زيارة البابا تحيي الاهتمام الدولي بلبنان

زيارة البابا تحيي الاهتمام الدولي بلبنان
أحمد مطر
           في خضٍّم العواصف السياسية التي تضرب لبنان والتي تتزامن مع ارتفاع في منسوب الخوف من حرب إسرائيلية جديدة عليه، تبرز زيارة البابا لاوون الرابع عشر كحدث استثنائي يتجاوز طابع البروتوكول الديني ليحمل دلالات سياسية وروحية عميقة. فلبنان، المثقل بالأزمات المتراكمة والانقسامات المتجدّدة، يقف اليوم على عتبة لحظة حسّاسة قد تحدّد شكل مستقبله. وفي مثل هذه الظروف، يكتسب حضور رأس الكنيسة الكاثوليكية بُعداً رمزياً ورسالة تتخطّى المؤمنين المسيحيين لتطال المجتمع اللبناني بأسره.
فلبنان، الموصوف تاريخياً بـوطن الرسالة، لا يزال رغم كل شيء ساحة اختبار حقيقية وصدى للقوى الخارجية والبابا يعرف جيداً أنّ مخاطبة العالم من بيروت تحمل وقعاً مضاعفاً في مقاربة قضايا التنوّع الديني والثقافي، من أهم المكاسب المحتملة للزيارة إعادة إحياء الاهتمام الدولي بالملف اللبناني.
كما اصبح مؤكداً، أصبح لبنان يعيش راهنا وضعا بالغ الدقّة والتعقيد مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على أراضيه يوما بعد يوم، وبالتزامن مع تزايد الضغوط الدولية على الدولة اللبنانية لتنفيذ ما هو مطلوب منها على الصعيد الأمني والسياسي، حيث بات الوضع لا يسمح بالمماطلة أو التأجيل، وبالتالي فإن لبنان اصبح أمام مفترق حاسم قد يحدد مستقبل الدولة ككل واستقرارها الداخلي ووضعها الإقليمي.
في هذا لسياق يبدو أن تعيين السفير سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني إلى لجنة وقف النار، بدا للبعض وكأنه انخراط رسمي في مسار تطبيعي. لكن القراءة المتأنية تكشف أن الرئيس جوزيف عون لم يكن ليمضي به دون تفاهم دقيق مع الرئيسين نبيه بري ونواف سلام، وتحديداً مع بري الذي يبقى الأخ الأكبر لحزب الله وضابط إيقاع العلاقة بين المقاومة والمؤسسات.
وبالتالي، مرور هذه الخطوة بسلاسة يؤشر إلى أن الحزب لا يعترض طالما أن الهدف هو تجنيب لبنان حرباً واسعة وشراء الوقت لإعادة ترتيب التوازنات.
حزب الله يدرك أن لبنان ذاهب نحو التفاوض منذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار، ويعلم أن الزمن تغيّر، وأن البيئة الإقليمية تضيق، لكنه يعرف أيضاً أن أي تسوية يجب أن تُصاغ معه لا ضدّه، وأن أي محاولة لتجاوزه ستفجر البلد قبل الوصول إلى أي صيغة نهائية.
وفي الوقت نفسه، يعرف الأميركيون والإسرائيليون أن أي اتفاق لا يحظى بغطاء المقاومة محكوم بالفشل سلفاً.
لذلك يمكن القول إن المقاومة سمحت بالتفاوض لأن البديل كان حرباً واسعة تسعى إسرائيل إلى فرضها بسرعة قبل تبدل الحسابات الدولية.
من هنا، يمكن اعتبار ان التعيين المدني تحول إلى ورقة ضغط معاكسة، إذ تستخدم بيروت الوجه المدني لإحراج إسرائيل أمام الأميركيين ودفع تل أبيب إلى كبح التصعيد.
أما إسرائيل، فترى في هذا التعيين فرصة لرفع سقف مطالبها، وتحاول تضخيم الطابع المدني للمفاوضات بهدف الإيحاء بأن بيروت تخطو خطوات تدريجية نحو تطبيع مضمون، لكن الحقيقة أن الخط الأحمر الذي رسمه حزب الله بشأن جوهر قوته لا يزال ثابتاً.
