روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة السادسة)
د. زياد أسعد منصور
على الرغم من النهاية الرسمية للحرب وتوقيع معاهدة غولستان للسلام، فإن العلاقات بين إيران وروسيا بقيت متوترة. فقد أدّى غموض صياغة بعض مواد المعاهدة إلى عدم تسوية القضايا الحدودية بشكل كامل، إذ لم يتم تثبيت الحدود ميدانيًا على الأرض. وغالبًا ما كانت القبائل الرحل من إيران تعبر خط الحدود خلال موسم التنقل دون أي إذن، مما تسبب في نهب وتخريب المجتمعات المستقرة في تلك المناطق. وكان الالتزام بنظام عبور الحدود يُراعى فقط في الأماكن التي كانت تتمركز فيها الحاميات العسكرية الروسية.
وبتوقيع “الملحق المنفصل”، منحت روسيا إيران فرصة للمطالبة بمراجعة الحدود القائمة واستعادة جزء من الأراضي التي فقدتها. وساهم في ذلك أيضًا أن المعاهدة لم تُصادق عليها روسيا رسميًا إلا بعد عام كامل من توقيعها.
وقد اضطر الشاه إلى المصادقة على المعاهدة تحت ضغط الظروف. وفي أيلول 1814م، جرى تبادل وثائق التصديق في تبليسي بين السفير الفارسي ميرزا عبد الحسن خان والجنرال الروسي ن. ف. رتيشيف. ومع ذلك، ظلّت المعاهدة غير منشورة في روسيا لمدة تقارب الخمس سنوات بعد توقيعها. وفي الوقت نفسه، كانت الحكومة الإيرانية تُجري مفاوضات موازية مع البريطانيين أثناء توقيعها الاتفاق مع روسيا.
بدأ التنافس البريطاني-الروسي في إيران يظهر منذ أواخر القرن الثامن عشر. فقد كانت روسيا تتقدّم بنشاط نحو الجنوب، باتجاه القوقاز وآسيا الوسطى، بينما سعت بريطانيا إلى السيطرة أو فرض نفوذها السياسي على دول الشرقين الأدنى والأوسط. وقد بذل البريطانيون أقصى ما في وسعهم للحيلولة دون ترسيخ النفوذ الروسي في إيران. وكانت معاهدة غولستان للسلام بمثابة ضربة قوية لمخططات بريطانيا التي سعت إلى إخضاع إيران لمصالحها. ولهذا السبب، وقّعت بريطانيا عام 1814م مع إيران معاهدة جديدة، استنادًا إلى اتفاق تمهيدي وُقّع عام 1809م. وكان جوهر هذه المعاهدة موجهًا ضد روسيا.
وبموجبها، تعهّد الشاه الإيراني بإلغاء أي معاهدات وتحالفات مع الدول الأوروبية المعادية لبريطانيا، ومنع عبور جيوش هذه الدول إلى الهند عبر الأراضي الإيرانية، كما التزم باستقدام مدربين عسكريين من بريطانيا فقط لتدريب الجيش الإيراني. وفي المقابل، التزمت بريطانيا بموجب المعاهدة بتقديم الدعم لإيران في حال تعرّضها لهجوم من أي دولة أوروبية، والسعي لإعادة النظر في الحدود الروسية-الإيرانية التي أرستها معاهدة جولستان.
ونتيجة للدعم البريطاني للمشاعر الإيرانية الراغبة في الانتقام واستعادة الأراضي المفقودة، قررت الحكومة الإيرانية إرسال مبعوث إلى سانت بطرسبورغ للتفاوض بشأن إعادة جزء من الأراضي التي انتقلت إلى روسيا. وفي عام 1815م، وصل السفير الإيراني ميرزا عبد الحسن خان إلى سانت بطرسبورغ. وكان من المفترض أن يدعم مطالبه السفير البريطاني في إيران، السير غور أوزلي، الذي وصل خصيصًا إلى سانت بطرسبورغ لهذا الغرض.
