روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة الثامنة)

روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة الثامنة)

د. زياد أسعد منصور

          استمرَّت الحكومة الإيرانية في اعتبار الأراضي التي انتقلت إلى الإمبراطورية الروسية أراضيَ تابعةً لها بصورة شرعية، ولم تفقد الأمل في استعادتها، مطالبةً بإعادة النظر في الحدود، استناداً إلى ما أُطلق عليه «الاتفاق الانفرادي، أو من جهة واحدة.

وعند وصوله إلى القوقاز، لم يُسارع الجنرال أليكسي يرمولوف (Aleksey Yermolov) إلى حلّ مسألة ترسيم الحدود، بل اتبع سياسة “السلوك الحذر” تجاه الشاه الإيراني. وبحلول أوائل شهر كانون الثاني من عام 1817، تمّت معاينة الحدود، حيث قدّم يرمولوف دراسة ووصفاً لها وأرفقها بخريطة توضّح خطوط الترسيم.

أمّا فيما يتعلّق بالمطالب الإيرانية، فقد توصّل يرمولوف إلى نتيجة مفادها أنَّه لا ينبغي التنازل عن أي جزء من الأراضي. واعتبر أنه من غير المعقول تسليم خانية تاليش (Talysh)، كما يطلب عباس ميرزا ، مقابل أي جزء من أذربيجان، نظراً لأنَّ تلك الخانية كانت تحت الحماية الروسية منذ أكثر من عشرين سنة.

في الوقت ذاته، كانت هناك أراضٍ في إقليم بامباك (Pambak) وحول بحيرة غوكجه ((Gökche المعروفة اليوم باسم سيفان – Sevan)، احتلّتها القوات الروسية، رغم أنَّها، وفقاً للمعاهدة، كان من المفترض أن تبقى تحت السيادة الإيرانية. وبالمقابل، احتلَّ الجانب الإيراني منطقةً قُرب مدينة موغري (Mughri ، والتي كانت تابعة لروسيا.

واقترح يرمولوف الإبقاء على المناطق التي استولت عليها كل من الطرفين في حوزة الطرف المُسيطر عليها، كأمر واقع.

وقد تمكّن يرمولوف من إقناع الشاه بالتراجع عن مطالبته بإعادة النظر في معاهدة غوليستان (Gulistan)، وتم الاتفاق على تحديد موعد لبدء ترسيم الحدود في عام 1818. غير أنَّ تنفيذ هذا الاتفاق لم يتم لا في عام 1818، ولا في الأعوام التالية، وذلك بسبب تغيّر موقف الشاه، الناتج عن التحضير لحرب جديدة مع الدولة العثمانية بين عامي 1821 و1823.

ورغم تحقيق إيران لبعض النجاحات العسكرية، فإنّ نتائج الحرب لم تكن في صالحها بشكل كبير. ومع ذلك، وأثناء تحضيرها لحرب مستقبلية مع روسيا، كانت الحكومة الإيرانية تأمل في الحصول على دعم عثماني، ولهذا لم تُصرّ على شروط سلام أكثر فائدة.

وقد تم توقيع اتفاقية أرضروم في 28 تموز 1823، والتي نصّت على الإبقاء على الحدود السابقة بين إيران والدولة العثمانية.

وفي صيف عام 1823، أرسل عباس ميرزا رسالة إلى يرمولوف يقترح فيها البدء بأعمال ترسيم الحدود. ومنذ ذلك الحين، بدأت اللجان المختصة أعمالها لتحديد الحدود بين الإمبراطورية الروسية وإيران.

وقد عُيّن ميرزا محمد علي مصطفى مفوضاً من قبل الحكومة الإيرانية، في حين ترأس اللجنة الروسية كلٌّ من يرمولوف، وموغيليفسكي (Mogilevsky)، وصاديكوف (Sadykov).

لكن نتيجةً لرفض المسؤولين الإيرانيين التطرّق إلى جوهر القضايا، ولتصرفات عباس ميرزا الذي كان متمركزاً عند الحدود وادّعى أنّ روسيا تستولي ظلماً على أجزاء من تاليش، تصاعد التوتر بين الجانبين.

وفي وقت لاحق، رفضت إيران مواصلة معاينة الحدود، واشترطت ثلاثة مطالب لمتابعة العملية:

  1. تسوية النزاعات في المناطق التي تمّت معاينتها مسبقاً؛
  2. عدم تبادل أي ملاحظات رسمية بشأن الترسيم، وحصر النقاشات في لقاءات مباشرة ميدانية؛
  3. في حال تعذّر حل القضايا في الميدان، نقل المفاوضات إلى مدينة تبليسي أو تبريز تبريز.

