روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة الرابعة)
						د. زياد منصور
صراع روسيا وإيران على النفوذ في منطقة ما وراء القوقاز في الثلث الأول من القرن التاسع عشر
كان التناقض الأساسي في العلاقات السياسية بين روسيا وإيران في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر يتمثل في الصراع على السيطرة على منطقة ما وراء القوقاز. فقد كانت إيران تعتبر دول هذه المنطقة بمثابة دول تابعة لها، على الرغم من أن كثيرًا منها كان يتمتع بالاستقلال الفعلي. أما روسيا، فقد سعت إلى بسط نفوذها على ما وراء القوقاز لأسباب عسكرية واستراتيجية، إذ كان من الضروري، من وجهة نظرها، أن تؤدي هذه المنطقة دور الحاجز الواقي لأراضيها الجنوبية. وبناءً على ذلك، بدأ التخطيط في الأوساط الحاكمة الروسية لضم الأراضي الواقعة على ساحل بحر قزوين، وإنشاء كيانات سياسية تابعة لها فيما وراء القوقاز.
وقد جرى ضم منطقة ما وراء القوقاز إلى روسيا بشكل عام وسط موقف ودي من السكان المحليين، ومن دون مقاومة جوهرية من جانب الحكام المحليين (الخانات).
إن الموقع الجيوسياسي لإيران، التي تقع على مقربة من الهند وآسيا الوسطى والقوقاز، جعلها طرفًا رئيسيًا في الصراع الحاد الذي خاضته روسيا من أجل بسط نفوذها وهيمنتها في هذه المنطقة.
ولم تدرك إيران على الفور خطورة التوسع العسكري-السياسي والاقتصادي الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى. فقد كانت المقاطعتان الإيرانيتان المتاخمتان لبحر قزوين، أستراباد (Astarabad) ومازندران (Mazandaran)، تمثلان القاعدة الأساسية لحكم سلالة القاجار (Qajar)، وكان لهما دور محوري في العلاقات الإيرانية-الروسية. لذلك كانت روسيا من أوائل الدول التي أقامت معها تلك السلالة علاقات دبلوماسية. وعلى الرغم من عدم الاستقرار السياسي الدوري في إيران، فقد كانت هناك تجارة نشطة عبر بحر قزوين، كما حافظ حكام المقاطعات القريبة من الساحل القزويني على علاقات سياسية مستمرة مع السلطات الروسية في المناطق الحدودية. وكانت القاجارية مهتمة بدعم روسيا، إذ إن اعترافها بحكمهم في هذه المقاطعات كان يعزز مكانة القاجاريين ويمنح شرعية لحكمهم.
وقد جمعت إيران بشعوب القوقاز علاقات تجارية وثقافية ودينية وثيقة. ومع ذلك، سعت إيران إلى توسيع نفوذها الإقليمي على حساب جورجيا (Georgia) والخانات المسلمة في منطقة ما وراء القوقاز، في حين سعت شعوب القوقاز إلى الحفاظ على استقلالها أو على الأقل نيل الحق في اختيار حاميها بين روسيا أو إيران أو الدولة العثمانية.
وقد نجحت الحكومة الروسية في استغلال هذا الميل لصالحها، حيث نصبت نفسها مدافعًا عن شعوب القوقاز المسيحية. وردًّا على الاتهامات الإيرانية بضم أراضٍ أجنبية، صرّحت الحكومة الروسية في عام 1816 للمبعوث الإيراني بما يلي: “لقد أدخلت روسيا قواتها إلى جورجيا من أجل حماية أرضٍ أوكلت نفسها منذ زمن طويل إلى رعايتها، والدفاع عن شعبٍ من نفس الدين ضد هجوم غير مبرر من آغا محمد خان، الذي كان يهدد بفناء كامل لهذا الشعب. وبعد موته، وخلال فترة الفراغ السياسي في بلاد فارس، انضمت عدة مناطق طواعية إلى التاج الروسي، وتم توثيق هذه الروابط عبر اتفاقيات رسمية معهم. وحده خان غنجة هو الذي خضع بالقوة العسكرية، وبالتالي يمكن اعتباره منطقة تم فتحها بالقوة.”