إلا أن وزارة الخارجية الروسية لم تكن قد كوّنت رأيًا حاسمًا بشأن إمكانية تقديم تنازلات إقليمية لإيران. وفي مذكرة الرد الموجهة إلى السفير الإيراني بتاريخ 22 مارس 1816م، جاء فيها:
«…لم تكن روسيا هي من تسبب في الحرب الأخيرة، وإنما اضطرت لنقل سلاحها إلى القوقاز دفاعًا عن شعب يشترك معها في العقيدة، في مواجهة عدوان غير عادل من آغا محمد خان، الذي كان يهدد هذا الشعب بالفناء. ولهذا، فإن الإمبراطور لا يمكنه الآن الموافقة على إعادة تلك الأراضي إلى إيران، وهي أراضٍ انضم سكانها طواعية إلى التبعية الروسية».
مهمة الدبلوماسية الروسية في إيران وتعيين يرمولوف مبعوثًا فوق العادة (1816–1819م)
في الوقت نفسه، أُعلن أنه سيتم إرسال مبعوث خاص ومفوّض إلى إيران لحل القضايا الخلافية. وفي 29 حزيران 1816م، عُيِّن الجنرال أليكسي بيتروفيتش يرمولوف — بطل حرب الوطن الروسية عام 1812، وقائد الفيلق القوقازي المستقل، والقائد الأعلى لجورجيا ومحافظات أستراخان والقوقاز — مبعوثًا فوق العادة ومفوّضًا بالكامل لدى إيران.
كانت مهمّة يرمولوف تتضمن تسوية مسألة الحدود الروسية-الإيرانية، والحصول على إذن بإنشاء قنصليات روسية في كل من گيلان وأستراباد، وإقناع إيران، إن أمكن، بالانضمام إلى تحالف ضد الدولة العثمانية. وقد شددت التعليمات الموجهة إلى يرمولوف على أنه إذا حافظت إيران على حيادها، فإن روسيا بدورها ستتخذ موقف الحياد في جميع الحروب التي قد تخوضها إيران، وستسعى إلى الحفاظ على علاقات ودية معها، لكنها في الوقت ذاته لن تسمح بتدخل بريطانيا في الشؤون الروسية-الإيرانية.
وقد مُنح يرمولوف صلاحيات واسعة، حيث خُوّل باتخاذ قرارات منفردة بشأن قضايا الحدود، والاعتراف بعباس ميرزا وليًا للعهد، وتوقيع تحالفات محتملة، وغير ذلك من الأمور. ولم يكن هناك حد زمني لإقامته في إيران، كما سُمِح له ولأعضاء البعثة بالتنقل في البلاد ما لم تعارض الحكومة الإيرانية ذلك.
وفي عام 1817م، استقبل الشاه الوفد الروسي الفخم برئاسة يرمولوف استقبالًا رسميًا. وكان من بين أهم المهام الموكلة إليه إنشاء بعثة دبلوماسية دائمة في إيران. وبعد وصوله، بدأ مفاوضات بشأن إقامة بعثة دائمة لدى بلاط عباس ميرزا أو لدى الشاه نفسه. وقد ردّ الصدر الأعظم ميرزا على يرمولوف في 17 أيلول 1817م قائلاً إن معظم القضايا والعلاقات المتبادلة بين القوتين العظميين تتعلق بالشؤون الحدودية، لذلك فمن المناسب أن تكون البعثة الروسية مقيمة في تبريز أو تفليس، مع إمكانية التنقل إلى العاصمة عند الضرورة أو في بداية كل مهمة جديدة.
وقد اقترح يرمولوف أن تتكوّن البعثة من قائم بالأعمال، وسكرتير، واثنين أو ثلاثة شبّان يتعلمون اللغة الفارسية. وكان أول قائم بالأعمال الروس في إيران بين عامي 1818 و1826م هو س. إ. مازاروفيتش، أما السكرتير فكان ألكسندر سيرغييفيتش غريبويدوف.
