روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة الخامسة)

د. زياد منصور
في أيار/ماي من عام 1803، وصل مبعوثون إلى فتح علي شاه القاجاري من اثنتي عشرة مدينة في منطقة ما وراء القوقاز – وهي: كنجه (Ganja)، يرفان (Yerevan)، شوشا (Shusha)، شروان (Shirvan)، دربند (Derbent)، قوبا (Quba)، شماخي (Shamakhi)، باكو (Baku)، لنكران أو لانكران (Lankaran)، أردوباد (Ordubad)، خوي (Khoy)، وتبريز (Tabriz) — حاملين عريضة يستنجدون فيها بمساعدته وحمايته من القوات الروسية، التي، بحسب قولهم، تعتزم احتلال جميع مدنهم وضمّها إلى الإمبراطورية الروسية. ووفقًا لما ورد في التقارير الرسمية، فقد صرّح أولئك المبعوثون بأنه إذا لم يُقدّم الشاه لهم الدعم، فلن يكون أمامهم خيار سوى الدخول تحت السيادة الروسية. وقد وعد فتح علي شاه بتقديم الدعم لخانات ما وراء القوقاز بعد عودته من الحملة التركمانية.
ومن جهة أخرى، طلب خان طالش (Talysh Khan) من السلطات الروسية بناء قلعة داخل أراضي خانته لتحصينها ضد الهجمات الإيرانية. وقد وافقت السُّلطات الروسية على بناء قلعة لنكران (Lankaran)، وفقًا لمخططات المهندس سيميونوف (Semyonov)، مبرّرة ذلك بالقول إن: “خانية طالش مهمة جدًّا بالنسبة لنا، لأنها تتيح لنا موطئ قدم جنوب نهر أراكس (Araxes)، وتُعطينا القدرة على تهديد فارس، وتنشيط التجارة”.
في جميع التعليمات والمراسيم المرسلة إلى الجنرال بافل دميترييفيتش تسيتيانوف (Pavel Dmitrievich Tsitsianov)، الذي تم تعيينه عام 1802 حاكمًا عامًا على جورجيا، تم التأكيد مرارًا على ضرورة كسب صداقة ودعم السكان المحليين، ليس في جورجيا وحدها، بل أيضًا في الخانات المجاورة لها. كما أُوصي ببذل أقصى الجهود لإنهاء الخصومات بين الخانات، ووقف الغارات المتبادلة وأعمال النهب والتخريب.
الحرب الروسية – الإيرانية الأولى (1804–1813م)
معاهدة كلستان (Gulistan)
كانت كلٌّ من روسيا وإيران تطمحان إلى السيطرة على منطقة ما وراء القوقاز، مما أدى إلى انخراط أطراف متعددة في صراع سياسي حادّ، من بينها جورجيا، وأرمينيا، والخانات الإسلامية في الإقليم. وقد أصرّت إيران على إخضاع جورجيا بأي ثمن، والحفاظ على نفوذها في الخانات الإسلامية، التي كانت طهران تعتبرها جزءًا لا يتجزأ من أراضي الدولة الإيرانية. من جهة أخرى، كانت روسيا تمضي في سياسة التوسّع داخل المنطقة ذاتها، ما جعل نشوب حرب بين الطرفين أمرًا لا مفر منه.
في سياق التحضير للحرب، حاولت إيران تشكيل تحالف مناهض لروسيا يضم الدولة العثمانية والخانات الإسلامية في القوقاز. ففي عام 1803م، أرسلت إيران عملاءها إلى القسطنطينية لاقتراح تحالف عسكري ضد روسيا. كما ورد في الفرمانات التي بعث بها الشاه إلى مختلف مناطق القوقاز، إعلان عن حملة عسكرية وشيكة على جورجيا. في الوقت ذاته، سعت إيران إلى كسب دعم فرنسا وبريطانيا.
