روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة الثالثة)

د. زياد أسعد منصور
عزَّزت النجاحات العسكرية التي حققتها إيران ضد الدولة العثمانية في منطقة القوقاز خلال الفترة ما بين عامي 1734 و1735، ولا سيّما تحرير شمال أذربيجان، وشرق جورجيا، وشمال أرمينيا، من القوات العثمانية، موقع إيران السياسي والعسكري بشكل ملحوظ.
في هذا السياق، طالب نادر خان، الذي عُرف لاحقًا بلقب نادر شاه، الحكومة الروسية بسحب جميع قواتها من المقاطعات الواقعة على ساحل بحر قزوين. وقد تُوّجت هذه الجهود بعقد معاهدة غنجة (Ganja) في 10 آذار1735، والتي نصت على “تحالف أبدي” بين إيران وروسيا.
وبموجب المادة الأولى من المعاهدة، أعيدت مدينتا باكو ودربند (Derbent) إلى السيادة الإيرانية، بشرط ألّا تُسلَّما بأي حال من الأحوال إلى أي قوة أخرى، وخاصة “الأعداء المشتركين”. كما تعهّد الشاه بمواصلة الحرب ضد الدولة العثمانية بكل جدية وحماس، مع التزام الطرفين بعدم إبرام سلام منفصل مع العثمانيين.
إلا أن نادر شاه، الذي تولى الحكم رسميًا بين عامي 1736 و1747، سرعان ما خرق هذا الالتزام، فعقد صلحًا مع الدولة العثمانية عام 1736.
اعترفت معاهدة غنجة أيضًا بسيادة إيران على داغستان، وهو ما عنى أن المرتفعات الشمالية ستكون تحت حماية الشاه. ووفقًا للمعاهدة، أصبحت الحدود الشمالية لإيران تمتد عبر سلسلة جبال القوقاز إلى ضفاف نهر تيريك (Terek). كما نصَّت على تدمير قلعة الصليب المقدس، التي أسسها بطرس الأكبر وبُنيت بجهود عشرات الآلاف من الجنود الروس.
لكن تنفيذ بنود المعاهدة لم يكن سهلًا؛ فبينما كان استرجاع ولاية جيلان (Gilan) إلى السيادة الإيرانية أمرًا منطقيًا وتاريخيًا، أثار ضمّ أراضي ما وراء القوقاز استياءً لدى بعض شعوب المنطقة، بسبب اختلاف الانتماءات السياسية والثقافية.
“تحولات القوى في القوقاز خلال القرن الثامن عشر: توسّع روسيا وصراعات إيران والدولة العثمانية”
بعد أن استقر الإيرانيون في شرق جورجيا، بدأوا بمواجهة الأمراء الجورجيين المتمرّدين والحكّام الأرمن الذين أبدوا ولاءهم لروسيا. وأظهرت الأحداث أن فتوحات بطرس الأكبر على بحر قزوين لم تكن راسخة، إذ عجزت روسيا عن الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها، لكنها في المقابل لم تتخلَّ عن طموحاتها التوسعية في القوقاز.
عملت روسيا لاحقًا على تحصين مواقعها في الطرق المؤدية إلى داغستان، وأنشأت خطًّا دفاعيًا محصنًا يُعرف بـ خط كيزليار (Kizlyar)، وهو سلسلة من قرى القوزاق الممتدة على نهر تيريك السفلي. وفي عام 1763، تم تأسيس قلعة موزدوك (Mozdok)، لتكون قاعدة استراتيجية جديدة ضمن المخطط الروسي للتوسع في القوقاز.
أدّى الضعف المؤقّت في الموقف الدولي لروسيا خلال القرن الثامن عشر إلى تحوُّلٍ في ميزان القوى في الشرقين الأدنى والأوسط، وذلك بدايةً لصالح الدولة العثمانية، ثم لصالح إيران، مما سهَّل على الطرفين تنفيذ حملاتهما العسكرية في منطقة القوقاز وشمال القوقاز.