ووصلت البعثة الروسية إلى إيران في كانون الثاني 1819م، حيث استُقبلت من قبل ولي العهد عباس ميرزا. وفي 1 مارس 1819م، استقبل الشاه يرمولوف في مقر إقامته الصيفي بمدينة سلطانية، إذ كان قد غادر طهران بسبب شدة الحر. وقبل اللقاء، جرت مراسلات مطوّلة حول الترتيبات البروتوكولية ودخول البعثة إلى سلطانية، حيث نوقشت أدق التفاصيل المتعلقة بمراسم الاستقبال والمثول أمام الشاه. وقد أسفرت مثابرة يرمولوف عن نتائج إيجابية، إذ أُرسي أساس لنظام استقبال مستقبلي للموفدين الروس. واضطر البلاط الإيراني إلى التخلي عن عدد من التقاليد الشرقية في الاستقبال مثل خلع الحذاء، وتقبيل القدم أو الثياب، والانحناء الكامل للركبتين، وهي طقوس لم يعترض عليها مبعوثو الدول الأخرى.
وفي الرسالة الإمبراطورية التي سلّمها يرمولوف إلى فتح علي شاه، أكد القيصر ألكسندر الأول على الرغبة الصادقة في الحفاظ على السلام “بقدسية وثبات”، وعدم إعطاء أدنى ذريعة لخرق السلم أو الإخلال بعلاقات حسن الجوار والصداقة. كما أُرسلت رسالة خاصة من الإمبراطورة الروسية إلى زوجة الشاه.
مهمة يرمولوف وتحديات البعثة الروسية في إيران
لقد حظيت بعثة يرمولوف الروسية بمعاملة تفضيلية مقارنةً بسائر المبعوثين الأوروبيين. وقرر الشاه أن يكون مقر البعثة الروسية في مدينة تبريز، بالقرب من ولي العهد عباس ميرزا، الذي كانت كل شؤون الحدود مع روسيا تحت إشرافه. والجدير بالذكر أن البعثة البريطانية أيضًا كانت موجودة في تبريز.
كان من مهام القائم بالأعمال الروسي، س. إ. مازاروفيتش، السهر على تنفيذ بنود معاهدة جولستان، وتعزيز التجارة بين روسيا وإيران، وتمثيل النفوذ الروسي داخل إيران، ومحاولة التصدي — قدر الإمكان — لأعداء روسيا (ويقصد بذلك الإنجليز).
أجمع جميع الدبلوماسيين الروس والأشخاص الذين زاروا إيران خلال السنوات الأولى بعد الحرب على أن العيش والعمل في إيران كان في غاية الصعوبة. فقد كانت المفاوضات مع الدبلوماسيين الإيرانيين بالغة التعقيد، حيث كانوا يماطلون في حسم القضايا، ويؤجلون النظر فيها، ويعودون مرارًا إلى قضايا سبق الاتفاق بشأنها، ويرددون نفس الأسئلة والمطالب، ويلجؤون كثيرًا إلى “مداخلات عاطفية” أو غير مباشرة. لم تكن هذه الأساليب عشوائية، بل كانت متعمّدة من الجانب الإيراني، بهدف كسب الوقت، وانتظار تغيّرات محتملة في الوضع العام، وإرهاق الجانب الروسي نفسيًا ودبلوماسيًا، لزعزعة مواقفه.
أما مسألة فتح قنصليات روسية في إيران فكانت أكثر تعقيدًا. فقد رفضت الحكومة الإيرانية منح روسيا الإذن بإنشاء قنصليات في المدن الإيرانية. وأثناء مفاوضات معاهدة جولستان نفسها، أعرب المفاوض الإيراني عن رفض بلاده لفكرة وجود قناصل روس على أراضيها. رغم أن المادة السابعة من المعاهدة نصّت على أحقية كلا الطرفين بتعيين قناصل في المدن المحلية، فإن الحكومة الإيرانية عرقلت فتح قنصلية روسية في گيلان، وهي منطقة ذات صلات تجارية واقتصادية وثيقة بروسيا.