تأمين ضم جورجيا إلى روسيا: مبررات وأسباب في أوائل القرن التاسع عشر
كانت السلطات الروسية الرسمية قد أصدرت تبريرات مماثلة في السابق. ففي المانيفست (البيان الرسمي) الذي أصدره بافل الأول بخصوص ضم جورجيا، والذي وُقع في 18 كانون الأول 1800، ونُشر في سانت بطرسبرغ في 18 كانون الثاني 1801، وفي جورجيا في 16 شباط 1801، ذُكر فيه أن الحكومة الروسية وافقت على ضم جورجيا إلى روسيا بناءً على طلب الشعب الجورجي والملك إيراكل الأول، وذلك لحماية جورجيا من الاعتداءات الخارجية والحفاظ على النظام الداخلي في البلاد.
بعد اغتيال بافل الأول (الذي اغتيل في 23 آذار 1801 (وفق التقويم اليولياني) داخل قصر ميخايلفسكي في سانت بطرسبرغ، على يد مجموعة من الحرس الإمبراطوري ونبلاء روس. تم اغتياله نتيجة مؤامرة دبرها بعض النبلاء والقادة العسكريين بسبب سياساته السلطوية المتشددة وتدخله المستمر في شؤون النبلاء والجيش، بالإضافة إلى خلافاته مع الطبقة الأرستقراطية والنخبة الحاكمة. كان الاغتيال نتيجة لرغبة هؤلاء في تغيير النظام والسيطرة على الحكم، وتم تنصيب ابنه ألكسندر الأول بدلاً منه)، عاد الإمبراطور ألكسندر الأول مرارًا وتكرارًا إلى قضية ضم جورجيا إلى روسيا. فقد ناقش المجلس الدائم (المجلس الحكومي منذ عام 1810) بناءً على توجيه ألكسندر الأول، موضوع قبول جورجيا في رعايا روسيا. وأكد المجلس أن جميع سكان جورجيا، ومعظم أفراد العائلة المالكة الجورجية، يرغبون في الانتقال إلى رعاية روسيا. ووفقًا لآراء المجلس، فإن إبقاء جورجيا تحت حكم الملوك الجورجيين سيؤدي إلى مآسٍ للدولة المرهقة، وسيكون ذلك ضارًا جدًا بمصالح روسيا. كما أن مطالب الشاه الإيراني بالسلطة العليا على جورجيا ستنتهي بإفلاس البلاد.
وإذا لم يتم ضم جورجيا كإقليم تابع، وإنما اقتصر الأمر على رعايتها فقط، فستحتاج روسيا إلى إنفاق الكثير من القوات والموارد لضمان أمنها، كما أن القوات الروسية لن تصل إلى حدود جورجيا قبل أن تتعرض للدمار في حال غزتها القوات الإيرانية مجددًا.
ومن وجهة نظر المجلس الدائم، فإنه ليس من المجدي ترك جورجيا عرضة لجارها المسلم — إيران، حيث سيتعرض كل السكان المسيحيين في جورجيا للإبادة، مما سيخلق تهديدًا إضافيًا على الحدود الجنوبية لروسيا. ولا يقل خطرًا انتقال جورجيا إلى حماية الدولة العثمانية. لذلك، اتخذ المجلس الدائم قرارًا بالإجماع بأن من مصلحة جورجيا وروسيا معًا أن تبقى جورجيا تحت حكم روسيا.
تردد ألكسندر الأول في ضم جورجيا وتقرير ك.ف. كنورينغ
على الرغم من قرار المجلس الدائم، تردد القيصر ألكسندر الأول بشأن ضم جورجيا إلى روسيا. قبل اتخاذ القرار النهائي، طلب دراسة الوضع على الأرض وتقديم تقرير حول موقف مختلف طبقات المجتمع الجورجي من الانضمام إلى روسيا، وما إذا كانت كل الطبقات تطلب ذلك بإجماع، وهل تستطيع جورجيا الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الخارجية والقضاء على النزاعات الداخلية المستمرة.