وفي عام 1793م، أرسلت فرنسا بعثة دبلوماسية إلى طهران، إلا أن هذه البعثة انتهت إلى الفشل. وبعد توسّع فرنسا في أوروبا وحملتها العسكرية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، توحّدت كلّ من بريطانيا، النمسا (Austria)، روسيا، والدولة العثمانية ضمن التحالف الأوروبي المناهض لفرنسا عام 1798م. وقد شعرت بريطانيا بقلق بالغ من التقارب الفرنسي–الإيراني، إذ رأت في خطط نابليون تهديدًا مباشرًا لمصالحها في الهند.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1800م، وصل إلى طهران الكابتن جون مالكوم (Captain John Malcolm) ممثلًا عن الحكومة البريطانية، بصحبة موكب كبير وقوة عسكرية. وقد أفضت مفاوضاته مع الحكومة الإيرانية إلى توقيع معاهدة سياسية وتجارية في كانون الثاني 1801م. ووفقًا للاتفاق السياسي، تعهّدت إيران بالتدخل عسكريًّا ضد أفغانستان إذا هاجمت الأخيرة الهند. وفي المقابل، وعدت بريطانيا بتزويد إيران بالسلاح وتقديم دعم عسكري مباشر في حال تعرّضها لهجوم من قبل أفغانستان أو فرنسا. كما التزمت السلطات الإيرانية بطرد جميع الرعايا الفرنسيين من البلاد. أما الاتفاق التجاري، فقد منح البريطانيين امتيازات واسعة في السوق الإيرانية.
وقد تدهورت العلاقات الروسية–الإيرانية بشكل حاد في مطلع القرن التاسع عشر. ففي أيار/ماي 1804م، طالب الشاه فتح علي (Fath-Ali Shah Qajar) بانسحاب فوري للقوات الروسية من جورجيا ومن خانية كنجه (Ganja Khanate)، وهو ما شكل ذريعة لاندلاع الحرب الروسية–الإيرانية الأولى.
كان القائد العام للقوات الإيرانية هو عباس ميرزا (Abbas Mirza)، ابن الشاه وولي عهده، الذي كان قد تولى حكم إقليم أذربيجان (Azerbaijan). وقد أصبح هذا الإقليم الغني تقليديًّا بمثابة الإقطاعية الخاصة بولي العهد الإيراني (ولي عهد)، يوفّر له الموارد المالية اللازمة ويُعِدّه لتولّي شؤون الحكم.
كان عباس ميرزا قائدًا عسكريًا متميزًا، ودبلوماسيًا وإداريًا بارعًا. وقد أدرك ضرورة النهوض بالقوة الإنتاجية لإيران، وإعادة تنظيم الجيش، وإجراء إصلاحات واسعة في جهاز الدولة، وهو ما سعى إلى تحقيقه. لكنّ جهوده واجهت معارضة شديدة من النخبة الحاكمة ورجال الدين الشيعة، الذين وقفوا ضد أفكاره الإصلاحية التقدميّة.
بداية الحرب الروسية–الإيرانية الأولى (1804–1813م)
بدأت الحرب في حزيران 1804م بدخول القوات الروسية إلى كنجه (Ganja) .في المقابل، حشدت إيران جيشًا قوامه نحو 40 ألف جندي بقيادة ولي العهد الأمير عباس ميرزا في محيط مدينة تبريز.
وقد أرسلت السلطات الإيرانية عددًا كبيرًا من الوكلاء إلى مختلف مناطق ما وراء القوقاز، حاملين نداءات من عباس ميرزا، أعلن فيها نية إيران الزحف نحو كنجه وجورجيا لطرد “الكفار” من المنطقة. كما طالبت طهران جميع الخانات في الإقليم بإعلان الولاء والمساعدة في مواجهة الروس.
وكان في معسكر عباس ميرزا الأمير الجورجي ألكسندر باغراتيوني (Alexander Bagrationi)، نجل الملك إيراكلي الثاني (Erekle II)، الذي فر إلى إيران واعترفت به السلطات هناك حاكمًا شرعيًا (وليًا) على جورجيا.
الخطّة العسكرية الإيرانية
كانت الخطة العسكرية الإيرانية تقضي بشنّ هجوم مزدوج من اتجاهي قره باغ (Karabakh) وإيروان – يريفان اليوم، بحيث تتقدم قوات عباس ميرزا وتخترق جورجيا، يتبعها دخول جيش الشاه لاستعادة الهيمنة الإيرانية على جورجيا وكافة الخانات القوقازية.
لكن القوات الروسية في المنطقة كانت محدودة نسبيًا. ورغم ذلك، قرر بافل دميتريفيتش تسيتيانوف (Pavel D. Tsitsianov)، القائد العام للجيش الروسي في جورجيا، عدم تفريق قواته وبدء هجوم مضاد. فحاصر مدينة إيروان، حيث كانت متمركزة قوات إيرانية كبيرة تبلغ حوالي 35 ألف جندي، في حين لم يتجاوز عديد القوات الروسية المشاركة في الحصار 4 آلاف مقاتل.
