رسالة الغياب والتخلي عن المتع الغابرة

رسالة الغياب والتخلي عن المتع الغابرة

عبد الرحمان الغندور

المغرب الجديد يوجه رسالة للحاكمين 

           المشهد مُربكٌ بكل المقاييس. ملعب مولاي عبد الله، ذلك الصرح الرياضي الذي اعتاد أن يهتزَّ تحت أقدام الآلاف، يصطفُّ الآن خالياً بصمتٍ مطبق. المقاعد الفارغة تتحدث بلغة أبلغ من كل الهتافات، والصرخة الصامتة التي أطلقها الغياب الجماعي للجمهور عن مباراة المنتخب المغربي ضد البحرين، ليست مجرد غياب عابرٍ عن ملعب كرة قدم، بل هي بيان سياسي واجتماعي مكثف، خطته أنامل جيلٍ لم يعد يُخدع بالخطابات اللامعة، ولا تنطلي عليه مسرحية الأضواء والصرخات.

إنه فراغٌ يعجُّ بالمعاني. ففي بلدٍ يعتبر كرة القدم ديناً شعبياً ثانياً، حيث تتحول الملاعب إلى فضاءات للتنفيس والاحتفاء والانتماء، يصبح قرار المقاطعة الجماعي قراراً جريئاً، محفوفاً بالرموز. لم يكن الغياب  بسبب ما قد يروجون من عدم فتح الشبابيك، أو بسبب عدم حبٍّ للفريق أو انشغالاً بأمورٍ تافهة، بل كان إضراباً طوعياً عن متعة جماعية، وتضحيةً بشغفٍ شخصي من أجل قضية أكبر. إنها رسالة من جيل  Z، وعموم المواطنات والمواطنين، ولا سيما الجيل الذي نشأ في زمن المفارقات: بين وعد التقدم وواقع الركود، بين الخطابات الوهمية وتراكم المظالم اليومية، بين صورة المغرب القوي على الساحة الدولية ومعاناة الشباب من البطالة واليأس على الصعيد المحلي.

هذا الجيل الذي يتنفس الفضاء الرقمي، ويمتلك وعياً متشعباً، لم يعد ينتظر منبراً تقليدياً ليعبر عن رفضه. لقد اكتشف أن المقاطعة، بكل بساطتها، والتي قد تتحول إلى عصيان مدني، هي سلاح المهمشين الأقوى. إنهم لا يحتاجون إلى تنظيم حزبي أو نقابة أو قائد كاريزمي، فهم يتواصلون ويتحركون في فضاء افتراضي لا يمكن احتواؤه بسهولة. إنهم يمارسون “النضال الناعم”، نضالاً لا يصدر بيانات، ولا يرفع شعارات، بل يخلق فراغاً، فراغاً في الملاعب، وفي ساحات المهرجانات الباذخة، وفي الاستهلاك المرجاني، وفي كل مكان يمكن أن تتحول فيه المشاركة إلى شرعية لنظامٍ لم يعد يقدم لهم ما يستحقون.

إنها رسالة جماهيرية موجهة للحاكمين، أكبر من كل الخطب التي تلقى في البرلمان، وأعمق من كل البيانات الحزبية المتبادلة، وأكثر تأثيراً من كل الإضرابات النقابية المحسوبة. لأنها خرجت من عمق الشارع، من قلوب أناسٍ عاديين يرفضون أن يكونوا رقماً في معادلة سياسية لا تعبر عنهم. إنهم يقولون بغيابهم: “لن نمنحكم شرعيتنا، حتى ولو في أبسط متعنا. لن نكون خلفية لمشهد وهمي عن الوحدة والفرح، بينما نعيش حالة من القلق الوجودي على مستقبلنا.”

هذا الوعي الجديد هو وعي مركب، لا يمكن تدجينه بسهولة. لا يمكن شراؤه بوعود انتخابية، ولا ترويضه بشعارات وطنية جوفاء، ولا تهميشه عبر إعلام موجه. إنه وعي نقدي يتشكل في رحم المعاناة اليومية، ويتغذى من تناقضات الواقع. إنه وعي يرفض التمييع، ويرفض أن يتم تحويل غضبه إلى قضية هامشية أو لحظة عابرة. إنه يصر على أن يبقى حاضراً، حتى في غيابه.

ولا يمكن قمع هذا الخطاب، لأن أدوات القمع التقليدية عاجزة أمام مقاطعة سلمية. كيف يواجه النظام صفوف المقاعد الفارغة؟ كيف حاكم الغياب الطوعي؟ إنها معركة غير متكافئة، لكن القوة فيها ليست لمن يملك أجهزة القمع، بل لمن يملك الشجاعة على عدم المشاركة. إنها إستراتيجية “اللاعنف” في أبهى صورها، حيث يتحول الامتناع عن الفعل إلى فعلٍ ثوري بحد ذاته.

لا بد لهذا الصوت أن يقول كلمته الفاصلة في إنجاز التغييرات المنتظرة. فجيل اليوم لا يطالب بإصلاحات ترقيعية، بل برؤية مختلفة تماماً للسياسة والاقتصاد والمجتمع. إنه يرفض أن يكون نسخة مكررة من الأجيال السابقة، ويصر على أن يكون له دوره في تشكيل مصيره. إنهم يمتلكون رؤى مبدعة في النضال، فهم لا ينتظرون بطلاً منقذاً، بل يبنون قوتهم بشكل أفقي، عبر شبكات التضامن والتأييد غير المرئية. إنهم يكتبون بيانهم الثوري ليس على الورق، بل عبر الفراغ الذي يتركونه خلفهم، فراغٌ في الملعب اليوم، قد يكون في مكان آخر غداً. وقد يتحول الى ثورة ناعمة لا ينفع معها القمع المادي.

في النهاية، مشهد الملعب الفارغ هو أكثر من مجرد غياب جمهور عن مباراة. إنه إعلان صريح عن نهاية عصر الصمت، وبداية لمرحلة جديدة من الوعي الجمعي الذي يرفض أن يكون تابعاً أو مسكوتاً عنه. إنه رسالة واضحة مفادها أن التغيير لم يعد خياراً، بل هو ضرورة حتمية، وأن هذا الجيل الجديد، بكل إبداعه ووعيه الصلب، لن يتراجع حتى يجد لنفسه مكاناً تحت الشمس، في وطنه، مشاركاً حقيقياً في صنع القرار، وليس مجرد متفرج على مشهد لم يعد يصدقه.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!