روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة العاشرة والأخيرة)

روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة العاشرة والأخيرة)

د. زياد أسعد منصور

روسيا وإيران خلال الحرب العالمية الأولى

      مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في أوروبا في آب/أغسطس عام 1914م، انقسمت القارة إلى معسكرين متحاربين: التحالف الثلاثي (إنجلترا، فرنسا، روسيا) من جهة، والكتلة الألمانية-النمساوية-الهنغارية من جهة أخرى. وفي تشرين الثاني من العام نفسه، دخلت الدولة العثمانية (تركيا) الحرب إلى جانب ألمانيا، وكان ضمن خطط التحالف الألماني-التركي جرّ إيران (فارس) إلى الصراع، لما لها من موقع استراتيجي في الشرق الأوسط.

كانت ألمانيا قد بدأت، منذ مطلع القرن العشرين، توسعًا اقتصاديًا وسياسيًا في الشرق الأوسط، وحقّقت نجاحًا بارزًا في عام 1902م بالحصول على امتياز إنشاء سكة حديد برلين-بغداد (، التي تربط مضيق البوسفور بـ الخليج العربي عبر بلاد ما بين النهرين. كما أقامت علاقات تجارية متزايدة مع إيران منذ عام 1900م، حيث افتتح رجال الأعمال الألمان مكاتب تجارية ومستودعات في عدد من المدن الإيرانية، ونظموا معارض للمنتجات الألمانية. كما بدأ رأس المال الألماني يتسلل إلى بعض قطاعات الإنتاج الإيراني، وخاصة صناعة السجاد، حيث أنشئت ورشات إنتاجية بإدارة ألمانية.

في المقابل، سعت ألمانيا إلى زعزعة النفوذ البريطاني والروسي في إيران، واستغلال التنافس بينهما. وبعد أن جعلت من الدولة العثمانية حليفًا لها، حاولت ألمانيا استخدام تركيا كأداة لاختراق القوقاز وإيران. وقد شملت الخطط التركية التوسعية في بداية الحرب غزوًا عسكريًا لهذه المناطق.

رغم هذه التحركات، أعلن الشاه أحمد القاجاري (Ahmad Shah Qajar) الحياد رسميًا مرتين في تشرين الثاني 1914م، مؤكّدًا رغبة إيران في عدم الانحياز لأي طرف. وقد صدر “فرمان شاهنشاهي” بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1914م ينص على أن “الدولة الإيرانية أعلنت حيادها وستحافظ على علاقات الصداقة مع الدول المتحاربة كما في السابق”. لكن بالرغم من إعلان الحياد، حاولت روسيا الضغط على إيران لدخول الحرب إلى جانب التحالف الثلاثي، مقابل تعهّد روسي بالحفاظ على وحدة الأراضي الإيرانية، ومنح إيران السيطرة الدينية على العتبات المقدسة الشيعية في كربلاء والنجف. رفضت بريطانيا هذا العرض رفضًا قاطعًا، لأنها رأت فيه تهديدًا لنفوذها في المنطقة.

في الواقع، لم يُحترم حياد إيران من قِبل الأطراف المتحاربة. فقبل اندلاع الحرب كانت القوات الروسية متمركزة بالفعل في مناطق عدة من الشمال الإيراني، بما في ذلك أذربيجان الإيرانية، وخراسان، وجيلان، ومازندران. كما كانت القوات البريطانية حاضرة في الجنوب الإيراني، خصوصًا في منطقة الأهواز والموانئ الساحلية.

عسكريًا، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1914م، اجتاحت القوات العثمانية الأراضي الإيرانية من جهة الغرب، ودارت معارك بينها وبين القوات الروسية قرب مدينة خوي (Khoy) وفي اتجاه سوجبلاغ (Soujbulak).في المقابل، وبالرغم من الاعتداء التركي، وجّهت الحكومة الإيرانية احتجاجًا شديد اللهجة لروسيا مطالبةً إياها بسحب قواتها من الأراضي الإيرانية.