استمر الحصار من تموز إلى أيلول 1804م، لكنه انتهى بالفشل بسبب نقص الإمدادات الغذائية، وظهور أوبئة، واندلاع انتفاضات معادية للروس في كل من أوسيتيا (Ossetia) وبامباك (Pambak)، وهي المناطق التي دخلتها القوات الإيرانية بقيادة الأمير ألكسندر. اضطر تسيتيانوف إلى فك الحصار والانسحاب.
المكاسب الروسية حتى عام 1806
رغم هذه الإخفاقات، تمكنت القوات الروسية بحلول عام 1806م من السيطرة على معظم أراضي القوقاز، باستثناء خانية إيروان وخانية ناخيتشيفان (Nakhichevan Khanate). كما انضم حكام خانات شكي (Shaki) وشيروان (Shirvan) وقره باغ (Karabakh) إلى الجانب الروسي. وفشلت القوات الإيرانية في شن أي هجوم مضاد مؤثر.
بنهاية عام 1806م، توقفت العمليات العسكرية بشكل فعلي بين الروس والإيرانيين، وتحولت الحرب إلى نزاع طويل الأمد. ذلك أن روسيا كانت قد دخلت في التحالف المناهض لنابليون، ولم تتمكن من إرسال تعزيزات إضافية إلى جبهة القوقاز، بينما لم تمتلك إيران القوة الكافية لطرد الروس من جورجيا والخانات الإسلامية.
السياسة الدولية وتحولات في التحالفات
خيّبت بريطانيا آمال إيران في الحصول على الدعم، رغم وعودها السابقة، إذ فضّلت الحفاظ على تحالفها مع روسيا في مواجهة الخطر الفرنسي، ورفضت التصعيد ضد بطرسبورغ. فأقدم الشاه على قطع العلاقات مع بريطانيا وبدأ التقارب مع فرنسا. وفي 4 أيار/ماي 1804م، تم توقيع معاهدة فرنسية–إيرانية، تعهّد فيها نابليون بونابرت بـضمان سلامة الأراضي الإيرانية، والاعتراف بـ جورجيا كجزء شرعي من أراضي الشاه، إضافة إلى الضغط على روسيا لإجبارها على الانسحاب من القوقاز، وكذلك تزويد إيران بالسلاح وإرسال ضباط فرنسيين لتدريب الجيش الإيراني. في المقابل، التزم الشاه بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع بريطانيا.
النتيجة المباشرة الوحيدة لهذه المعاهدة كانت وصول بعثة عسكرية فرنسية إلى إيران بقيادة الجنرال كلود ماتيو دو غاردان (Claude-Matthieu Gardane)، وبدأت فعليًا إعادة تنظيم الجيش الإيراني. وفي كانون الأول 1807م، وقع غاردان أيضًا اتفاقية تجارية منحت فرنسا امتيازات اقتصادية حصرية في إيران.
تدهور العلاقات الروسية–التركية
في هذه الأثناء، تصاعد التوتر بين روسيا والدولة العثمانية، واندلعت الحرب الروسية–التركية عام 1806م. ولم يكن بمقدور الحكومة الروسية خوض حرب مزدوجة ضد كل من إيران وتركيا في آنٍ واحد، خاصة وأن فرنسا كانت تحرّض الطرفين على تشكيل تحالف عسكري ضد روسيا.
بضغط من نابليون، أرسلت الدولة العثمانية مبعوثًا إلى طهران للتفاوض على تشكيل تحالف ثلاثي. وقد استجابت إيران للمبادرة، بهدف كسب الوقت، وبدأت أولى عروضها للتفاوض في أيلول 1806م.
مفاوضات السلام مع إيران وفشل الوساطة الفرنسية (1807–1808م)
لم تسفر مفاوضات المبعوث الروسي الرائد ستيبانوف (Stepanov)، الذي أُرسل إلى بلاط طهران مطلع عام 1807م، عن أي نتائج، إذ رفضت الحكومة الإيرانية توقيع هدنة، وطالبت بتوقيع معاهدة سلام بشرط إعادة جميع أراضي ما وراء القوقاز ، وداغستان ، وكامل الأراضي حتى كيزليار (Kizlyar) إلى السيادة الإيرانية.
أثارت الحرب التي اندلعت بين روسيا والدولة العثمانية آمالًا لدى الشاه الإيراني ومحيطه في استغلال الوضع لصالحهم. وبدأت الحكومة الإيرانية في المماطلة في المفاوضات، بالتزامن مع التحضير لاستئناف العمليات العسكرية ضد الروس.