إلّا أن التوسّع العسكري الروسي في المنطقة أسهم في الوقت نفسه في إحياء حركات التحرُّر لدى شعوب القوقاز، وعزَّز من علاقات روسيا مع كلٍّ من جورجيا وأرمينيا، اللتين بدأتا في البحث عن قوة إقليمية حامية من الضغطين العثماني والإيراني.
كان القرن الثامن عشر في إيران فترةً اتسمت بالحروب المستمرة والنزاعات الإقطاعية العنيفة. فبعد اغتيال نادر شاه عام 1747، تفككت الدولة الصفوية-الأفشارية إلى عدد من الكيانات شبه المستقلة، حيث اندلعت صراعات طاحنة بين حكام تلك المناطق. ونتيجة لذلك، انفصلت أفغانستان، وعدد من الخانات في شمال أذربيجان، بالإضافة إلى أجزاء من أرمينيا وشرق جورجيا، عن الكيان الإيراني المركزي.
في الجنوب، تمكن كريم خان زند (Karim Khan Zand) من السيطرة على السلطة بين عامي 1750 و1779. وبحلول ستينيات القرن، استطاع توحيد أغلب الأراضي الإيرانية باستثناء إقليم خُراسان. خلال فترة حكمه، أقامت إيران علاقات سياسية وتجارية نشطة مع الإمبراطورية الروسية، وقد طُرحت آنذاك فكرة إقامة تحالف سياسي وعسكري مشترك ضد الدولة العثمانية. غير أنّ وفاة كريم خان عام 1779 حالت دون تنفيذ هذا المخطط.
ومنذ ستينيات وسبعينيات القرن ذاته، أصبحت السياسة الروسية في القوقاز أكثر حيوية ووضوحًا في توجهها التوسعي. ومع انسحاب إيران فعليًا من ساحة الصراع نتيجة اندلاع حرب أهلية جديدة، أصبح مستقبل شمال القوقاز مرهونًا بالتنافس الاستراتيجي بين روسيا والدولة العثمانية.
اتسع نطاق هذا الصراع ليشمل ليس فقط داغستان وقباردا، بل أيضًا مناطق مثل أوسيتيا، وإنغوشيتيا، والشيشان، وغيرها من مناطق القوقاز الشمالي.
وقد جاءت الحرب الروسية – العثمانية (1768–1774) لتُحدث تحولًا حاسمًا في ميزان القوى الإقليمي، حيث انتهت هذه الحرب لصالح روسيا، التي تمكّنت بموجب معاهدة كوتشيك قينارجه عام 1774 من تعزيز نفوذها في البحر الأسود والقوقاز، واضعة بذلك الأساس لتوسّعها الإمبراطوري في جنوب القوقاز خلال العقود التالية.
التوسّع الروسي في شمال القوقاز خلال القرن الثامن عشر: من التحصينات العسكرية إلى سياسة المحسوبية
بناءً على ما تقدَّم، فإن الحاجة المُلحّة لتحديد الانتماءات السياسية والمحسوبية مسبقًا، دفعت باتجاه الضمّ التدريجي لعدد من الأقاليم المنفردة في شمال القوقاز إلى الإمبراطورية الروسية. وقد بدأت هذه العملية مع انضمام كلٍّ من إنغوشيتيا وأوسيتيا الشرقية عام 1770، تلتها قباردا عام 1774، ثم الشيشان، وكيانات مثل شاخمهالستفو تارنافسكي (Shakhmatalstvo Tarnavsky)، وشمال كوميكيا (Northern Kumykia)، وذلك في الفترة الممتدة بين عامي 1781 و1796.
وقد أصبحت مدينتا كيزليار وموزدوك بمثابة معاقل استراتيجية استخدمتها روسيا في إنشاء ما عُرف لاحقًا بـ “الخط القوقازي“، وهو سلسلة من التحصينات العسكرية شكلت نواة الحدود الدفاعية الجنوبية للإمبراطورية الروسية.