أما داخليًا، فقد عانى الوضع السياسي الإيراني من الارتباك وعدم الثبات. لم يكن للحكومة المركزية الإيرانية موقفٌ حازم تجاه أطراف الحرب، بل كانت تُحاول التوازن بين القوى المتصارعة. وبدعم من وكلاء تركيّين نشطت داخل إيران، تصاعدت الدعاية البانإسلامية (Pan-Islamism) والتيار الطوراني (Panturkism). وقد أصدر علماء دين من كربلاء والنجف وسامراء فتاوى تدعو إلى الجهاد ضد روسيا، مما زاد من توتر الأوضاع الإقليمية، وأسهم في إشعال جذوة الصراع في المنطقة، رغم إرادة الشعب الإيراني في البقاء خارج أتون الحرب.

 محاولات إيران لتثبيت الحياد وتطور التدخل العسكري الروسي والتركي (1914–1915م)

 في أيلول/سبتمبر عام 1914م، وجهت الحكومة الإيرانية مذكرة دبلوماسية إلى روسيا، أعربت فيها عن رغبتها في تجنّب الآثار المدمّرة لانخراط البلاد في الحرب العالمية، وأكدت تمسّكها بالحياد الرسمي. وجاء في المذكرة أن «إيران ترغب في تفادي نتائج الحرب عبر إعلان حيادها، وتطلب من روسيا سحب قواتها من الأراضي الإيرانية، شرط أن تضمن الدولة العثمانية (تركيا) احترام ذلك الحياد، في حال نشوب حرب مباشرة بين روسيا وتركيا».

 لكن لم يكن خافيًا أن انسحاب الجيش الروسي من شمال غرب إيران سيترك فراغًا كبيرًا تستغله القوات العثمانية لاحتلال أذربيجان الإيرانية. وقد عبّر السفير البريطاني في طهران السير ويليام تاونلي (William Townley) عن ميله لتأييد المطالب الإيرانية وسحب القوات الروسية من أذربيجان، وخراسان، ومناطق أخرى، كخطوة لتقليل التوتر.

وفي 19 كانون الأول/ديسمبر 1914م، صدرت أوامر للقوات الروسية، التي كانت تتمركز في مدن غرب إيران، بالانسحاب نحو جلفا (Julfa) على الحدود الروسية-الإيرانية. فانسحب الجنود الروس دون قتال من مدن سوجبلاغ ، وتبريز، وخوي. ومع انسحابهم، فرّ الآلاف من المدنيين، أغلبهم من المسيحيين الأرمن والآشوريين، إلى داخل الحدود الروسية هربًا من الخطر العثماني.

استغلّت القوات العثمانية هذا الانسحاب، فاحتلت المدن الثلاث ومناطق أخرى، مما عزّز النفوذ الألماني-التركي مؤقتًا في شمال إيران. دفعت هذه التطورات روسيا وبريطانيا إلى إعادة النظر في مواقفهما العسكرية تجاه إيران، فقرّرتا تنشيط العمليات الحربية فيها: روسيا في الشمال، وبريطانيا في الجنوب ومنطقة الخليج الفارسي.

وبناءً على ذلك، تلقّت وحدات الجيش الروسي بقيادة الجنرال تشيرنوزوبوف (General Chernozubov) أوامر بالهجوم المعاكس. وفي 28 كانون الثاني/يناير 1915م، حقق الروس انتصارًا في معركة سافيان (Safian)، ثم دخلوا تبريز مجددًا دون مقاومة في 30 كانون الأول/ديسمبر. وواصلت القوات الروسية زحفها الناجح نحو أرومية (Urmia) وسوجبلاغ، قبل أن تنتقل جبهة القتال إلى إقليم كردستان الإيراني.

بعد هذه النجاحات الروسية، أبدت الحكومة الإيرانية استعدادها لإعادة النظر في عرض التحالف مع الوفاق الثلاثي (Entente)، شرط أن تنسحب القوات الروسية من أذربيجان الإيرانية، وأن تُمنَح إيران قرضًا ماليًا كبيرًا، ودعمًا عسكريًا (أسلحة وعتادًا)، مع تعديلات جمركية لصالحها، وإعادة السيادة الدينية على كربلاء والنجف، وهما من أقدس المواقع الشيعية، بعد الحرب.