ومع اعلان القصر الجمهوري عن هذا التعيين، تصرفت إسرائيل كمن يفاوض من موقع المنتصر، لكنها تعرف جيداً أنها عاجزة عن فرض معادلة عسكرية جديدة، عمليات الاغتيال والضربات المحدودة لن تُنتج تغييرات استراتيجية، وحرب واسعة قد تفجّر المنطقة بأكملها .
التركيز الإسرائيلي على مشاركة كرم محاولة لتضخيم الطابع المدني للمحادثات وتصويرها كخطوة نحو التطبيع، لكن حقيقة الأمور مختلفة فكرم هو واجهة تفاوضية، أما الجوهر فهو تفاهم لبناني داخلي لم يسمح بأي خطوة تتجاوز سقف المقاومة، والدليل أن الرئيس بري رمانة التوازن بين الدولة والمقاومة كان شريكاً في القرار .
لبنان لا يتجه نحو تسليم أوراقه ولا نحو حرب شاملة، نحن أمام مرحلة انتقالية دقيقة، تُدار فيها السياسة بقدر ما تُدار فيها النار.
قد يكون الانفراج قريباً، وقد تتعثّر الخطوات، لكن المؤكد أنّ أي مستقبل للبنان لن يُكتب إلا بشراكة ثلاثية وهي ان الدولة التي تفاوض، المقاومة التي تردع، والبيئة اللبنانية التي ترفض التطبيع المجاني، وتعرف أنّ قوتها ليست في الاستسلام بل في إدارة التوازن بحكمة.
لبنان اليوم في اللحظة الأكثر حساسية منذ 2006، كل المؤشرات تقول إننا أمام تسوية كبرى تُطبخ، لا حرب شاملة.
وما يجري هو محاولة رسم لبنان جديد، قد نشهد فيه حضوراً اقتصادياً أميركياً عربياً متزايداً، تثبيتاً لمعادلة ردع معدّلة، بقاء المقاومة لاعباً سياسياً أساسياً لا يمكن تجاوزه، لكن يبقى السؤال الذي لم يُجب عنه أحد هل ستكتفي إسرائيل بما قدّمه لبنان حتى الآن، أم أن شهية تل أبيب المفتوحة ستعيد المنطقة إلى حافة انفجار جديد.
لم يكن تصاعد التهديدات الإسرائيلية بإشعال الجبهة اللبنانية حدثاً معزولاً أو وليد توتر ميداني عابر، بل يكشف يوماً بعد يوم أن خلفية مسار التطبيع في المنطقة كان يحتاج الى هذا التهويل وجر لبنان للتفاوض المباشر تحت النار، والإبرة التي حاولت  واشنطن تمريرها في جسد لبنان لتخييط بدلة سياسية ، أمنية جديدة ممهورة بالعلم الأميركي وبسلام واقعي مع إسرائيل، باتت على مشارف آخر غرزة بانتظار إخراجٍ دقيق لا يصدم اللبنانيين الذين قدّموا شهداء في مواجهة إسرائيل، ولا يدفع بحزب الله نحو انكشاف سياسي وخسارة رصيده الشعبي.
المشهد الإقليمي يُعاد رسمه بسرعة، فالمصادر الدبلوماسية وخصوصاً الأميركية، تروج داخل الأوساط السياسية اللبنانية لرواية مفادها أن فبراير-شباط 2026 سيكون تاريخ ولادة لبنان جديد مزدهر اقتصادياً، تتدفق إليه الأموال والشركات الأميركية، غير أن السؤال البديهي يبقى كيف يتحوّل بلد مفخّخ بالأزمات، ومحاصر بالنزاعات، ومثقل بتوازنات معقّدة، إلى منصة اقتصادية أميركية.
ختامًا صحيح أن الإقليم تغير، وأن خطوط الإمداد تأثرت بالتحولات في سوريا وبالسجالات الأميركية الإيرانية، وعلى اللبنانيين على مستوى أصحاب القرار قراءة هذه التحولات الكبرى والتكيف معها بما يخدم مصلحة لبنان العليا.
شارك هذا الموضوع

أحمد مطر

صحفي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!