وعقب ضم منطقة كوبان (Kuban Region)، اتسعت هذه الحدود بشكل كبير باتجاه القوقاز، الأمر الذي غيّر ملامح التوازن الجيوسياسي في المنطقة. ومع تزايد الضغط العثماني والإيراني، بدأت العديد من شعوب ما وراء القوقاز (Transcaucasia) – مثل بعض الجماعات في أرمينيا، وجورجيا الشرقية (Eastern Georgia)، وحتى بعض خانات أذربيجان الشمالية – في السعي لإقامة علاقات محسوبية أو تحالف مع روسيا، رغبةً في الحصول على حماية عسكرية وسياسية في وجه التهديدات الإقليمية المشتركة من تركيا وإيران.
وهكذا، أصبح التوسّع الروسي في القوقاز ليس فقط عملاً عسكريًا، بل جزءًا من استراتيجية معقّدة تهدف إلى دمج المناطق الحدودية ضمن النفوذ الروسي، من خلال مزيج من التحالفات، والتحصينات، والتغلغل السياسي.
رؤية روسية للهيمنة الناعمة في القوقاز خلال القرن الثامن عشر: من التحالفات الجبلية إلى تكريس الحماية الإمبراطورية
ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن شعوب شمال القوقاز لم تنظر إلى انضمامها إلى الإمبراطورية الروسية بوصفه خضوعًا مباشرًا لسلطة القيصر، بل اعتبرته نتيجة لتحالف سياسي مرحلي في مواجهة أعداء مشتركين، كـ الدولة العثمانية وإيران. ومن هذا المنطلق، كانت التحوّلات المستمرة في توجهات السياسة الخارجية للحكّام المحليين مفهومة وواقعية، إذ إن الاعتراف بسيادة روسيا لم يكن يعني بالضرورة – في نظرهم – التخلي عن استقلالهم أو تفكيك كياناتهم السياسية.
ولكن، ما إن بدأت روسيا تتجاهل هذه التصورات، وتتعامل مع الأقاليم الجبلية بوصفها أراضي خاضعة بالكامل، حتى تعقّد الوضع، ونشأت حالة من التوتر والصراع. ولتجنّب تفاقم المواجهة، سعت الإدارة الروسية إلى اعتماد سياسة مدروسة تقوم على احترام تقاليد شعوب الجبال، بما في ذلك عاداتهم الاجتماعية، ونُظمهم الأخلاقية، ومعتقداتهم الدينية، إضافة إلى أنماطهم الاقتصادية والمعيشية التقليدية، بهدف الحفاظ على التوازن والاستقرار في هذه المناطق الوعرة والقبائلية.
وفي سياق سعيها لتأسيس حاجز دفاعي استراتيجي في منطقة القوقاز، طرحت الدبلوماسية الروسية خلال ثمانينيات القرن الثامن عشر خطةً لتوحيد الممتلكات الجورجية تحت الحماية الروسية، كما دعمت فكرة إعادة إحياء المملكة الأرمنية في شرق أرمينيا، وتحريرها من الهيمنة الإيرانية، وهو ما يكشف عن البُعد السياسي الديني والجيواستراتيجي في آنٍ واحد.
وتتجلى هذه الرؤية التوسعية بوضوح في “اللوائح الخاصة بشعوب الجبال”، التي وضعها الأمير غريغوري أليكساندروفيتش بوتيمكين (Grigory A. Potemkin) وأقرّتها القيصرة كاترين الثانية (Catherine II)، والتي نصّت صراحة على ضرورة إقامة محمية روسية تشمل جميع ممتلكات منطقة القوقاز، تحت مبررات الحماية والمساندة ضد التهديدات الخارجية.
وخلال الفترة الممتدة بين 1777 و1780، تم تعزيز ما يُعرف بـ الخط القوقازي الدفاعي، الممتد من موزدوك (Mozdok) إلى آزوف (Azov)، عبر إنشاء عدد من البؤر الاستيطانية والمواقع العسكرية. وفي عام 1782، أصدرت كاترين الثانية مرسومًا يقضي بتوزيع أراضي القوقاز على النبلاء الروس، ما يدل على البُعد الاستعماري الواضح في السياسات الروسية آنذاك.