لكن هذه المفاوضات بين إيران من جهة، وروسيا وبريطانيا من جهة أخرى، أُفشلت بفعل تدخل البعثات الألمانية والعثمانية في طهران، والتي شنّت حملة مضادة قوية، حالت دون التوصل إلى اتفاق.

 الصراع على النفوذ في إيران بين روسيا وبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى 

قوبل العودة السريعة للقوات الروسية إلى مدينة تبريز بعد انسحابها في نهاية عام 1914م، برد فعل فاتر من جانب الحكومة الإيرانية والبعثة البريطانية في طهران، واللتين كانتا تشكّان في نوايا روسيا. ومع انطلاق الهجوم الروسي العام في منطقة القوقاز في نوفمبر/تشرين الثاني 1914م، اضطرت روسيا إلى سحب بعض قواتها من شمال إيران، فاستعانت الحكومة الإيرانية بـشجاع الدولة (Shuja’ al-Dawla)، الحاكم السابق لمقاطعة أذربيجان الإيرانية والمعروف بولائه لروسيا، بهدف ملء الفراغ الأمني.

لكن سرعان ما فشل هذا المسعى، إذ تعرّضت القوات التابعة لشجاع الدولة لهزيمة عسكرية أمام الزحف العثماني باتجاه تبريز، مما أدى إلى تكرار الحكومة الإيرانية لمطلبها بسحب القوات الروسية من شمال إيران، خصوصًا أذربيجان وخراسان ومناطق أخرى.

وفي محاولة لمواجهة النفوذ الروسي، اقترحت إيران إرسال ولي العهد (إلى تبريز، وذلك كخطوة رمزية تهدف إلى تقويض الهيمنة الروسية في شمال البلاد. وقد أفاد السفير الروسي في طهران في تقرير رسمي عام 1915م، بأن الإيرانيين يخططون لأن يتولى ولي العهد ووفده الإداري مهمة مقاومة النفوذ الروسي في أذربيجان بشكل نشط.

في مذكرة دبلوماسية أخرى، أشار السفير نفسه إلى أن “وضع روسيا في إيران بات غير طبيعي”، وأن المصالح الروسية “تعرضت لتدهور بالغ”، مُضيفًا أن روسيا تواجه **خطرًا حقيقيًا إذا استمرت الظروف على حالها دون تغيير“.

 ورغم وجود تحالف عسكري بين روسيا وبريطانيا ضمن دول الوفاق الثلاثي، إلا أن الخلافات الجوهرية بين البلدين فيما يخص الشأن الإيراني استمرت. فقد كانت بريطانيا تتعمّد تبني الموقف الإيراني، وتضغط على الحكومة القاجارية من أجل إضعاف الموقف الروسي في البلاد. وقد اتهم الدبلوماسيون الروس لندن بأنها “كانت دائمًا تقف في صف الإيرانيين وتُعقّد الأمور بين روسيا وطهران“.

في هذه الأثناء، أدى تنامي المشاعر المؤيدة لألمانيا، وتزايد الاحتجاجات الشعبية المناهضة لكلّ من روسيا وبريطانيا في أنحاء إيران، إلى دفع القوتين إلى التفكير في تقارب تكتيكي لإعادة ترتيب نفوذهما في البلاد. فبينما كانت بريطانيا تسعى إلى ضم المنطقة المحايدة داخل إيران إلى مجال نفوذها، كانت روسيا تطمح إلى تحقيق حلمها الاستراتيجي بالحصول على مضائق البحر الأسود من الدولة العثمانية بعد الحرب.

في آذار/مارس 1915م، تم التوصل إلى اتفاق سري بين وزير الخارجية الروسي سيرغي سازونوف (Sergey Sazonov) ونظيره البريطاني إدوارد غراي (Edward Grey)، قضى بمنح روسيا “الحرية الكاملة للتصرف في منطقتها داخل إيران، بشرط عدم المساس باستقلال إيران الاسمي”، مع وعد بمنحها المضائق بعد الحرب. أما بريطانيا، فحصلت على السيطرة على المنطقة المحايدة بكاملها، باستثناء مدينتي أصفهان ويزد.