تم إرسال تكليف مشابه إلى الفريق أول ك.ف. كنورينغ، القائد الأعلى للقوات الروسية في القوقاز. في تقريره لألكسندر الأول بتاريخ 28 تموز 1801، أبلغ كنورينغ أنه زار جورجيا بناءً على أمر سامٍ ووجد أن جورجيا غير قادرة على مقاومة مطالب إيران أو صد غارات القبائل الجبلية بمفردها.
على سبيل المثال، خلال غزو آغا محمد خان، تمكن إيراكلي الثاني بصعوبة من تجميع خمسة آلاف مقاتل، أما أثناء هجوم عمر خان الأواري فلم يستطع تعبئة أي قوات. كان اللزغيون (من خمسة إلى عشرة آلاف مقاتل)، الذين خدموا إيراكلي الثاني، يقومون بتسريب الأسرار ومساعدة أقاربهم في نهب جورجيا.
بسبب غارات القبائل واحتلال الفرس، انخفض عدد سكان جورجيا من حوالي 61 ألف أسرة عام 1783 إلى 35 ألفًا في 1801. توقف الجورجيون عن مقاومة جحافل الأعداء، وسمحوا لعمر خان بفرض جزية على جورجيا قدرها 5 آلاف روبل سنويًا (تحت مسمى «الهدايا الملكية»). كان السكان يعانون من الفقر والنهب، في حين زاد العائلة المالكة والنبلاء من الضرائب عليهم.
كانت جورجيا مهددة من قبل الإقطاعيين في داغستان، وخان غانجا الذي كان يطالب بمنطقة شامشاديل، وخان إريفان. لم تكن جورجيا محمية من إيران، ولم تهاجمها تركيا مباشرة، لكن اللزغيين الذين خدموا لدى باشا أخالتسيخ كانوا يشنون غارات مستمرة على الأراضي الجورجية.
أشار كنورينغ، على أنه: «لا يوجد اتحاد بين الجورجيين. فعلى سبيل المثال، كان من المفترض أن يتحد الإيميرتيون مع إيراكلي لمواجهة قوات آغا محمد خان. لكن عندما غزت القوات الفارسية جورجيا، تخلى الإيميرتيون عن إيراكلي وتفرقوا في كارتلي وبدأوا ينهبون السكان كما فعل الفرس. ولا يوجد اتحاد في كاخيتي أيضًا، حيث كانت هناك صراعات على السلطة».
أخبر كنورينغ ألكسندر الأول أن الملك الجورجي إيراكلي كان يرغب بصدق في تسليم جورجيا تحت حكم روسيا. وكان يعتزم في عام 1795 الاجتماع بالقائد الأعلى للقوات الروسية إيفان فاسيليفيتش جودوفيتش لمناقشة هذه القضايا، لكن غزو آغا محمد خان أجل هذا الأمر مؤقتًا. وبعد وفاة إيراكلي، تولى جورج الثاني العرش، وكان هو الآخر يرغب في الخضوع للسلطة الروسية، لكنه كان يخشى معارضة الأمر من قبل الأمراء، لذا أوكل لمقربيه — شافشافادزه، أفلوف، وبالافاندوف — التواصل سراً مع السلطات الروسية وبدء المفاوضات حول قبول جورجيا تحت السيادة الروسية.
كان جزء من النبلاء الجورجيين يفضلون الحفاظ على النظام القديم، خوفًا من فقدان حقوقهم ومكانتهم مع الانتقال إلى الخضوع الروسي، بينما كان بقية النبلاء والطبقات الأخرى يؤيدون الانضمام إلى روسيا. وكان الشعب العادي أيضًا يؤيد ذلك، ولهذا الحين، وقبل معرفة القرار الروسي النهائي، كان الشعب الجورجي يشعر بالقلق.
بعد تلقي هذه المعلومات، ناقش المجلس الدائم مرة أخرى قضية ضم جورجيا إلى روسيا. وأقر ألكسندر الأول جدوى ضم جورجيا، ووقع في 12 أيلول1801 “بيان تأسيس الإدارة الجديدة في جورجيا”.
