زمن “بُوعُو” المرعب: طوطو ليس مغنيا بل حفار قبور

عبد الرحيم التوراني
في حقبة السبعينيات اليسارية، في خضم سنوات القمع والرصاص، لجأت أعداد من الشباب المغربي، جلهم من تلاميذ الثانويات وطلاب الجامعة، إلى الانتماء لصفوف اليسار الجديد والانضمام لتنظيماته السرية (منظمة إلى الأمام، ومنظمة 23 مارس…).
كانت نضالات هذه التنظيمات اليسارية ترمي إلى تأجيج الصراع الطبقي ضد حكم الاستبداد، فعنوان البيان التأسيسي لمنظمة “إلى الأمام” حمل تحديا واضحا، مستمدا من مقولة لينينية: “لنبني الحزب الثوري تحت نيران العدو”..
لكن شبية التلاميذ والطلبة لم يكونوا يملكون سوى سلاح المظاهرات السلمية، التي كانت تنطلق غالبا من وسط تجمعات جماهيرية، من أمام قاعات السينما مثلا، لتنفذ بشكل سريع الحركة وصغير النطاق تفاديا للاعتقالات السهلة والمجانية…
وإلى جانب النشرات المطبوعة بآلة “الستنسيل”، وتوزيع المناشير الورقية، كانت هناك الكتابة على الجدران… كتابات يتولى إنجازها مناضلون تحت جنح الليل، بشوارع رئيسية تتميز نهارا بكثرة المارة والعابرين، الذين يطالعون في صباح اليوم الموالي شعارات احتجاجية ضد القمع والاعتقال السياسي، من قبيل: “لا للقمع”، و”أطلقوا سراح المعتقلين السياسيين”، و”لا للحكم الاستبدادي الرجعي”…
سرعان ما كانت السلطات تهب مستنفرة بأجهزتها البوليسية لتباشر عملية تفريق الناس الذين يتفرجون على ما هو معلن على الجدران، وبينهم من يخشى البوح بما يطالعه على الجدار. وعقب التقاط الصور الأمنية لفعل “الجريمة”.. يشرع أعوان السلطة في تغطية الشعارات، المكتوبة على الأغلب بصباغة باللون الأحمر، بواسطة الجير الأبيض.
أحيانا تكون عملية التغطية والمحو غير مكتملة، وغير متقنة التنفيذ، حيث تبقى بعض كلمات الشعارات الاحتجاجية تطل متحدية بأحرفها الشفافة من تحت صباغة الجير…
أيامها لم تكن وسائل التواصل الجماهيري متاحة ومشاعة كما هو حاصل اليوم، والسلطة كانت هي من تمسك وتسيطر بشكل قوي وحاسم على وسائل الإعلام، الراديو والتلفزيون والصحف والمطابع، إضافة إلى “البرَّاحة”، من المقدمين والنساء “العريفيات”؛ وتبقى جرائد بعض الأحزاب من المعارضة المعترف بها رسميا، على الهامش، بغاية استكمال تأثيث مشهد استعراضي لواجهة سياسية مغشوشة، ولديمقراطية مزعومة يتم تسويقها للخارج بالأساس؛ ليس أكثر…
من جدار قائم إلى جدار افتراضي
أعتقد أن من كانوا وراء إنشاء موقع “الفيس بوك”، قصدوا تسمية صفحة الحساب بـ”الجدار” أو “الحائط”، كبديل افتراضي للجدار الحقيقي…
– تعالوا إلى هنا، اقتربوا وتعاملوا مع التكنولوجيا الحديثة المتطورة؛ عبروا عما يجول في خواطركم من أفكار..
هكذا، عند فتح حسابك الفيسبوكي أول ما سيواجهك هو سؤال: “بِمَ تفكر يا… فلان؟ …
وإذا كنت تتصفح حسابك باللغة الفرنسية فإن السؤال سيكون هو ? quoi de neuf (ما الجديد؟).
سؤال الغاية منه كما يبدو هي تشجيع المستخدم على إنشاء منشور جديد.
– أوه.. يا له من تشجيع هائل على ممارسة ثقافة حرية الرأي والتعبير!