وعندما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، خصوصاً فيما يتعلّق بالنزاع حول مجاري أنهار كاباناك تشاي (Kapanak-chay) وموغري تشاي (Mughri-chay)، والأراضي التابعة لـكاراباخ ، ومسألة اعتبار نهر تشوغوندور (Chugundur) حدّاً فاصلاً، وقضية خانية تاليش، طلبت اللجنة الروسية تدخّل عباس ميرزا لحلّ الخلاف. ومع ذلك، فإنَّ اللقاء المباشر بين المفوّضين الروس ووليّ العهد لم يسفر عن أي تغيّر في موقف إيران.

محاولات إيران لاستعادة نفوذها في القوقاز وجهود روسيا في تثبيت حدودها

قام عباس ميرزا، ولي عهد إيران، بإرسال عملائه إلى المناطق التي انتقلت إلى السيادة الروسية بموجب معاهدة غوليستان، وتحديدًا إلى خانية شيروان، وخانية كاراباخ، وداغستان. وكان الهدف من ذلك هو التحريض على انتفاضة مسلّحة ضد السلطات الروسية.

وباسم الشاه الإيراني وعباس ميرزا، تم تقديم مبلغ قدره عشرون ألف روبل لبعض خانات داغستان الذين رفضوا الخضوع للسيادة الروسية.

وفي إطار سعيها لخلق ذريعة للحرب، عمدت الحكومة الإيرانية إلى إثارة حوادث مختلفة على الحدود الإيرانية – الروسية، على أمل أن تُستخدم تلك الحوادث كتبرير لشنّ عمليات عسكرية مفتوحة ضد روسيا.

ورغم الجهود الحثيثة التي بذلها الجنرال فاسيلي يرمولوف، إلا أنه لم يتمكّن من حسم مسألة ترسيم الحدود بشكل نهائي، كما لم ينجح في فرض إنشاء قنصليات روسية داخل إيران، أو في استرجاع الأسرى والفارّين، أو في تقويض النفوذ البريطاني داخل البلاط الإيراني.

ومع ذلك، أفضت المفاوضات في تلك المرحلة إلى نوع من التهدئة المؤقتة في العلاقات الروسية – الإيرانية، حيث ظهرت بوادر تقارب بين الطرفين، بل وجرى الاتفاق على إنشاء بعثة دبلوماسية روسية دائمة في إيران.

وكان بلاط سانت بطرسبورغ (حريصًا على تسوية النزاع الحدودي مع إيران في أسرع وقت ممكن، خاصة في ظل تعقيدات العلاقات الروسية – العثمانية، وتدخّل بريطانيا المتكرّر في الصراع الروسي – الإيراني، وهو ما دفع الحكومة الروسية إلى تسريع خطوات ترسيم الحدود مع إيران.

وكانت روسيا معنيّة بالحفاظ على علاقات ودّية مع إيران، وضمان حيادها في حال اندلاع حرب جديدة مع الدولة العثمانية. وقد عبّر الإمبراطور ألكسندر الأوّل عن هذا التوجّه صراحةً، إذ قال:” …أيّ تحرّك هجومي تجاه فارس سيكون في غير محلّه، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التمرّد الحاصل في الشيشان ومنطقة كوبان. فالقوات ضروريّة أوّلًا لإعادة “الهدوء والنظام” داخل أراضينا”. وبناءً عليه، تبنّى الإمبراطور سياسة الحفاظ على السلام مع إيران.

وفي عام 1825، أُوفِد مبعوث روسي إلى إيران، حيث أبلغ الحكومة الإيرانية باستعداد روسيا لتقديم بعض التنازلات، بما في ذلك نقل ملكية بعض الأراضي الواقعة في منطقة تاليش إلى إيران.

لكن هذه المبادرة لم تلقَ أيّ استجابة إيجابية من الطرف الإيراني. فقد أكّدت الحكومة الإيرانية، على لسان ممثليها، أنّ “الشرف والضمير” لا يسمحان للشاه بالتنازل عن منطقتي كاراباخ وجورجيا (Georgia)، اللتين كانت إيران تعتبرهما من ضمن ممتلكاتها التاريخية.

        تصاعد التوتر الإيراني – الروسي عشية الحرب الجديدة (1826)

كانت العلاقات بين روسيا (وإيران تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. وكان عباس ميرزا يعتقد أنّه يمتلك من القوّة ما يكفي لخوض حرب ضد روسيا، يُجبرها بها على التخلّي عن جميع مكتسباتها فيما وراء القوقاز.