وأشار البيان إلى أن رعاية روسيا لجورجيا كانت دومًا تعني واجب الحماية. ففي 1796، عندما غزا آغا محمد خان جورجيا، أرسلت كاثرين الثانية قوات روسية أنقذت البلاد من خطر جديد، واحتلت الأراضي الممتدة من سواحل بحر قزوين حتى نهري كورا وأراكس. لكن بعد الانسحاب المفاجئ للقوات الروسية بأمر من بافل الأول، بدأت جورجيا تعيش سلسلة من المصائب: غزوات، خراب، أسر السكان، وصراعات على السلطة داخل العائلة المالكة. ووفقًا للبيان، كان ذلك قد يؤدي إلى اختفاء الشعب الجورجي من الوجود. لهذا عادت جورجيا تطلب حماية روسيا.
دخلت القوات الروسية جورجيا وأنقذت البلاد من غزوات جديدة. ووقع بافل الأول بيان ضم جورجيا إلى روسيا. وأكد ألكسندر الأول في الوثيقة رغبته في الحفاظ على استقلال جورجيا إذا أمكن ضمان أمنها، لكن ذلك أصبح مستحيلًا في الظروف القائمة.
جاء في البيان المذكور: “ليس لزيادة القوى، ولا للمصلحة، ولا لتوسيع حدود الإمبراطورية الواسعة، نقبل على عاتقنا إدارة مملكة جورجيا. الكرامة والروح الإنسانية تفرض علينا واجبًا مقدسًا، بالاستجابة لنداء المعانين، لتأسيس حكم في جورجيا يضمن العدالة، والأمن الشخصي والمادي، ويوفر الحماية القانونية لكل فرد”.
بهذه الأفكار «الأخلاقية العالية» برر البيان ضم جورجيا إلى روسيا، بينما كان المسؤولون الروس يبررونه أكثر بشكل واقعي من وجهات النظر الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
أصدر ألكسندر الأول تعليماته إلى ك. ف. كنورينغ، الذي عيّنه قائدًا عامًا لجورجيا، بأن يعتني بتطوير التجارة والزراعة والحرف والرعي والتعدين في جورجيا، والأهم من ذلك — أن يضمن أمنها من جيرانها العدائيين، وأن يستقطب لهذا الغرض حلفاء من بين خانات المسلمين المحليين.
أما المهمة الأكثر تحديدًا — إنشاء تحالف ضد إيران — فقد وضعها ألكسندر الأول في مرسوم بتاريخ 24 كانون الأول 1801، موجه إلى كنورينغ.
طُلب من ك. ف. كنورينغ دعوة خانات قوبا، ديربنت، باكو، تاليش، أوزميي القراكيتاكي، القاضي التاباساراني، الشامخال التاركوف، وعدد من الحكام الصغار الآخرين، للتفاوض حول إقامة تحالف تحت الحماية العليا لألكسندر الأول — «توحيدهم في هذا التحالف بحيث يكونوا مستعدين جميعًا للدفاع في حال تعرض أي منهم لهجوم من قبل الذين يطالبون بالسلطة العليا في فارس، وأن يكونوا حلفاء أمناء ومخلصين، يقدمون القوات اللازمة حسب إمكاناتهم، ويتجمعون بإجماع لطرد عدوهم المشترك، ويتعهدوا بعدم فقط حماية بعضهم البعض بهذا العمل، بل أيضًا بإبلاغ الحليف فورًا عن أي نية عدائية تُكتشف، وبهذا يشكلون كجسد واحد وشعب واحد مقسم بين حكام مختلفين، تحت رعايتي وحمايتي العليا، ويتخذون الحيطة مسبقًا من مخططات العدو، ويسعون بكل الوسائل لردعها وتقوية بعضهم البعض، كما يليق بجيران صالحين، وكما تتطلب سلامة شعوبهم وأوطانهم المشتركة».