لم يكن بمقدور الحكومة الإيرانية التصدي لهذا الاتفاق الذي انتهك سيادة البلاد مجددًا، ما أثار استياءًا واسعًا في الأوساط السياسية والشعبية.

 نتائج الحرب على الداخل الإيراني

أدت الحرب إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إيران، حيث زادت الاستغلال الطبقي والضرائب الجائرة، وشهدت البلاد احتلالًا مباشرًا من قوات أجنبية، وفرضًا لنفقات الحروب عليها رغم إعلانها الحياد. وقد استغلّت ألمانيا هذا الوضع، فوسّعت حملاتها الدعائية داخل المجتمع الإيراني، ولاقت تلك الحملات صدىً لدى جميع طبقات الشعب، بما في ذلك التجار، المتدينين، والمثقفين، الذين ضاقوا ذرعًا بتدخلات روسيا وبريطانيا المتكررة في شؤون بلادهم.

أدى هذا الضغط السياسي والعسكري إلى حالة من عدم الاستقرار المزمن داخل الدولة القاجارية، حيث سُجِّل في طهران وحدها عشرة أزمات حكومية بين أب/أغسطس 1914م وتشرين الثاني/نوفمبر 1917م، في ظل وجود عسكري دائم وهيمنة دبلوماسية أجنبية خانقة.

 تفاقم الصراع الدولي في إيران خلال الحرب العالمية الأولى

في عام 1915، لم تكن موازين القوى في إيران تميل لصالح روسيا أو بريطانيا، بل أخذت تتغير نتيجة النشاط المكثف لوكلاء التحالف الألماني-التركي، الذين سعوا لضم إيران إلى الفلك الألماني. وفي محاولة لتطويق هذا التمدد، اتفقت روسيا وبريطانيا على تشكيل حاجز عسكري على الحدود الشرقية لإيران. وفي أكتوبر من العام نفسه، أنزلت روسيا “الفرقة القوزاقية الاستكشافية” بقيادة الجنرال باراتوف في ميناء أنزلي، وتقدّمت نحو طهران، فاحتلت قزوين ثم كرج. في المقابل، نزلت القوات البريطانية في بوشهر جنوبًا.

خشيت البعثة الألمانية في طهران من التقارب الروسي-الإيراني، فبدأت تخطط للإطاحة بالشاه أحمد شاه وإعادة تشكيل الحكومة الإيرانية بمساعدة الدرك الموالي لها. وسرعان ما بادرت روسيا بمهاجمة همدان، ونجحت في احتلالها ثم مدينة قم في كانون الأول/ديسمبر 1915، تلاها احتلال كرمانشاه في شباط/فبراير 1916. تراجع الجيش الإيراني دون قتال فعلي، ما أدى إلى تغيير جديد في الحكومة الإيرانية، التي قررت حل جهاز الدرك وزيادة عديد الفرقة القوزاقية الفارسية إلى 10 آلاف جندي. كما قدّمت روسيا دعمًا ماليًا للشاه عبر سفيرها فون إتتر.

مع مطلع عام 1917، أصبحت إيران شبه محتلة بالكامل: فالشمال والشمال الغربي خضع للروس، بينما الجنوب والجنوب الشرقي للبريطانيين، أما الغرب فكان تحت نفوذ القوات الألمانية-التركية. عانت البلاد من أزمة اقتصادية طاحنة، وانتشرت المجاعة والأوبئة، وفرّ السكان من المناطق المنكوبة.

 الثورات الروسية وتغير سياسة الاحتلال في إيران

أثارت الثورة الروسية في شباط/فبراير 1917 آمالًا لدى الإيرانيين بإمكانية تحسين العلاقات مع روسيا، ورحّبت الحكومة الإيرانية بالحكومة المؤقتة. لكنها لم تجد تغييرات فعلية في السياسة الروسية تجاه إيران. أما بعد ثورة أكتوبر وقيام الحكم السوفييتي، فقد أعلن مجلس مفوضي الشعب إلغاء الاتفاقات الإمبريالية السابقة بشأن تقسيم إيران، ووعد بسحب القوات الروسية منها ومنح الإيرانيين حق تقرير مصيرهم. رحّبت الحكومة الإيرانية بالحكومة المؤقتة الجديدة في روسيا، وأعربت عن أملها في إنهاء التوترات مع روسيا. لكن الحكومة المؤقتة الروسية لم تُجرِ أي تغييرات جوهرية في علاقتها مع إيران.