وقد رفض الشاه بشكل قاطع تعيين قنصل روسي في گيلان، وقال في هذا السياق:”…إذا أُجبرنا على السماح بوجوده (أي القنصل الروسي) في گيلان، فإن هذه الولاية ستكون ضائعة بالنسبة لي؛ فأهالي گيلان ميالون للعصيان والتمرد”. واقترح الشاه أن يكون مقر القنصل في طهران أو قزوين أو تبريز.
وقد صدر مرسوم إمبراطوري روسي في 8 تشرين الأول 1821م بإنشاء منصب قنصل عام في إيران. وكان من المفترض أن يرافق القنصل العام سكرتير واثنان من الطلاب المتدربين. وقد أُنشئت القنصليات بهدف “رعاية الشؤون التجارية وتذليل الصعوبات التي قد يواجهها رعايانا في المدن والموانئ التابعة للدولة الفارسية حيث يزاولون نشاطهم التجاري”.
وقد تم تعيين ياكوف ك. فاتسينكو قنصلًا عامًا، إلا أنه لم يتمكن من مباشرة مهامه بسبب استمرار الخلاف مع إيران حول مكان إقامة القنصلية الروسية. ولتجنّب المزيد من التوتر مع إيران، قررت الحكومة الروسية تقديم تنازل بعدم الإصرار على فتح القنصلية في گيلان، والبحث عن مدينة أخرى بديلة. وفي عام 1825م، اقترح يرمولوف إقامة القنصلية في تبريز ونقل البعثة الدبلوماسية إلى طهران.
وخلال الحرب الروسية-الإيرانية الأولى، وقع عدد كبير من الجنود الروس في الأسر الإيراني. كما تم أسر بعض رعايا الإمبراطورية الروسية من سكان القوقاز المحليين خلال الغارات. وبحسب المادة السادسة من معاهدة جولستان، كان يجب إعادة جميع الأسرى في غضون ثلاثة أشهر، على أن يُخيّر الهاربون والمجرمون بين العودة أو البقاء.
لكن في النسخة الفارسية من المعاهدة، صيغت المادة بطريقة مختلفة، تنص على أن عودة الأسرى والهاربين تكون فقط برغبتهم. ونتيجة لذلك، لم يُعاد سوى عدد محدود من الأسرى بعد توقيع السلام، فيما بقي الباقون في إيران.
بل إن بعض هؤلاء الأسرى والدزرتير (الفارين من الخدمة العسكرية) شكلوا، خلال الحرب نفسها، ما عُرف باسم “الكتيبة الروسية”، تحت قيادة س. ماكانتسيف. وقد اعتبر عباس ميرزا هذه الكتيبة من أكثر وحدات الجيش الإيراني كفاءة، واستخدم الجنود الروس كمدربين عسكريين، وكان يخطط للاعتماد عليهم في صراعه على العرش. لذلك لم تلقَ مطالب المبعوثين الروس بإعادة الأسرى أي استجابة فعلية من الجانب الإيراني.
أوضاع الأسرى والعلاقات الإيرانية-القوقازية بعد الحرب الروسية-الإيرانية
كان البريطانيون يحرصون على إظهار تعاطفهم العلني مع الفارّين الروس، وقد بلغ الأمر أن البعثة البريطانية بكامل أعضائها زارت ما يُعرف بـ”الكتيبة الروسية” في إيران بمناسبة رأس السنة الروسية، في بادرة استعراضية تهدف إلى كسب ود الجنود المنشقين.
وقد استمرت المفاوضات بين روسيا وإيران بشأن قضية الأسرى عدة سنوات. وفي عام 1819م، أُعيد فقط 256 أسيرًا إلى تبليسي، برفقة سكرتير البعثة ألكسندر غريبويدوف. ومن ناحية أخرى، لم تعارض السلطات الروسية انتقال السكان من القوقاز إلى إيران، لكنها كانت ترفض توطينهم على الحدود بين البلدين.