السياسة الروسية تجاه حكام القوقاز المسلمين وحماية جورجيا في أوائل القرن التاسع عشر
لجذب حكام المسلمين في منطقة القوقاز إلى صف روسيا، اقترح ألكسندر زيادة «الرواتب» التي تدفعها روسيا لبعضهم، وتخصيص أموال لخان قوبا شيخ علي من أجل تمويل جيش «جاهز لخدمتي»، وكذلك الحفاظ على سريان المرسوم الصادر في 21 تموز 1763 بشأن السماح بمرور البضائع المعفاة من الرسوم الجمركية عبر الحدود لصالح السفراء والرسل القادمين من هذه الخانات إلى البلاط الروسي. لكن النص نفسه اشتمل على قيد يحد من التجارة المعفاة من الرسوم لجميع التجار الآخرين «حتى لا تتكبد الخزينة خسائر أو متاعب». كما كان مطلوبًا توقيف جميع السفراء الآسيويين على الحدود للاستفسار عن طلباتهم، وإرسال هذه الطلبات إلى سانت بطرسبرغ، أما مرور السفراء الشرقيين إلى العاصمة الروسية فكان يستلزم طلب رأي خاص من لجنة الشؤون الخارجية.
بعد ضم جورجيا إلى روسيا، تغير موقف السلطات الروسية تجاه غارات شعوب الجبال على الأراضي الجورجية وتهديدات الهجوم من إيران أو تركيا. كانت الحكومة الروسية تعتبر هذه الهجمات على جورجيا أعمال عدائية موجهة ضد روسيا نفسها.
وكانت السلطات الروسية تراقب إيران عن كثب، حيث كانت هناك دعوات علنية للهجوم على جورجيا واستعادتها من روسيا. في 1 آذار1802، أبلغ كنورينغ ألكسندر بتحضير فتح علي شاه لجيش لغزو يريفان ثم التوجه إلى جورجيا. وفي 26 آذار 1802، أبلغ كنورينغ عن تجمع شاه لجيش قوامه 40 ألفًا لغزو خانة يريفان، التي كان حاكمها يحتفظ بعلاقات ودية مع السلطات الروسية وكان يستعد لمواجهة غزو القوات الشاهية. طلب كنورينغ إذنًا لمساعدة خان يريفان وإرسال قوات من جورجيا عندما تقترب قوات الشاه من الخانة. ووفقًا لمعلومات القيادة الروسية، كان فتح علي شاه يعتزم غزو جورجيا في ربيع 1803.
في رسالة بتاريخ 23 نيسان 1802، أمر ألكسندر الأول كنورينغ بمنع إيران من السيطرة على خانة إريفان وصد الغزو الفارسي لجورجيا.
وجهة النظر الرسمية لروسيا بشأن الأوضاع في منطقة ما وراء القوقاز، والتي كان على الدبلوماسيين الروس نقلها إلى الدول الأجنبية، وردت في التعليمات التي أصدرها وزير الخارجية الروسي بتوجيه من القيصر ألكسندر الأول إلى أ.ي. إيتالينسكي عند تعيينه مبعوثاً إلى الدولة العثمانية.
فعند توجيه اتهامات إلى روسيا بالتوسع الإقليمي على حساب إيران (وهو ما كانت فرنسا، وخاصة نابليون، أكثر من روج له)، كان ينبغي على المبعوث الروسي أن يرد على “مثل هذه الترهات” قائلاً: “ليست لديّ أية نية للقيام بأي ضمٍّ لأراضٍ تابعة لبلاد فارس، سوى ضمان حدود آمنة لجورجيا من خلال كبح جماح أولئك الحكّام الذين كانوا في السابق يدفعون لها الجزية أو يعتمدون عليها. أما بالنسبة إلى المملكة الجورجية نفسها، فإني لم أقم سوى بحمايتها من الكوارث الحتمية، والانقسامات بين أفراد العائلة المالكة، ومن محاولات الجيران استغلال هذا الوضع المضطرب للسيطرة عليها. أما بالنسبة للفوائد التي قد تجنيها روسيا من ذلك، فليست هناك أية مكاسب حقيقية، بل على العكس، ستضطر روسيا إلى تقديم تضحيات كبيرة من حيث الأموال والجنود لإدارة إقليم بعيدٍ جداً عن مركزها“.