أما بعد ثورة أكتوبر البلشفية، فقد أصدر مجلس مفوضي الشعب نداءً موجهًا بعنوان:إلى جميع العمال المسلمين في روسيا والشرق”، جاء فيه: «لقد تمزق وأُلغي الاتفاق الذي كان يقسم إيران. وبمجرد انتهاء العمليات العسكرية، ستُسحب القوات الروسية من إيران، وسيُمنح الإيرانيون حق تقرير مصيرهم بحرية».

في كانون الأول/ديسمبر 1917، أعلنت الحكومة السوفييتية رسميًا قرار الانسحاب، وبدأت عملية إجلاء القوات الروسية من إيران في كانون الثاني/يناير1918، واكتملت بحلول آذار. ولم يتبق سوى وحدات من قوات الجنرال باراتوف، الذين انتقلوا للخدمة في صفوف القوات البريطانية.

 الاعتراف بالسوفييت وردود الفعل الإيرانية

توجهت الحكومة السوفيتية إلى حكومة إيران بمذكرة رسمية أعلنت فيها عن إلغاء جميع المعاهدات والاتفاقيات غير المتكافئة «التي بأي شكل من الأشكال تقيد وتقيّد حقوق الشعب الفارسي في الوجود الحر والمستقل»، بما في ذلك اتفاقية أنغلو-روسية لعام 1907م .

ردت الحكومة الإيرانية في مذكرة، عبّرت فيها عن شكرها وامتنانها للجمهورية الروسية باسم الشعب الإيراني «على فعل العدالة الذي أُظهر تجاه بلاد فارس.

أثرت هذه المراسيم والإجراءات الصادرة عن الحكومة السوفيتية تأثيرًا كبيرًا في إيران، وقُوبلت بحماس وترحيب واسع من مختلف طبقات الشعب الإيراني.

في كانون الأول/ديسمبر 1917م، كانت الحكومة الإيرانية من أوائل الحكومات التي اعترفت بالدولة السوفيتية. وقد تحولت النضالات المناهضة للإمبريالية، التي نشأت في إيران خلال سنوات الحرب العالمية الأولى ضد سياسات الدول المتحاربة، بعد انتصار ثورة أكتوبر وإجراءات الحكومة السوفيتية إلى حركة وطنية واسعة لتحرير الشعب الإيراني.

وكانت نتائج هذه الحركة هي طرد القوات البريطانية من البلاد، وسقوط أسرة القاجار، والحفاظ على وحدة الأراضي واستقلال إيران.

 التغلغل الأجنبي والمقاومة الوطنية في إيران حتى الثورة الدستورية

شهدت إيران في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تحولات عميقة في سياستها الداخلية والخارجية. فقد سعت الدولة القاجارية إلى توحيد البلاد، ورسم حدودها الجغرافية الحديثة، والقيام ببعض الإصلاحات الإدارية والعسكرية، لكنها وجدت نفسها تحت ضغط متزايد من القوى الأوروبية، خاصة روسيا وبريطانيا، اللتين فرضتا اتفاقات غير متكافئة هدفت إلى إضعاف السيادة الإيرانية.

كانت إيران بموقعها الجغرافي الحيوي هدفًا للتنافس الإمبريالي، حيث اعتُبرت بوابة إلى آسيا الوسطى والهند، ما جعلها ميدانًا لصراع النفوذ بين روسيا التي توسعت جنوبًا، وبريطانيا التي سعت لتثبيت وجودها في الشرق الأوسط. وقد تعرضت البلاد لحربين مع روسيا في القرن التاسع عشر انتهتا بهزيمتها، وأدى ذلك إلى فقدان أجزاء واسعة من أراضيها في القوقاز.