وفي عام 1791، تم نقل الخط الحدودي الرسمي إلى نهر كوبان (Kuban)، وهو ما أتاح لـ القوزاق الزابوروجيين (Zaporozhian Cossacks) – العائدين من منطقة البُوغ (Bug) – الاستيطان في الأراضي التي تم الاستيلاء عليها من شعوب القوقاز.
وفي ظل الظروف الإقطاعية والسياسية المعقّدة في المنطقة، ركّزت السياسة الروسية بدرجة أولى على جورجيا الصديقة، حيث شكّلت نقطة ارتكاز في التوغّل الروسي جنوب القوقاز. وحتى منتصف القرن الثامن عشر، كانت مملكتا كارتلي (Kartli) وكاخيتي (Kakheti) الجورجيتان تابعتين لإيران. إلا أنه وبعد وفاة نادر شاه عام 1747، تمكنت المملكتان من الدفاع عن استقلالهما السياسي.
وفي عام 1762، تم توحيد المملكتين تحت حكم الملك الكاخيتي إيراكلي الثاني (Heraclius II of Kakheti)، الذي على الرغم من اعتراف إيران الرسمي به كحاكم تابع لها، إلا أن سلطته الفعلية كانت مستقلة تمامًا، بل وتوسّعت لتشمل السيطرة على خانية يريفان (Yerevan Khanate) وخانية غنجة (Ganja Khanate)، مما جعل من مملكة كارتلي-كاخيتي قوة إقليمية صاعدة دفعت روسيا إلى تكثيف جهودها لضمها تحت جناح الحماية الروسية.
تحولات ميزان القوى في القوقاز: صعود النفوذ الروسي وتراجع الهيمنة الإيرانية
تراجعت قوة إيران في منطقة القوقاز بشكل ملحوظ منذ منتصف القرن الثامن عشر، غير أن الوضع السياسي في جورجيا وخانات القوقاز (Caucasian Khanates) ظلّ هشًا ومتقلّبًا. وعلى الرغم من هذا التراجع، بقي التهديد الإيراني والعثماني لاستقلال تلك الكيانات قائمًا بوضوح. لقد دلّت تطورات لاحقة على أن أي إعادة لبناء السلطة المركزية في إيران لا بد أن تتبعها محاولات لاستعادة الهيمنة على القوقاز، كما حدث لاحقًا مع صعود الأسرة القاجارية.
ولم تكن مملكة جورجيا ولا خانات القوقاز، بما تمتلكه من إمكانيات محدودة، قادرة على مقاومة قوى إقليمية كبرى مثل إيران أو الدولة العثمانية لفترة طويلة بمفردها. ومن هنا، لقيت رعاية روسيا ترحيبًا واسعًا باعتبارها ملاذًا استراتيجيًا يوفر نوعًا من التوازن الجيوسياسي في المنطقة.
وقد شكّلت معاهدة كوتشوك كاينارجي التي أُبرمت بين روسيا والدولة العثمانية عام 1774، نقطة تحوّل رئيسية؛ حيث تم لأول مرة إدراج القضية الجورجية ضمن بنود المعاهدة، وهو ما عكس رغبة روسيا المعلَنة في لعب دور الحامي الرسمي لجورجيا أمام العالم الأوروبي. وكان لهذا التطور أثر مباشر في تقارب العلاقات بين الدولتين.
وفي نهاية عام 1782، وجّه الملك إيراكلي الثاني (Heraclius II) ملك كارتلي-كاخيتي (Kingdom of Kartli-Kakheti) طلبًا رسميًا إلى القيصرة كاترين الثانية (Catherine II)، يطلب فيه قبوله تحت الحماية الروسية. تضمّن الطلب عددًا من الشروط الجوهرية، منها:
تثبيت عرشه الوراثي؛ الاعتراف بحقه في ملكية يريفان وغنجة؛ الحصول على دعم عسكري للاستيلاء على أخالتسيخه (Akhaltsikhe) وقارص (Kars)؛ استرجاع الأراضي التي استولى عليها الليزجينيون (Lezgins).
وفي المقابل، تعهّد إيراكلي الثاني بتقديم الدعم للقيصر في أي حروب ضد إيران أو تركيا.
