة، قرنان من التاريخ القنصلي”، وكتابه “الطائفة اليهودية بمدينة الجديدة”، وكتابه “الطبابة والأطباء بالجديدة”، وكتابه “شهادات لنساء الجديدة للفترة 1949-69″، وكتابه “تاريخ ثانوية ابن خلدون بالجديدة”، وكتابه الجماعي عن “بولعوان”. فضلا عن دراساته الميدانية التي نشر كثيرا منها في النسخة الفرنسية لشهرية “زمان” مثل دراسته عن “التازوطا”، وعن “لغز المقبرة البرتغالية بمازغان”، وعن “زيارة أنطوان دو سانت إيكزوبيري لبولعوان”، وعن “قنطرة آزمور في ذكراها المائوية”، وعن “الجبل الأخضر موطن النساك”، وعن “اختفاء بناية الصابة من القلعة البرتغالية”، بالإضافة إلى دراسته ذات الطابع السوسيولوجي التي تناول فيها “ظاهرة ارتباط المعمرين الأوروبيين بالنساء المغربيات في قبائل دكالة”. دون أن ننسى كتابه المشترك مع الدكتور كرستيان فوشير “مازغان تراث عالمي للإنسانية” الذي صدر بعد تسجيل القلعة في التراث العالمي لليونسكو سنة 2004.
لا يمكنني سرد مجموع إنتاجه في هذا السياق وحسبي أنني أردت تقديم أمثلة أرغب في التأكيد من خلالها على أن المصطفى اجْماهْري يعود إليه الفضل في كونه انطلق تقريبا من العدم أي من لا شيء ليؤلف في مواضيع لم يسبقه إليها أحد حتى الآن، وكان عليه أن يجمع مادتها من نُتف متفرقة وشذرات موزعة هنا وهناك، مستكملا النقص باللجوء إلى الأرشيفات العائلية والزيارة الميدانية والاتصال بشهود المرحلة.
ومن حيث بعضُ شخصيات المدينة والمنطقة، كان اجماهري هو الوحيد الذي خصّ كثيرا منها بكتابات يمكن وصفها بالمكتملة أولا وثانيا بكونها تمت بتنسيق مع المعنيين بها، مثل مقالاته عن نعمة الله الخطيب، وإدريس الشرايبي، وعبد الواحد القادري، والسفيرة حليمة الورزازي الجديدي، والمناضل الشريف القاسمي، وسي عبد الكريم بن الشرقي، والنقابي حسن بزوي والمرحوم الغالي العلمي، والمهندس عبد الكريم بنكيران والباحثة ليلى بنعلال والسيدة بوجيبار والطبيب جواد حصار وغيرهم.
وكما قالت السوسيولوجية هناء الشريكي، الأستاذة بجامعة شعيب الدكالي، فتجربة “دفاتر الجديدة” كانت ضرورية لأنها ملأت لنهالأنهاملأ الفراغ البحثي المحلي والجهوي. وأعطتْ مثلا لذلك بكتابه “الطبابة والأطباء في الجديدة”، الذي يُعد، كما قالت، من البحوث القليلة في مجال الصحة بالمغرب خاصة وأنه يبدأ من الحقبة البرتغالية مرورا بالقرن التاسع عشر ثم الحماية الفرنسية وصولا إلى فترة الاستقلال. كما أشارت إلى أن من ميزات “دفاتر الجديدة” أنها غطت مواضيع مختلفة. تاريخية، اجتماعية، صحية، إنسانية وسياسية تخص الجديدة ودكالة بشكل عام.
ومن بين الأعمال الرائدة لهذا الباحث، على المستوى الوطني، كتابه “الفلاحون الأجانب بدكالة”، والذي قام بترجمته إلى العربية الدكتور مصطفى الطوبي ونُشر في سلسلة “الزمن”. وللإشارة فهذا الكتاب حصل على الرتبة العشرين في قائمة أفضل الكتب في العالم بالفرنسية والإنجليزية عن تيمة “الفلاحين”. وهو الترتيب الذي أنجزه موقع غرافياتي في بوسطون.
وينبغي الانتباه إلى أنه حينما نكون بصدد دراسة تجربة بحثية من هذا النوع، يجب أن نأخذ بالاعتبار في التقييم المجهود الأولي المبذول من قبل أول باحث عالج الموضوع. ذلك أن الفرق شاسع بين الكتابة في موضوع تتوفر فيه المراجع والمصادر والأرشيفات، وموضوع لا يتوفر فيه إلا النزر اليسير وينبغي إنشاؤه تقريبا من شبه فراغ.