ما أسهل النضال بعيدا عن المطاردات القمعية، والخشية من العواقب الوخيمة، مثل السقوط في فخاخ الاضطهاد والاعتقال والتعذيب…
غير أن أعداد وأسماء كثيرين اليوم باتت معروفة، ممن “جرتهم” تدويناتهم البسيطة، وإفصاحهم بما يفكرون فيه، إلى اضطهاد السلطات وإلى زنازنها…
الأخ الأكبر الذي لا ينام
إن الكتابة على جدار افتراضي لا تعفي مطلقا من مخاطر وعواقب، ومن رقابة قد تكون أشرس وأشد عنفا وقهرا، حيث أن الأجهزة البوليسية صار يطلق عليها نعت “العين التي لا تنام”؛ تجسدها شخصية “الأخ الأكبر”، كما حدثنا عنها بدقة مثيرة الكاتب البريطاني جورج أورويل، في روايته الشهيرة: “1984”.
إن “الأخ الأكبر” يراقب ويحصي الأنفاس.. إنه كإله خفي لا يظهر، يرانا ولا نراه.. لكننا ندرك حضوره وتغلغله بيننا عبر أجهزته اللامرئية، المبثوثة بسرية في كل زاوية وفي كل ركن، أجهزة تمكن الدولة البوليسية من مراقبة أنشطة جميع المواطنين، وبالتالي يعلن لنا وجود “الأخ الأكبر” سيطرة السلطات على حياة الأفراد… إن “الأخ الأكبر يراقبكم”، وقد تحققت نبوءة جورج أورويل التي أطلقها قبل ثمانية عقود…
في السابق كان الناس يحذرون من بعضهم البعض.. وانتشرت معلومة مخيفة، تقول إن كل من يتحرك في الشارع هو جاسوس ومخبر سري..
– لا تكثر الكلام مع سائق التاكسي، أو مع ممرض في المستشفى، أو تتبادل الكلام مع كناس الشارع… حتى نادل المقهى الذي ترتاده يوميا لا توجد ضمانة أنه ليس واحدا من عناصر وأفراد “الدوزيام بيرو”، أي “المكتب الثاني”… وإذا ما صادفك أحدهم في الشارع وسألك عن عنوان ما، فالاحتمال الأقرب هو أنه ليس شخصا تائها بالضرورة، بل ربما هو جاسوس يسعى وراءك للإيقاع بك…
هكذا كنت تشاهد شخصين يجلسان في ركن بمقهى وهما يلتفتان يمينا وشمالا قبل أن يهمس الواحد منهما للآخر بنصف كلمة، أو يلجآن للكلام بكلمات مبهمة من قاموس “الغوص” وكلماته الملغزة، هما وحدهما من لهما قدرة فك شفرتها وطلاسمها…
لقد أصبح اليوم، ذاك التعبير المجازي القديم حقيقة ساطعة لا التواء به ولا استعارة لغوية تشمله، عندما أنبت للجدران آذانًا قوية السمع، وأعينًا خارقة البصر…
مع عصر التكنولوجيا الجديدة صار الأمر أشد خطورة ورعبا.. حيث أصبح الفرد لا يأمن حتى من نفسه.. إن “الأخ الأكبر” أقرب إليكم من حبل الوريد، إنه يراقبكم من أجهزة هواتفكم المحمولة ولو كانت مقفلة ومغلقة، من حواسيبكم المكتبية، من ساعة اليد إن كنتم لا تزالون تستعملون ساعات اليد…!
كيف لا يحدث التشكيك في ذرات هواء الأوكسجين الذي نستنشقه؟!!
كيف لا تدرك أنك تعيش عصر التجسس السيبراني، أو التجسس الإلكتروني… “الأخ الأكبر” يتولى جمع المعلومات السيبرانية، وعبرها يحصل على الأسرار والمعلومات التي تخصك دون إذن ومعرفة منك، عبر تقنيات برامج مستحدثة خبيثة.