وقد أُبرمت معاهدة جورجيفسك (Georgievsk) في 24 تموز1783 في مقر القائد العام للقوات الروسية في القوقاز، الجنرال بافل سيرغييفيتش بوتيمكين (Pavel S. Potemkin)، بمدينة جورجيفسك. تكونت المعاهدة من 13 مادة رئيسية و4 مواد إضافية، وشكّلت الأساس القانوني لما سُمّي آنذاك بـ “معاهدة الصداقة”، حيث أكّدت كاترين الثانية ضرورة عدم اعتبار الجورجيين رعايا للإمبراطورية الروسية، بل حلفاء سياسيين، كما شددت على عدم تضمين المعاهدة أية شروط مالية، حفاظًا على كرامة واستقلال الطرف الجورجي ظاهريًا.
لا شك أن دخول شرق جورجيا تحت حماية روسيا قد عزّز من التوجه الموالي لروسيا داخل عدد من خانات أذربيجان الشمالية. ومع ذلك، لم يكن هذا الولاء مطلقًا؛ فقد سعى حكام تلك الخانات إلى الاستفادة من الحماية الروسية بهدف توسيع نفوذهم الإقليمي، دون السماح لروسيا بالتدخل في شؤونهم الداخلية، خاصة فيما يتعلّق بسياساتهم تجاه الأرمن والجورجيين، الأمر الذي لم يكن متسقًا مع الرؤية الروسية الأشمل في القوقاز.
وفي المقابل، أدّى التوغّل العسكري الروسي نحو داغستان والشيشان إلى انتفاضة كبرى عام 1785، قادها الشيخ منصور الشيشاني (Sheikh Mansour). وقد أثبتت هذه الانتفاضة مدى صلابة مقاومة شعوب الجبال وتمسّكهم باستقلالهم، ما أدى إلى انقطاع الاتصال الروسي الفعّال مع عمق منطقة القوقاز لفترة، وخلق تحديات أمام استمرار المشروع الروسي في المنطقة.
حملة آغا محمد خان القاجاري على القوقاز واستجابة روسيا: صدام المصالح في أواخر القرن الثامن عشر
وجدت الفرقة الروسية، التي كانت متمركزة في جورجيا، نفسها في وضعٍ بالغ الصعوبة، إذ لم تتمكن من تأمين الحماية الكافية للمملكة الجورجية. وقد ازدادت الأمور تعقيدًا في عام 1787، عندما اندلعت حرب روسية-عثمانية جديدة 1787–1792))، ما دفع الإمبراطورية الروسية إلى سحب قواتها من جورجيا مؤقتًا، في ظل تزايد الضغط العسكري على جبهات متعددة.
بحلول عام 1794، نجح آغا محمد خان القاجاري في توحيد معظم أراضي إيران تحت سلطته، بعد فترة طويلة من الفوضى الداخلية أعقبت وفاة نادر شاه. كان من أهدافه الكبرى استعادة الهيمنة الإيرانية على جورجيا وخانات ما وراء القوقاز، التي فقدتها إيران خلال حقبة الاضطرابات الإقطاعية.
ورغم أن العلاقات الاقتصادية بين إيران والقوقاز ظلت قوية، إذ كانت شعوب القوقاز تعتمد على التجارة، والتبادل الثقافي، والديني مع إيران، إلا أن المصالح السياسية كانت متباينة. فقد سعت إيران إلى توسيع أراضيها على حساب ممالك جورجيا والخانات الإسلامية في القوقاز، في حين تمسكت شعوب المنطقة بحقها في الاستقلال والسيادة. ومن هذا المنطلق، لم تكن تلك الشعوب في توافق تام مع السياسات الروسية أيضًا، رغم قبولها المؤقت بالحماية الروسية، نظرًا لأن روسيا كانت تسعى بدورها إلى بسط سيطرتها على كامل منطقة القوقاز.