وعلى الرغم من أنّ اتفاق ترسيم الحدود كان قد تمّ إعداده بحلول شهر آذار من عام 1825، إلا أنّ وفاة الإمبراطور ألكسندر الأوّل  أثناء المفاوضات، وفّرت فرصة لتأجيل تنفيذ الاتفاق إلى عام 1826.

رفض عباس ميرزا التوقيع على اتفاق الترسيم، وفي خطوة أحادية الجانب، أقدمت القوات الإيرانية على نقل النقاط الحدودية داخل خانية تاليش إلى مواقع أكثر شمالًا. وقد تمّ تحريك الخط الحدودي في عدّة مناطق بشكل تعسّفي، ما أدّى إلى انتقال أجزاء واسعة من أراضي الخانية إلى السيطرة الإيرانية. كما نُصبت مخافر إيرانية جديدة بشكل غير قانوني في أراضي خانية يرڤان. وقامت القوات الإيرانية بطرد السكان المحليين من المناطق التي احتلّتها، وإقامة مستوطنات إيرانية مكانها.

وفي الموانئ الواقعة تحت السيطرة الإيرانية، مثل أنزلي (Anzali)، غيلان (Gilan)، باكو (Baku) وغيرها، تم اعتقال ومصادرة سفن وتُجّار روس، في انتهاك صريح للقوانين والأعراف الدولية.

وكان الجانب الإيراني يُماطل في المفاوضات بهدف كسب الوقت لتثبيت وجوده في الأراضي التي استولى عليها. وقد ساهم المستشارون والطوبوغرافيون البريطانيون العاملون لدى الشاه وعباس ميرزا في إفشال جهود ترسيم الحدود، من خلال إعداد خرائط مُتحيّزة ومُضلّلة، أدّت إلى العديد من الخلافات والعراقيل أمام تنفيذ الترسيم الفعلي للحدود.

وعند اعتلائه العرش، أرسل الإمبراطور نيقولاي الأوّل بعثة دبلوماسية خاصة إلى إيران برئاسة الأمير ألكسندر سيرغيفيتش مينشيكوف (Prince Alexander Sergeyevich Menshikov)، لإبلاغ الشاه بتولّيه الحكم، ومحاولة التوصّل إلى تسوية سلمية للنزاع الحدودي، استنادًا إلى الاتفاق الذي أُعدّ عام 1825، والذي رفض عباس ميرزا المصادقة عليه.

وفي حال رفض إيران الالتزام بمضمون الاتفاق، فقد كان نيقولاي الأوّل مستعدًّا لتقديم بعض التنازلات الإضافية، بما في ذلك تسليم جزء جديد من أراضي تاليش أو منطقة أخرى «يمكن التخلّي عنها دون إلحاق ضرر فعلي بمصالح روسيا».

لكن الأوضاع الداخلية في إيران لم تكن ملائمة لإنجاح هذه المهمة الدبلوماسية، خاصة مع تصاعد النفوذ البريطاني في البلاط الإيراني. فقد سعت الدبلوماسية البريطانية بكلّ السبل إلى إشعال حرب جديدة بين إيران وروسيا، في محاولة لإضعاف النفوذ الروسي في الشرقين الأدنى والأوسط.

وقد نجح السفير البريطاني في طهران، عبر الرشاوى والوعود، في أن يصبح بمثابة المستشار الفعلي للشاه. كما وصلت شحنات من العتاد العسكري البريطاني إلى الموانئ الجنوبية الإيرانية.

وفي هذا السياق، بدأ عباس ميرزا بحشد قوات كبيرة على طول الحدود الروسية – الإيرانية. وأثناء وجوده في إيران، لاحظ مينشيكوف بوضوح الاستعدادات الحثيثة للحرب، إذ كانت الاجتماعات في بلاط الشاه تُعقد باستمرار لمناقشة إعلان الحرب على روسيا.

تجنّب عباس ميرزا الدخول في أي مفاوضات مباشرة مع مينشيكوف حول النزاع الحدودي، كما رفض الشاه أيضًا استقباله، وفي وقتٍ لاحق، تمّ اعتقال كامل أفراد البعثة الدبلوماسية الروسية.

وعند هذه المرحلة، أصبحت النوايا الإيرانية واضحة: إيران تستعدّ للحرب علنًا. وفي الثالث والعشرين من حزيران عام 1826، أصدر العلَماء الشيعة (الفقهاء) فتوى دينية تدعو إلى الجهاد ضد روسيا، وأُطلقت دعوة عامة للحرب المقدّسة.