أما فيما يخص الأسرى الإيرانيين، فقد أُتيح لهم جميعًا خيار العودة إلى وطنهم. في المقابل، كانت السلطات الإيرانية تضع العراقيل أمام عودة الأسرى الروس والفارّين، كما عملت على منع الأرمن والمسلمين الراغبين في الانتقال إلى القوقاز الروسي من المغادرة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، هجرة قبيلة الشاهسَڤَن، التي انتقل منها حوالي ألفي عائلة إلى أراضي الإمبراطورية الروسية. لكن بعض أفراد القبيلة ظلوا تحت سلطة الشاه، وبتشجيع من الحكومة الإيرانية، قاموا بالدعاية المضادة لروسيا بين أبناء قبيلتهم الذين انتقلوا إلى الجانب الروسي، وحثّوهم على العودة إلى إيران.
وأثناء تنقلات القبائل الشاهسڤنية التي استقرت في روسيا، كانت مجموعات منها تعود إلى إيران وتقوم بعمليات سلب ونهب ضد السكان المحليين وتسرق الماشية أثناء رحلاتها. ولهذا السبب، أصدر يرمولوف في عام 1821م أمرًا بإبعاد جميع أفراد قبيلة الشاهسڤَن من الأراضي الروسية، حتى أولئك الذين أعربوا عن رغبتهم في البقاء. ومع ذلك، لم يُحسم ملف الأسرى والمنشقين، وظل معلقًا إلى أن أُعيد طرحه من جديد بعد توقيع معاهدة تركمانچاي.
وبعد انتهاء الحرب الروسية-الإيرانية، لم تكن إيران قد قبلت بعد واقع تبعية شعوب القوقاز لروسيا، بل اتسم موقفها بالغموض والرفض الضمني. إذ استمرت في دعم، بل وقيادة، الحركات المعادية لروسيا في منطقة القوقاز. وقد حظيت هذه الحركات بدعم كبير من علماء الدين المسلمين الذين رفعوا شعار إقامة دولة دينية إسلامية في القوقاز. وكانت فكرة مقاومة روسيا تُبنى على أسس دينية، تحت راية (المريدية)، التي رفعت شعار “الجهاد المقدس” ضد روسيا.
وكان أغلب حكام الخانيات القوقازية يدينون بالولاء لإيران، خوفًا من فقدان امتيازاتهم في حال انضمامهم للإمبراطورية الروسية. وقد وفّر لهم عباس ميرزا، ولي عهد إيران، الدعم والرعاية، وكان موقفه معاديًا بشدة لروسيا. فدعم الأمير الجورجي ألكسندر، وساند خانات أذربيجان، ديربند، شروان، قرهباغ وغيرها، وقدم لها التمويل اللازم لخوض حرب ضد روسيا.
أما في داغستان، فقد كانت بعض الخانيات تتواصل مع كل من إيران والدولة العثمانية، طمعًا في الاستفادة من التنافس بينهما للحفاظ على استقلالها. أما إمارة إيميريتي فقد أُلحقت هي الأخرى بروسيا، رغم أن ملكها، سولومون الثاني، الذي توفي عام 1815م في تركيا، لم يعترف مطلقًا بشرعية هذا الانضمام. كما كانت إمارات غوريا ومانغريليا وأبخازيا في حالة تبعية شكلية لروسيا بموجب اتفاقيات مبرمة. في حين لم يكن النفوذ الروسي قد وصل بعد إلى مناطق تسيبيلدا وسفانيتي.
أما الشعوب التي كانت تقيم خلف نهري تيريك وكوبان، فلم تكن تعترف بسلطة روسيا مطلقًا.
وفي المجمل، فإن لا السلطات الإيرانية ولا الشعب الإيراني كانوا يعتبرون مسألة ضم أجزاء من القوقاز إلى روسيا أمرًا نهائيًا أو مقبولًا. وظلت إيران تغذي في أوساط السكان المحليين الأمل في استعادة سلطة الشاه على هذه الأراضي في المستقبل القريب.
الحدود الروسية-الإيرانية ومسألة خلافة عباس ميرزا
كثيرًا ما وقعت حوادث على الحدود الروسية-الإيرانية، الأمر الذي دفع الجنرال أليكسي يرمولوف إلى إصدار تعليمات للسلطات الروسية في منطقة ما وراء القوقاز بعدم استقبال أي من الرحّل القادمين من إيران، مع السماح فقط بعودة السكان السابقين القادرين على العيش حياة مستقرة. وقد كانت هذه التدابير تهدف إلى تجنّب أي صدامات حدودية مستقبلاً.