لكن الهزيمة القاسية التي مُني بها الجيش العثماني في معركة نهر آرباتشاي (Arpachay) يوم 18 حزيران 1807م أجبرت إيران على تليين مواقفها وسحب قواتها إلى منطقة ناخيتشيفان. ومع ذلك، لم تكن طهران مستعجلة لتوقيع هدنة مع روسيا، إذ لا تزال تعوّل على الدعم الفرنسي.
كان القائد العام الروسي إيفان فاسيلييفيتش غودوفيتش (Ivan V. Gudovich) مدركًا بأن الشاه يؤخّر المفاوضات استنادًا إلى وعود نابليون بالتدخل لصالح إيران في النزاع الروسي–الإيراني.
موقف روسيا من الحدود
كان موضوع توقيع معاهدة سلام مع إيران محل نقاش مكثف في الدوائر الدبلوماسية والعسكرية الروسية. وتحديد الحدود الروسية–الإيرانية كان النقطة الأكثر حساسية. وقد اتفقت معظم الآراء على أن المصلحة الروسية تقتضي إقامة حدود برية طبيعية مع إيران، على أن تمر هذه الحدود عبر أنهار كورا (Kura) وأراكس (Araxes) وآرباتشاي (Arpachay) .
كما ورد في مذكرة روسية: “إذا لم نتمكن من الحصول على هذه الحدود الآن، يجب أن نبقيها في حسباننا كهدف استراتيجي في المستقبل؛ فقد تجاوزنا بالفعل أول الحدود الطبيعية عبر نهري كوبان (Kuban) وتيريك (Terek)“. وكانت هذه الحدود الطبيعية تمنح روسيا مزايا أخرى، منها السيطرة على خانية إيروان (Erivan Khanate)، التي كانت حصنًا استراتيجيًا قويًا وموقعًا ممتازًا للعمليات العسكرية.
المبادرة الروسية للتفاوض
في مآذار 1808م، أرسلت الحكومة الروسية مبعوثًا إلى طهران برسائل موجهة إلى عباس ميرزا ، ووزيره ميرزا بوزرك (Mirza Bozorg)، وصدر الأعظم ميرزا شفيع (Mirza Shafi’)، اقترحت فيها توقيع معاهدة سلام وتثبيت الحدود على طول أنهار كورا، وأراكس، وآرباتشاي، بما يعني ضمّ خانيتي إيروان وناخيتشيفان إلى الإمبراطورية الروسية.
الرد الإيراني وطرح الوساطة الفرنسية
وافق الشاه على فكرة التفاوض، لكنه اشترط إجراء المفاوضات في باريس، بوساطة نابليون بونابرت، بين السفير الروسي بيوتر ألكسندروفيتش تولستوي (P.A. Tolstoy) والسفير الإيراني عسكر خان (Askar Khan).
وكانت الشروط الإيرانية الأساسية هي أن تعود كل من الطرفين إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الحرب، أي اعتبار جورجيا، والخانات القوقازية، وداغستان أراضي تابعة لإيران.
أما بخصوص رسم الحدود، فقد أعلنت الحكومة الإيرانية أنها تُفوِّض نابليون بشكل كامل لتحديد خط الترسيم، باعتباره حليفًا سيحمي مصالح إيران. وقد جاء في الوثائق الإيرانية: جلالة إمبراطور الفرنسيين مخوّل من قبل الدولة الفارسية بتحديد خط الترسيم الحدودي بين فارس وروسيا.
الرفض الروسي للوساطة الفرنسية
رفضت الحكومة الروسية تمامًا الوساطة الفرنسية وأعلنت رفضها التفاوض في باريس. وأُبلغ السفير الفرنسي في سانت بطرسبرغ، أرمان دو كولينكور (Armand de Caulaincourt) أن العلاقات بين روسيا وإيران شأن روسي داخلي بحت. وفي تعليقه على المطالب الإيرانية، وصف الإمبراطور ألكسندر الأول (Alexander I) هذه المطالب بأنها “جنونية”، وقال لكولينكور: “لا أفهم لماذا، وبأي منطق، يقترح الإيرانيون وساطتكم”. وأضاف:” شؤون بلادكم لا تعنيني، كما أن شؤوني مع فارس لا ينبغي أن تهم الإمبراطور”.
هذه الجملة نُسبت إلى الإمبراطور الروسي ألكسندر الأول ، وقد قالها في سياق رده على اقتراح نابليون بونابرت بالتوسط بين روسيا وإيران، مؤكدًا استقلالية القرار الروسي في التعامل مع الشأن الفارسي ورفضه تدخل أي طرف أجنبي، حتى لو كان إمبراطور فرنسا.