وبشكل مفاجئ، شنّت القوات الإيرانية هجمات على المواقع العسكرية الروسية في مناطق تاليش، كاراباخ، وأرمينيا. وقد تمكّنت من اختراق الدفاعات الروسية واحتلال عدد من المدن والمناطق، من بينها: كنجه –لينكاران -صالْيان -شيروان. كما فرضت حصارًا على مدينة باكو، في تصعيد عسكري شامل ومباغت.

انهيار الحملة الإيرانية وتحوّل مسار الحرب لصالح روسيا (1826–1827)

حظيت القوات الإيرانية خلال بداية حرب عام 1826 بدعم عدد من خانات ما وراء القوقاز. وفي كاراباخ، حيث كان عباس ميرزا يخطّط لتوجيه الضربة الرئيسية ضد الجيش الروسي، توقّف تقدّم القوات الإيرانية سريعًا.

فقد تمكّنت القوات الروسية، التي كانت قد احتشدت على الحدود، من توجيه عدة ضربات قاسية للجيش الإيراني خلال شهر أيلول من عام 1826، مما أدّى إلى وقف الزحف الإيراني. وبحلول تشرين الأوّل، كانت معظم الأراضي التي احتلّتها إيران قد حُرّرت بالكامل، باستثناء أجزاء من خانية تاليش.

عقب تلك الهزائم، تراجعت قوات عباس ميرزا بشكلٍ فوضوي خلف نهر أراكس. وقد شاركت إلى جانب القوات الروسية في هذه المعارك فرق من المدنيين المتطوّعين من أبناء القوقاز من الجورجيين، الأرمن، والأذربيجانيين، وكان لهم دور كبير في قلب موازين الحرب.

وكان مصير الحرب بأكمله معلّقًا على ما ستُسفر عنه حملة صيف عام 1827. وقد عُيّن الجنرال إيفان فيودوروفيتش باسكيفيتش (Ivan Fyodorovich Paskevich) قائدًا عامًا جديدًا للقوات الروسية.

وأجرت روسيا استعدادات دبلوماسية وعسكرية شاملة للحملة، حيث تمّ اجتذاب بعض خانات القوقاز إلى الجانب الروسي عبر تقديم الهدايا والمبالغ المالية والوعود السياسية؛ وفرض رقابة صارمة على تحركات القبائل الحدودية؛ إصلاح منظومة الحكم في المناطق القوقازية التي أعادت روسيا السيطرة عليها.

من جانبه، فشل عباس ميرزا في تشكيل جيش جديد قادر على المواجهة. كما رفض إخوته تقديم الدعم العسكري له، مما اضطرّ إيران إلى الانخراط في مفاوضات سلام مع روسيا، رغم أنّ هذه المفاوضات تقدّمت ببطء شديد.

ويرجع هذا البطء في المقام الأول إلى موقف الدولة العثمانية، التي، على الرغم من إعلانها الحياد، كانت ترغب في استمرار الحرب بين إيران وروسيا، لما فيه من إنهاك للطرفين.

وفي الحملة الخريفية لعام 1827، حقّقت روسيا سلسلة من الانتصارات العسكرية، وتوغّلت بعمق داخل الأراضي الإيرانية، حيث تمكّنت من السيطرة على ساردار أباد (Sardarabad)، يرڤان ، نخجوان (، نخشتيفان، تبريز.

وقد أثارت هذه التطوّرات قلقًا كبيرًا لدى الدبلوماسيين البريطانيين، الذين خشوا من تقدّم القوات الروسية نحو وسط إيران، فبدأوا بالضغط على الشاه من أجل القبول بالسلام. وفي المفاوضات التي تلت ذلك، قدّم باسكيفيتش مشروعًا لمعاهدة سلام تضمّنت عدة شروط، أهمّها، اعتراف إيران بسيادة روسيا على خانيتي يرڤان ونختشيفان؛ تسليم قلعة أردوباد؛ اعتبار مجرى نهر أراكس حتى مخاض يدي بولاق الحدود الرسمية بين الدولتين؛ إخلاء خانية تاليش من القوات الإيرانية؛ دفع تعويضات مالية قدرها ثلاثون مليون روبل.

وجدير بالذكر أن روسيا لم تكن راغبة بشدّة في احتلال أذربيجان، خشية ردود الفعل السلبية المحتملة من قبل الدول الأوروبية، التي كانت تتابع مجريات الحرب عن كثب.