وفي عام 1795، شنّ آغا محمد خان حملة عسكرية كبرى، قاد خلالها جيشًا قوامه 60 ألف جندي، واجتاح مناطق ما وراء القوقاز. وقد تعرّضت مملكة كارتلي-كاخيتي الجورجية، التي كانت قد دخلت تحت الحماية الروسية في إطار معاهدة جورجيفسك لعام 1783، إلى دمارٍ واسع، كما تعرضت عاصمتها تبليسي للنهب. وأُسر آلاف الجورجيين ونُقلوا إلى داخل إيران.
شكلت غزوة آغا محمد خان ناقوس خطر للإمبراطورية الروسية، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات عسكرية فورية. ففي ربيع عام 1796، أمرت كاترين الثانية بإرسال قوة روسية قوامها 30 ألف جندي إلى منطقة القوقاز، تحت قيادة الجنرال فاليريان زوبوف (Valerian Zubov)، وهو من كبار القادة العسكريين في الإمبراطورية.
نصّت التعليمات الرسمية التي تلقاها زوبوف على أن هدف الحملة هو: “تحرير جورجيا، وتعزيز موقف ملكها، وكذلك دعم الأمراء الأرمن في كاراباخ، وإبراهيم خان الشوشي (Ibrahim Khan of Shusha)، الذي يقاوم بشجاعة قوات آغا محمد خان، بالإضافة إلى مؤازرة باقي الخانات المتحالفة معنا والمضطهدة من قبل إيران.”
وتم التأكيد على أن من بين المهام الأساسية: الاستيلاء على مدينة باكو؛ تنسيق الجهود مع القوات البحرية الروسية في بحر قزوين؛ الاتصال بالقوات المتمركزة في الخط القوقازي؛ استكمال العملية بتحرير الأراضي حتى نهر آراس (Aras)، الذي كان يُعد آنذاك حدًا جغرافيًا فاصلاً بين النفوذ الروسي والإيراني في جنوب القوقاز.
مثّلت هذه الحملة، التي تُعرف أحيانًا باسم الحملة الروسية إلى بلاد فارس 1796، بداية مرحلة أكثر حزمًا في السياسة الروسية التوسعية في القوقاز، والتي ستبلغ ذروتها لاحقًا في القرن التاسع عشر خلال الحروب الروسية-الفارسية.
حصار دربند والتحول في موازين القوى في القوقاز (1796)
واجهت القوات الروسية، بقيادة الجنرال فاليريان زوبوف، مقاومة عنيفة من بعض الخانات القوقازية أثناء تقدمها جنوبًا نحو مناطق نفوذ إيران. كانت انتصارات آغا محمد خان القاجاري في جورجيا قد أثارت إعجاب بعض هذه الخانات، ما دفعهم إلى التواصل معه، آمِلين في التحالف مع إيران ضد التوسع الروسي. فأرسلوا إليه سفراء مع رسائل تأكيد على الولاء، لكنهم لم يتلقّوا الدعم الذي وعد به خان إيران، مما تركهم دون غطاء عسكري فعلي.
من بين أكثر المعاقل التي واجهت القوات الروسية كانت قلعة دربند (Derbent)، ذات الموقع الإستراتيجي والمحصّنة طبيعيًا وبشريًا. فقد تمركز فيها حوالي 10,000 مقاتل مسلح، في مواجهة جيش روسي بلغ عدده نحو 20,000 جندي. ورغم تفوق الروس عدديًّا وتسليحيًّا، فقد أبدى المدافعون عن القلعة مقاومة شرسة.
وفي يوم 10 أيار 1796، وبعد معارك طاحنة، تمكّنت القوات الروسية من السيطرة على دربند. وفي رسالة أرسلها الجنرال زوبوف بعد النصر، كتب: “… بعد أن واجهت مقاومة عنيفة وقسوة الحرب عند أسوار دربند، اضطررت إلى التضحية بأرواح الجنود الذين أُوكلت إليّ قيادتهم…”
أحدث هذا النصر تحولًا حاسمًا في الوضع العسكري والسياسي في القوقاز. فقد اعتقد العديد من حكام الخانات أن الروس لن ينجحوا في اقتحام قلعة دربند، لكونها من أقوى الحصون في شمال إيران، وكانوا يأملون في تدخل عاجل من القوات الإيرانية بقيادة آغا محمد خان. لكن انهيار دفاع دربند أضعف ثقتهم في إمكانية الاعتماد على إيران.