من الناحية السياسية، كان اعتراف روسيا بأسرة القاجار كأسرة حاكمة في إيران ذا أهمية كبيرة بالنسبة للإيرانيين. وقد وافقت الحكومة الروسية على إدراج مادة في معاهدة السلام تُقرّ بـ«الاعتراف بالشاه الحالي لإيران فتح علي شاه في مقامه العالي والمجيد كواحد من الشاهات المتوجين، وفقًا للتقاليد القديمة في إيران».
لكن خلال مفاوضات السلام عام 1813م، رأى المفاوض الإيراني أن تأكيد مقام الشاه في نص المعاهدة أمر غير ضروري، لأن الشعب الإيراني قد اعترف بالفعل بشرعية حكم فتح علي شاه. ورغم ذلك، تضمّنت المادة الرابعة من معاهدة جولستان بندًا ينص على الاعتراف بالسلطة الوراثية لسلالة القاجار.
وقد سعى عباس ميرزا، ولي عهد إيران، للحصول على اعتراف رسمي من روسيا بأنه الوريث الشرعي للعرش الإيراني. إلا أن الشاه اقترح أن تتم صياغة المادة بشكل أكثر مرونة، بحيث يُعترف بوريث العرش من بين أبناء فتح علي شاه، ذلك الذي سيختاره لاحقًا.
وقد كانت هذه الصياغة أنسب لروسيا، لأنها منحتها مرونة لدعم المرشح الذي تراه مناسبًا من بين الأمراء الإيرانيين، بمن فيهم عباس ميرزا إذا كانت الظروف مواتية.
ومن المهم الإشارة إلى أن مسألة خلافة عباس ميرزا عادت للظهور مجددًا بعد الحرب الروسية-الإيرانية الثانية. ففي أثناء مفاوضات السلام عام 1827م، طالب عباس ميرزا بإدراج مادة تعترف به وريثًا شرعيًا للعرش، واقترح تعديلًا ينص على أن تقدم له روسيا دعمًا مسلحًا في حال احتاج إلى تأمين توليه العرش.
لكن المفاوضين الروس رفضوا هذا الطلب. وقد جاء في مرسوم القيصر نيكولاي الأول بتاريخ 29 نوفمبر 1827م ما يلي: ” …في معاهدة جولستان تم الحديث عن الوريث الذي سيعينه الشاه، أما المفاوضات الحالية فتتناول مسألة الخليفة… ولسنا مترددين في الاعتراف بعباس ميرزا وريثًا للعرش، لكننا نرفض بشكل قاطع الالتزام بضمان استمراره في اعتلاء العرش بالقوة”.
أما المهمة الأهم التي أوكلت إلى بعثة يرمولوف فكانت تسوية مسألة الحدود الروسية-الإيرانية. فقد كان موضوع ترسيم الحدود هو السبب الرئيسي في تدهور العلاقات بين روسيا وإيران قبيل اندلاع الحرب الثانية، بل يُعد السبب الأهم لاندلاعها.
أما القضايا الأخرى، رغم أهميتها في العلاقات بين البلدين، فقد كانت أقل أولوية وتابعة للملف الحدودي.
وفي التعليمات الرسمية الموجهة إلى يرمولوف، حُدد الهدف الروسي على النحو التالي: «…تحديد الحدود عبر الأنهار: كورا، أراكس، وأركتشاي… إلا أن الظروف اضطرتنا للموافقة على ترسيم الحدود بناءً على اتفاقات إجرائية، وهو ما يؤدي إلى صعوبات كبيرة مقارنةً بالحدود الطبيعية. وعلى كل حال، إذا كان لا بد من تقديم تنازلات لإيران، فيجب أن تكون فقط على حساب مناطق طالش أو قرهباغ، وليس خانية گنجه».