لا أظن أن طاغية آخر من طغاة العصور السابقة كان باستطاعته التفوق على طغيان ووحشية وتحكم “الأخ الأكبر” اليوم.. فكل تفكير مختلف عن استراتيجية “الأخ الأكبر” هو تفكير منشق لا يمكن التهاون في قمعه وإذلاله وتخوينه ومحوه، وكل فكر معارض أمر لا يصدق، بل يتستوجب هجومًا مدمرا شاملًا.
وبرنامج “الأخ الأكبر” يبدأ من إفراغ الكلمات والأفكار من محتوياتها، واستبدال المضامين وتغيير حقيقتها، إلى السيطرة على الواقع والماضي والذاكرة…
من عيشة الذباب إلى ذباب بلا أجنحة
هكذا تحولت الحيطان إلى أنصاب ضخمة تستقبل انحناءات المنحنين، وركوع الراكعين المتخشعين.. والطقوس تملي علينا السير جنب الحيط بحذر، ألا نلتفت خلفنا، وأن نغلق أفواهنا، ألم يقل أسلافنا بأن “الفم المسدود ما دخلو دبانة”…
فليهنأ أولو الأمر، بعد الإنجاز الذي تحقق وفاق التطور الدارويني، إذ من عيش الناس “عيشة الدبانة ف البطانة” كما غنت ذات مرة مجموعة “ناس الغيوان”، نجح “الأخ الأكبر” في مسخهم إلى ذباب أعمى بلا أجنحة، ذباب يقوده مافيوزي إلكتروني.. من امبراطورية الذباب الإلكتروني…
ها قد تحولت دنيانا فجأة من “حياة الماعز”، ومن اسطبل بهائم ومزرعة حيوانات داجنة وأليفة، إلى مشتل شاسع لجحافل من ذباب أعمى ودائخ… ذباب يحسب برازه عسلا ويطالب بإفناء النحل.
ما أقساه من ظلم عظيم…!
موقف صعب ويائس أن تجد نفسك في مأزق وضيق وجودي شديد؛ أن تعيش في زمن “طوطو”، ذاك البعبع المخيف الذي يتوارى خلف هيأة “رابور”، بأنياب فولاذية تلمع، وأسنان تقطر بوقاحة نابية.. بقميصه المحتفل بالتصعلك وبعفونة القرف المباح..
ها هو الوحش يفتح فكيه بلهفة كلها شرارة وشر ماحق، لتنطلق الفجيعة والخسران المبيد على إيقاع رقصة الخراب والتدمير والسحق والدمار المبين، تلك مكونات وليمة كبريتية جحيمية يعدونها للمأتم الكبير…
يا إلهي.. إن دقات القلوب تتسارع.. ما العمل أمام هذا المصاب الخطير الجلل؟ وقد تمنى كثيرون أن يكون الأمر مجرد كابوس وأضغاث أحلام عابرة…
غير أن “بوعو” يطاردكم وينهال على ما بقي فيكم من إيمان وتفاؤل، وعلى ما تخبئونه تحت أوسدتكم من أماني وأحلام سرية…
هامش غير ضروري:
عندما ظهرت مجموعة ناس الغيوان في بدايات السبعبنيات واجهت الظاهرة الغنائية الجديدة انتقادات حادة، في مقدمة هؤلاء المنتقدين كان الفنان أحمد البيضاوي، من موقعه كأشهر الموسيقيين والملحنين في المغرب سعى لمنع ناس الغيوان من الظهور في التلفزيون، بل حاول استغلال قربه من الملك الحسن الثاني أن يؤلب الملك ضدهم، واشيا أن ما يؤدونه ليس إبداعا ولا ينتسب لفن الغناء، ومضيفا إنهم لم يحتفلوا في أغانيهم بمغربية الصحراء..
ومعلوم أن ناس الغيوان نهلت تجربتهم الإبداعية من الموسيقى والتراث المغربي الأصيل، وكانت مضامين أغانيهم قريبة إلى الوجدان الشعبي…
ترى ماذا عساه كان سيقول الفنان أحمد البيضاوي لو أخرج من لحده ورأى وسمع كائنا اسمه “طوطو”…؟؟؟
أكيد أنه سيطلب بالإسراع في إرجاعه إلى قبره.