نتيجة لهذا التغير المفاجئ، أعلن خان باكو، وخانا شماخا وشاكي، خضوعهم للسلطة الروسية. وفي حزيران 1796، دخلت القوات الروسية مدينة باكو دون قتال، وتكونت هذه القوة من: ثلاث كتائب مشاة، وفوج من القوزاق، وأربع مفارز مدفعية ميدانية
وفي تقريره الختامي عن الحملة، كتب الجنرال زوبوف إلى الحكومة الروسية: “بعد أن قطعتُ مسافة خمسمائة ميل من حدود الإمبراطورية… وفتحتُ البوابات الحديدية لإيران بأسلحة منتصرة، دافعتُ عن ضفاف نهري كورا (Kura) وأراكس (Aras) من طمع قوات آغا محمد خان، ووحّدتُ تحت السيادة الروسية جميع الشعوب الواقعة على الساحل الغربي لبحر قزوين حتى حدود جيلان (Gilan)… وها قد وطأت أقدامنا أرض باكو بثبات.”
عززت هذه الحملة الوجود الروسي في جنوب القوقاز، ورسّخت رسائل واضحة للخانات بأن التحالف مع روسيا كان، في تلك المرحلة، خيارًا سياسيًا أقوى من التطلع إلى الدعم الإيراني، الذي بدا غير مضمون في ظل أولويات آغا محمد خان العسكرية داخل إيران.
توقف مؤقت للسياسة الروسية في القوقاز وبداية مرحلة الضم المباشر
أنجزت حملة الجنرال فاليريان زوبوف المهمة التي أوكلتها إليه الإمبراطورة كاترين الثانية، والتي تمثلت في ضم منطقة ما وراء القوقاز إلى الإمبراطورية الروسية. لكنّ السياسة قصيرة النظر التي انتهجها القيصر بولس الأول (Paul I)، الذي ربط جميع مصالحه السياسية بشكل أساسي مع أوروبا الغربية، أفشلت إلى حد كبير هذه المكتسبات الروسية في القوقاز.
فبناءً على أوامره، أُوقفت الحملة الروسية، وتم فصل الجنرال زوبوف من قبل المجلس العسكري الحكومي بحجة “المرض”، في خطوة يُنظر إليها على أنها سياسية أكثر منها صحية. في عام 1797، غادرت القوات الروسية مناطق جورجيا وأذربيجان طواعيةً، وهو ما أحدث هزة في ثقة الخانات المحلية والسكان المتعاطفين مع روسيا.
مع ذلك، لم تعد الطموحات الإمبراطورية الروسية قابلة للتوقف في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. فقد بدأت روسيا منذ مطلع القرن التاسع عشر مرحلة جديدة في تعاملها مع ما وراء القوقاز، حيث انتقل التركيز من إنشاء دول تابعة إلى سياسة الضم المباشر لمناطق مثل جورجيا، وأرمينيا، وخانات القوقاز إلى داخل الإمبراطورية الروسية.
بررت الإدارة البيروقراطية الروسية هذه الخطوة بالضرورة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية الاستراتيجية، لا سيما في ضوء المواقع الحيوية التي تحتلها منطقة القوقاز على طرق التجارة، والحدود مع البحرين الأسود وقزوين.
في الوقت نفسه، شهدت إيران تغييرات جذرية، حيث توحدت تحت حكم سلالة القاجار الجديدة التي حكمت من 1796 حتى 1925. تم رسم الحدود الإقليمية الجديدة وتشكيل جهاز الدولة المركزي. لكن إيران لم تكن بمنأى عن الضغوط الخارجية، إذ تزايد عليها الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي من القوى الأوروبية، ما اضطرها إلى تطوير استراتيجيات جديدة في سياستها الخارجية تهدف إلى الحفاظ على سلامة أراضيها واستقلالها السياسي.
(يتبع)