رسالة مفتوحة إلى الجامعيات والجامعيين المغاربة
عبد الرحمان الغندور
رغم أني لم تعد تربطني بالجامعة والعمل الأكاديمي علاقة مباشرة، ولأني خريج شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، وعشت جريمة إغلاق معهد علم الاجتماع الذي كنت طالبا فيه، ولأني قضيت كل زمن ممارستي لعملي التدريسي في ربط المعرفة بالواقع…لكل ذلك وغيره من الأسباب، أوجه هذه الرسالة المفتوحة إلى زملائي وزميلاتي، وتلميذاتي وتلامذتي الذين لا زالوا/ن يمارسون/ن أدوارهم/ن التكوينية في الحقل الجامعي والأكاديمي من اجل التفكير الجماعي في خلق ” وحدة بحث علمي ” في موضوع الحراكات الاجتماعية المغربية. (إذا لم تكن موجودة حسب علمي )على غرار العديد من الوحدات التي ناضل عدد الاخوات والاخوان من أجل دمجها في النسيج العلمي والتكويني والبحثي بجامعاتنا.
إخواني الأساتذة، أخواتي الاستاذات.
أكتب إليكم اليوم وفي ذهني صورة ذلك التراث الغني من الحركات الاجتماعية التي شكّلت، ولا تزال تشكل، نسيج حياتنا الجماعية في المغرب. ليست هذه الحركات مجرد أحداث عابرة في سجل تاريخنا، بل هي نبض المجتمع الحي، بتعبيراته الصادقة عن آماله وآلامه، وأشكال مقاوماته وتحولاته. وفي وقتنا هذا، حيث تتسارع وتيرة التغير وتتعقد التحديات، أتوجه إليكم برسالة تدعو إلى تأسيس وحدة بحث علمية وأكاديمية متخصصة في دراسة هذه “الحراكات الاجتماعية”، تستلهم مضامين علم اجتماع الحركات الشعبية والاجتماعية، لتحويل هذه الظواهر الحية من مجرد أخبار يومية أو سرديات تاريخية إلى موضوع للفحص العلمي المنهجي العميق.
إن النظر إلى تاريخنا، من حركات المقاومة في مرحلة الاستعمار، إلى الاحتجاجات الاجتماعية في العقود الموالية للاستقلال، وصولاً إلى حركات مثل 20 فبراير وما تلاها من تعبيرات جماعية في الريف وجرادة وغيرهما، إلى ظهور الجيل الجديد المعبر عنه بجيل Z. يظهر لنا لوحة معقدة من “الأفعال الجماعية” التي تتراوح بين العفوية والتخطيط. إنها مختبر حقيقي لفهم كيفية تشكل “الهوية الجماعية” وكيف تتحول إلى “عمل سياسي” مؤثر. إلا أن هذا الفهم يبقى ناقصاً دون أدوات تحليلية دقيقة، ودون منهجيات تنتقل بنا من الوصف الانطباعي إلى التفسير العلمي، تماماً كما انتقل الحقل المعرفي من النظرة التقليدية التي كانت ترى في الحركات مجرد ردود فعل غير عقلانية، إلى التحليل المعقد الذي يأخذ في الاعتبار تعبئة الموارد والفرص السياسية وعمليات التأطير.
هنا تكمن الدعوة الأولى: لماذا لا نتبنى “منهج تعبئة الموارد” لتحليل كيف استطاعت حركات مغربية، تاريخية وحاضرة، أن توظف مواردها المادية والرمزية المحدودة في كثير من الأحيان، لخلق فعل جماعي مؤثر؟ كيف نظمت نفسها؟ وما هي الاستراتيجيات العقلانية التي اتبعتها في سياقات الإمكانات المتاحة؟ هذه أسئلة لن تجد إجاباتها الشافية خارج إطار بحثي منظم.
كما أن “منهج الفرص السياسية” يفتح أمامنا باباً واسعاً للتفكير. فدراسة الظروف السياسية التي تسمح بانبثاق حركة اجتماعية أو تحدد مسارها، ليست مجرد تمرين نظري، بل هي مفتاح لفهم الديناميات العميقة للمجتمع المغربي. متى تنفتح الأبواب؟ ومتى تُغلَق؟ وكيف تتفاعل البنى المؤسساتية مع الضغوط القادمة من القاعدة؟ إن تحليل هذه العلاقة المتوترة بين المجتمع والدولة، بين المطالب الشعبية والاستجابة الرسمية، هو من صميم عمل العلوم الاجتماعية، وهو ما يمكن لهذه الوحدة المقترحة أن تتولاه بموضوعية وجرأة.
ولا يقل أهمية عن ذلك “منهج التأطير”، الذي يركز على الكيفية التي تقدم بها الحركات نفسها وقضاياها. كيف تصوغ خطابها؟ وما الرموز والسرديات التي تستخدمها لتعبئة الأنصار وإضفاء الشرعية على مطالبها؟ إن دراسة خطاب الحركات الاجتماعية المغربية، من الخطاب الوطني في مرحلة التحرير إلى الخطابات المحلية والجهوية المعاصرة، سيكشف لنا عن تحولات الهوية والذاكرة الجماعيتين، وعن آليات بناء المعنى في فضاء عمومي متزايد التعقيد.
إن إنشاء وحدة بحثية كهذه ليس ترفاً فكرياً، بل هو استثمار في فهم مستقبلنا. فمن خلال دراسة أصول هذه الحركات ونشأتها وظهورها، يمكننا تحليل البنى الاجتماعية والاقتصادية التي تنتج السخط وتُخرج الغضب إلى العلن. ومن خلال تحليل أشكال التنظيم والتعبئة، نستطيع تقديم معرفة عملية حول آليات العمل الجماعي في سياقنا المغربي. وبدراسة الاستراتيجيات والإجراءات وأشكال التحرك من احتجاجات ومظاهرات ووقفات وعرائض، نستطيع تقييم فعالية أساليب العمل المختلفة. والأهم من ذلك كله، تقييم “التأثير والنتائج”، ليس فقط على مستوى السياسات العامة، بل على مستوى الثقافة والوعي الجمعي والنسيج الاجتماعي نفسه.
أخواتي، إخواني
إن الثروة الحقيقية للعلوم الإنسانية تكمن في قدرتها على مواجهة تعقيدات الواقع الحي، لا في الانكفاء على النصوص المجردة. إن المجتمع المغربي، بغنى حراكه وتنوع تعبيراته، يمنحنا مختبراً حياً، يطرح علينا أسئلة ملحة تتطلب إجابات علمية رصينة. دعونا نعمل معاً على تأسيس هذه الوحدة البحثية، لنجعل من جامعاتنا فضاءً ليس فقط لنقل المعرفة، بل لإنتاجها من صميم واقعنا، مساهمين بذلك في بناء فهم أعمق لتاريخنا الحافل بالحراكات، وفي استشراف أكثر وعياً لتحولاتنا الاجتماعية القادمة. فهذا ليس مجرد مشروع أكاديمي، بل هو واجبنا المعرفي والأخلاقي تجاه مجتمعنا.