كما أُرغمت إيران على توقيع اتفاقات تجارية وسياسية أعطت امتيازات كبيرة للدول الأجنبية، مثل إعفاء بضائعهم من الرسوم الجمركية ومنحهم حقوقًا خاصة داخل البلاد، مما أضر بالاقتصاد الوطني، وزاد من هيمنة رأس المال الأجنبي، وتحوّلت التجارة تدريجيًا إلى أداة استعمارية. توسعت هذه الهيمنة لاحقًا لتشمل منح الامتيازات لبناء البنوك والسكك الحديدية واستغلال الموارد الطبيعية، مما جعل إيران شبه مستعمرة من الناحية الاقتصادية.

أسهم النظام القاجاري، بفساده وبنيته المتخلفة، في تسهيل هذا التغلغل. فشاعت الرشوة، وبيع المناصب، والتعيينات على أساس المحسوبية، وتراجعت قدرة الجيش، وتفاقمت النزاعات الداخلية. كل ذلك أدى إلى أزمة سياسية واقتصادية خانقة في نهاية القرن التاسع عشر.

 لكن هذه التحديات الخارجية والداخلية أثارت أيضًا يقظة وطنية وفكرية. فقد ظهرت طبقة جديدة من المثقفين الذين تأثروا بالفكر الحديث، وبدأوا بانتقاد الفساد والدعوة للإصلاح والتحديث. وكان من أبرز ممثلي هذا التيار الوطني: الدبلوماسي ملكم خان، والكاتب حاجي زين العابدين المراغي، والفيلسوف عبد الرحيم طالبوف، والموظف الحكومي يوسف خان مستشار الدولة. لعب هؤلاء دورًا كبيرًا في التمهيد للأفكار الدستورية والدفاع عن السيادة الوطنية، كما ظهرت الصحافة الإصلاحية التي هاجمت التدخلات الأجنبية والفساد الداخلي.

بلغت هذه الحركة ذروتها في الثورة الدستورية بين 1905 و1911، التي شهدت قيام مظاهرات عارمة، واضطرابات سياسية، وانتهت بإصدار دستور جديد، وتشكيل أول برلمان في تاريخ البلاد. ورغم قمع الحركة لاحقًا، فقد شكلت بداية وعي سياسي جماهيري.

نهاية الثورة الدستورية وبداية النهوض الوطني بعد الحرب العالمية الأولى

لم تكن هزيمة الثورة الدستورية في إيران نتيجة لعوامل داخلية فحسب، بل كان التدخل العسكري المباشر من قبل روسيا وبريطانيا عاملًا حاسمًا في قمعها. فقد أرسلت القوتان الاستعماريتان جيوشهما إلى الأراضي الإيرانية لقمع الحركة الإصلاحية، رغم الاحتجاجات المتكررة من البرلمان والحكومة والرأي العام.

تمركزت القوات الروسية في شمال البلاد، وخاصة في مناطق أذربيجان الإيرانية وخراسان وغيلان ومازندران، فيما احتلت القوات البريطانية جنوب إيران. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ورغم إعلان إيران حيادها، تحوّلت أراضيها إلى ساحة معارك بين الدول المتحاربة، ما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشدة. اجتاحت البلاد المجاعة وانتشرت الأوبئة، وبدأ السكان يفرون من المناطق المنكوبة.

في أعقاب ثورة أكتوبر في روسيا، أعلنت الحكومة الجديدة إلغاء جميع المعاهدات غير المتكافئة التي سبق أن فرضتها روسيا القيصرية على إيران، وتخلت عن الامتيازات، وأسقطت الديون الإيرانية. كان لهذا التحول السياسي في روسيا صدىً واسعًا في المجتمع الإيراني، حيث اعتُبر خطوة إيجابية تجاه احترام سيادة إيران.

ساهمت هذه الإجراءات، إلى جانب المعاناة التي خلفتها الحرب، في تنامي الشعور الوطني الإيراني. وبعد نهاية الحرب العالمية، بدأت تتبلور حركة وطنية واسعة ذات طابع تحرري مناهض للنفوذ الأجنبي والحكم القاجاري، أدت في نهاية المطاف إلى تغيّرات سياسية كبرى، من أبرزها طرد البريطانيين، وسقوط الأسرة القاجارية، والحفاظ على وحدة واستقلال إيران.

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

باحث في القضايا الروسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!