معاهدة تركمانچاي ونهاية الحرب الروسية – الإيرانية (1826–1828)

رغم ميل بعض الخانات الأذربيجانيين إلى التعاون مع روسيا ضد سلالة القاجار، إلا أنّ الحكومة الروسية، خشية ردّ فعل بريطانيا، اضطُرّت إلى التخلّي عن دعمهم. وفي تبريز، شجّع حتى بعض رجال الدين الإيرانيين الجماهير على التظاهر ضد الحكومة المركزية. وبحلول كانون الأول 1827، كانت معظم القضايا الحدودية قد سُوّيت، لكن استمرار الحرب لم يكن في مصلحة روسيا، خاصّة بعد تدهور علاقاتها مع الدولة العثمانية واستعدادها لحرب جديدة على جبهة ثانية. لذلك، وافقت روسيا على تقديم تنازلات، وخُفّضت قيمة التعويض إلى عشرة كُرورات تومان، مقابل انسحاب القوات الروسية من أذربيجان الإيرانية بعد الدفع، وهو ما وافقت عليه إيران.

لكن الموقف تغيّر فجأة حين طالب الشاه بانسحاب فوري وشامل من كل أذربيجان، تزامنًا مع اندلاع الحرب الروسية – العثمانية، وعرض الأتراك إرسال ألف جندي لدعم إيران. اضطُرّت روسيا لاستئناف القتال، فاحتلّت مدن أورمية (Urmia)، أردبيل (Ardabil) وميانه (Mianeh)، وبدأ الجيش الروسي يتقدّم نحو طهران. وإزاء هذا التصعيد، وافق الشاه على جميع شروط روسيا. وفي 10 شباط 1828، تمّ توقيع معاهدة تركمانچاي (Turkmenchay) في قرية تركمانچاي الواقعة بين تبريز وطهران. ضمّت المعاهدة ست عشرة مادة، نصّت على ضمّ نختشيفان أو نخجوان (Nakhichevan) ويرڤان إلى الإمبراطورية الروسية، ورسم حدود دقيقة مع إيران، خاصة في تاليش. كما أكّد الشاه رسميًا، باسمه واسم خلفائه، سيادة روسيا على كل الأراضي والشعوب التي شملها الاتفاق (المادة الخامسة). وهكذا تحقّق هدف روسيا التاريخي في ترسيم حدود طبيعية مع إيران على امتداد نهر أراكس.

استمرّ الحدّ الفاصل بين روسيا وإيران في منطقة القوقاز، كما تمّ تحديده من قبل اللجنة الروسية – الإيرانية لترسيم الحدود، قائمًا على حاله تقريبًا حتى عام 1991.

ترسيم الحدود وتحديد الوضع القانوني لبحر قزوين بعد معاهدة تركمانچاي

ترأّس لجنة الترسيم من الجانب الروسي العقيد بافِل ياكوفليڤيتش رينِّنكامف (Col. Pavel Yakovlevich Rennenkampf)، ومن الجانب الإيراني ميرزا مسعود (Mirza Masoud)، وميرزا أحمد (Mirza Ahmad)، بالإضافة إلى الضابط الفرنسي بارتيلومي سيمينو (Barthélemy Semino)، الذي كان في خدمة الحكومة القاجارية. وفي 18 كانون الثاني 1829، وقّعت اللجنة الروسية – الإيرانية في منطقة بايراملو (Bairamlu) على “تحديد الحدود”، وهو بروتوكول رسمي نهائي يُختَتم به تنفيذ معاهدة تركمانچاي ويُحدّد بموجبه خط الحدود بين الدولتين بشكل دائم.

كما خصّصت المادة الثامنة من المعاهدة لتوضيح الوضع القانوني لبحر قزوين، حيث نصّت على أن روسيا وحدها، دون أي قوة أخرى، لها الحق الحصري في امتلاك سفن حربية في بحر قزوين. وفي الوقت نفسه، أكّدت المادة أن السفن التجارية الروسية يمكنها مواصلة الإبحار بحرّية، كما جرت العادة، في مياه البحر، وأُعطي الحق نفسه للسفن التجارية الإيرانية بالإبحار والتوقّف على الشواطئ الروسية. وبهذا، أصبح بحر قزوين، من الناحية القانونية، تحت سيادة الدولتين المشاطئتين له: روسيا وإيران، واستمرّ هذا الوضع القائم عمليًا حتى تفكّك الاتحاد السوفييتي في عام 1991.

 

ورد في المقالة السابقة أنها حسب الترقيم هي السادسة، والأصح هي السابعة (يتبع)

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

باحث في القضايا الروسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!