أما سلف إيتالينسكي، ف.س. تومارا، فقد كُلّف هو الآخر بمراقبة الأوضاع على الحدود الإيرانية-التركية، ومتابعة تطورات العلاقات بين إيران والدولة العثمانية، وكان يجمع المعلومات التي تتسرّب إلى الدولة العثمانية حول نوايا البلاط الإيراني تجاه منطقة ما وراء القوقاز.
كانت العلاقات بين السلطات الروسية في القوقاز وإيران متوترة للغاية، إذ كانت الحكومة الإيرانية تتابع بقلق متزايد تنامي النفوذ الروسي في المنطقة، وتراقب كيف أن العديد من الخانات المسلمين في القوقاز بدأوا يدخلون تحت حماية روسيا، مما أدى إلى خروجهم من دائرة النفوذ الإيراني.
في 3 تشرين الأول1802، دخلت خانية أفاريا تحت الحماية الروسية. وفي عام 1803، تم توقيع “شروط انضمام مقاطعة جار (تشاير) إلى الحماية الروسية”. كما تم في نفس العام قبول منطقة منغريليا في الحماية الروسية بموافقة الأمير دادياني. وقد أبدى القيصر ألكسندر الأول موافقته أيضاً على انضمام عدد من الإمارات القوقازية الأخرى إلى الحماية الروسية.
في مطلع القرن التاسع عشر، كان من بالغ الأهمية بالنسبة للحكومة الروسية أن يكون الحكّام المسلمون في منطقة القوقاز وما وراء القوقاز خاضعين بشكل دائم لحماية روسيا أو على الأقل متحالفين معها. فقد أتاح هذا الوضع لوزارة الخارجية الروسية والسلطات العسكرية الإمبراطورية اتخاذ مواقف أكثر صلابة تجاه إيران، سواء في أوقات الحرب الروسية–الإيرانية أو خلال فترات السلم.
وقد بذلت السلطات الروسية جهوداً كبيرة لاستمالة الخانات الإسلامية إلى جانبها، عبر إقناعهم بجدوى الانضمام إلى روسيا، أو عن طريق الرشوة، أو من خلال تخويفهم من احتمالات الغزو الإيراني، بل وتهديدهم في حال أبدوا مواقف عدائية تجاه روسيا.
كانت الحكومة الروسية تدفع معاشات سنوية كبيرة لهؤلاء الحكام المسلمين. ففي عام 1801، وُعِدَ مهدي شامخال الداغستاني بمبلغ سنوي قدره 6000 روبل، بينما خُصِّص لرستم أوتسمي كاراكايتاك مبلغ 2000 روبل، ولحاكم تَبَسَران، روستم قاضي، 1500 روبل. كما كان خان قَره باغ وغيره من الحكام المسلمين يتقاضون معاشات مماثلة، وكان السلطان حِمَّت خان الأدري يحصل على 5000 روبل سنوياً.
وبحلول مطلع القرن التاسع عشر، كانت عدة خانات في القوقاز قد أصبحت رسمياً ضمن التبعية الروسية. فمنذ عهد بطرس الأكبر، كان خانات دربند خاضعين لروسيا، رغم أن شيخ علي خان الدر بندي قاوم القوات الروسية خلال الحملة الفارسية التي قادها فاليريان زوبوف عام 1796، إلا أن هذه الخانات عادت لتدخل تحت حماية روسيا مجدداً اعتباراً من 1 أيلول 1799.
وفي عام 1786، دخل مهدي شامخال الداغستاني في التبعية الروسية، ومنذ عام 1799 أصبح رستم أوتسمي كاراكايتاك تحت حماية روسيا، وفي عام 1800 تبعه مير مصطفى خان الطاليشي، وفي عام 1801 انضم حسين قولي خان الباكوي. أما في عام 1805، فقد انضمت مجموعة كبيرة من الخانات إلى الحماية الروسية.
لكن الوضع السياسي في منطقة القوقاز خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر كان غير مستقر إلى حدٍّ كبير، بحيث استمر العديد من الخانات في التذبذب بين روسيا وإيران. فكثيراً ما كانوا يغيّرون ولاءاتهم، ويلعبون على الحبلين، محاولين الحفاظ على علاقات مع الطرفين، واعدين كلٌّ منهما بالدعم حسب مصالحهم الآنية (يتبع).
