رحلة الصغير إلى الاحتفال الكبير

رحلة الصغير إلى الاحتفال الكبير

أحمد لعيوني

          في صباح صافٍ من أيام الخريف، كان الطفل الجيلالي ذو الأربع سنوات يصغي ببراءة وفضول، إلى أحاديث الكبار في الدوار. كان الرجال المجتمعون تحت شجرة الزيتون الكبيرة، يتحدثون عن عيد عودة السلطان سيدي محمد من المنفى، وعن الاحتفالات التي ستقام بالمركز القريب. لم يفهم الطفل كل الكلام، لكن وقْع الحديث في آذانه الصغيرة بدا كبيرا ومهيبا، وكأن العالم كله يستعد لفرح غير عادي.

كان العم بوعزى يقول بصوت مفعم بالحماس :

  • اليوم سيحتفل الناس في المركز بعودة السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى الوطن،

وأضاف سي لمفضل وهو يهز سبحته :

  • سيكون يوما لن ننساه… موسيقى، وأعلام، وفرحة كبيرة.

فتح الجيلالي عينيه في دهشة :

  • عودة السلطان؟ احتفال؟ ما يعني هذا؟

لكن أحدا لم ينتبه لأسئلته الصغيرة.

اشتعلت الرغبة في قلبه الصغير لمعرفة المزيد، فرأى أن لا شيء يمنعه من الذهاب بنفسه إلى حيث تدور الاحتفالات. جلس يتأمل الطريق الطويل المتجه نحو المركز، بينما قلبه يدق كطائر صغير يريد الطيران.

وفي لحظة جريئة، تقدم نحو الحمار الصغير “غزييل” الذي ألف امتطاءه والتجول به في الحقول، أو حراسة الماشية حين يكلف بذلك.

ربّت على رأسه كالعادة وقال :

  • “غزييل…هل نذهب في مغامرة بعيدا”؟

هزّ الحمار أذنيه كأنه يوافق.

امتطى الطفل ظهر الحمار بخفة، ونظر حوله ليتأكد أن لا أحد يراه. ثم انطلق في الطريق الوعر نحو المركز. كانت الطريق طويلة بالنسبة لسنه، لكن الحماس كان أكبر من التعب. ولما بلغ باب المقهى حيث يشتغل أخوه الأكبر “حسن”، وجد المكان يعج بالناس.

كانت أصوات الطبول والزغاريد تصل من بعيد، والناس يتدافعون للدخول.

وفي داخل المقهى، كان الرجال يأكلون ويضحكون، بينما جوقة موسيقية تغني :

“مرحبا بك يا سلطان البلاد…”

وقف الجيلالي عند الباب مذهولا. فاقتربت منه امرأة كبيرة تدعى لالة زينب وقالت :

  • ولدي… واش تاه انت جيتي تحتفل بوحدك؟

ضحك الطفل، لكنه لم يجد ما يرد به.

لمح “حسن” الصغير، فدهش لرؤيته واقفا أمامه، يحمل غبار الطريق على ثيابه، ونور المغامرة في عينيه. أسرع إليه واحتضنه بقوة، وهو لا يكاد يصدق أن الطفل تمكن من الوصول وحده إلى مكان لم تطأه قدماه من قبل.

  • واش جيت بوحدك من الدوار؟
  • بغيت نشوف الاحتفال اللي كيتحدثوا عليه.

ضحك الأخ رغم دهشته :

  • آه يا الشجاع…هيا، ندخلوك مع الدراري.

أدخله إلى غرفة جانبية خصصت للأطفال، حيث قدّموا له طعاما دافئا، وجلس معهم يشاهد لوحات الاحتفال ويراقب الأعلام والزغاريد والأهازيج التي لم يشهد مثلها من قبل.

كان هناك صبي اسمه إدريس، قال وهو يقترب منه :

  • مرحبا…فين كتسكن؟

رد الجيلالي بخجل بعد تردد :

  • فدوار بعيد…جيت بالحمار.

ضحك الأطفال جميعا :

  • آش؟ بالحمار؟
  • إييه…راه صاحبي غزييل.

قُدمت للأطفال قطع حلوى وكؤوس الشاي.

ثم دخلت مجموعة من المنشدين الصغار يرفعون الأعلام ويرددون الأناشيد.

كان الجيلالي ينظر إليهم مبهوراً…لم يرَ شيئا كهذا من قبل.

وعند آخر النهار، جاء حسن وقال :

  • واش شبعتي احتفال؟ دابا خاصتك ترجع للدوار قبل ما يطيح الظلام.

ركب الجيلالي على ظهر الحمار من جديد، ولوّح بيده للأطفال الذين صاروا أصدقاءه في يوم واحد.

عاد إلى الدوار والحمار غزييل يمشي بخطوات متعبة، لكن عيني الصغير تلمعان فخرا وفرحاً.

وما أن اقترب حتى رأى أهله مجتمعين أما الباب، يحملون المصابيح ويبحثون في كل مكان.

وعند وصوله إلى الدوار، تجمع أفراد الأسرة حوله. استقبلوه بمشاعر مختلطة : عتاب بسبب تهوره، واستغراب من جرأته، وضحك بين الدهشة والإعجاب. لكن الطفل، في أعماق نفسه، كان يشعر بأنه أنجز شيئا كبيراً؛ فقد خاض رحلة لا ينساها، وحقق حلمه الصغير في حضور احتفال ظل يسمع عنه من أفواه الكبار.

صرخت أمه وهي تركض نحوه :

  • آه يا وْليدي، فين مشيتي؟
  • احتضنته بقوة حتى شعر أنه اختفى بين ذراعيها.

تقدم أخوه الأوسط وهو يضحك رغم قلقه :

  • واش مشيتي تحضر الاحتفال بوحدك؟

هزّ الطفل رأسه بخجل وفخر في الوقت نفسه.

ثم قدم له علمين صغيرين، وصورة للسلطان سيدي محمد بن يوسف، حملهما من الاحتفال، يقوم المنظمون بتوزيعهم على الحاضرين.

  • خذ، هذا جبتو ليك… باش يبقى عندك تذكار ديال هذا النهار.

فنطق الجميع بصوت عال :

  • مرحبا بك يا سلطان البلاد…

لقد عاد السلطان إلى الوطن…وعاد هو أيضا، بفرحة صغيرة تخصه وحده.

وقف بينهم، يلوح بعلمه مثل بطل صغير عاد من رحلة عظيمة.

وفي تلك الليلة، قبل أن ينام، همس لنفسه :

  • غدا…غادي نحكي لكلشي دراري على المغامرة ديالي… وغزييل غادي يبقى صاحبي ديما.

ثم غفا مبتسما، وحلمه يركض معه فوق طريق طويلة، مليئة بالمغامرات القادمة.

شارك هذا الموضوع

أحمد لعيوني

مؤرخ منطقة امزاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!