ساعي البريد الاحتفالي مازال يقرع الأبواب المغلقة
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
في رده على الفنان منصف إدريسي الخمليشي يقول الاحتفالي، معبراً عن إعجابه بمسرحي شاب يمشي بثبات نحو المستقبل، ما يلي: (هكذا رأيتك؛ أن تكسر جدار الصمت، وأن تنطق بالحق، لأن الموهبة منحة ربانية، ولا يمكن لوزير أو مدير أو أي كبير أن يصنعوا موهبة، أو حتى نصف موهبة، أو مجرد جزء صغير من موهبة).
وهذا الاحتفالي، المؤمن بالشباب وبالمستقبل، هو الذي يقول اليوم في كتاباته الجديدة ما يلي: في البدء تكون الموهبة، والموهبة منحة من عند الله، ثم من بعد يأتي الاجتهاد، وعلى قدر الاجتهاد يأتي الإبداع، بنفس صدقه ومصداقيته، وبنفس عنفه وعنفوانه، وفي كل اجتهاد صادق يكمن سحر خفي يسمى الإلهام، والذي هو رسالة مشفرة تأتيك أنت الكاتب من بعيد جداً، وقد يأتيك هذا الإلهام من اللا مكان وأنت لا تدري، وقد يأتيك من جني أو من جنية، ليقولا لك قولاً، أو ليهديانك صورة، أو ليقترحا عليك فكرة جديدة.
وأنت الكاتب، لا تتلقى هذه الرسالة إلا لأن هناك قوة عليا قد اختارتك أنت دون غيرك، وفي هذا الاختيار يكمن الحب، ولهذا يقول لك الاحتفالي ما يلي: ــ اكتب بحب، واقرأ بحب، وانظر للعالم بحب، واكتب المسرح بحب، وعش المسرح بحب، واكتبه، واكتب عنه بحب، وكن في هذا الحب منصفاً، واعشق كل الفنون تعشقك كل الفنون، ولا تفرق بين فن وفن، وكن مثل الجنية “عيشة قنديشة”، والتي قالت في المسرحية التي تحمل اسمها: “إنني أحب كل الفنون، لأنها صناعة الجن، نعم أحبها كلها، وأجمل كل الفنون عندي فن العيش، وفي مدرسة الحياة درست علوم الحياة، وفي مدرسة الطبيعة تعلمت علوم الأرض والسماء وما بينهما، وأنا في الفن والعلم لست عنصرية، ولن أقول هذا الفن أحسن من ذاك، ولا أقول هذا العلم أفضل من غيره”.
وبحسب الاحتفالي، فإن وجود فن ينقصه الفكر ليس فناً، ووجود فن ينقصه العلم هو فن أعرج أو أعور أو أحول. وطرق الفن والعلم والفكر في الحياة متعددة ومتنوعة، وقد يظهر أنها مختلفة ومتناقضة، ولكنها تؤدي كلها إلى نفس الغاية؛ التي هي جمالية الجمال، وهي إنسانية الإنسان، وهي الإمتاع وهي الأنس، وهي المؤانسة، وهي الإقناع وهي الإشباع، نفسياً وفكرياً وروحياً.
وهذا المسرح الذي يشتغل بالتغيير، ألا يستحق أن يكون له نصيب من التغيير في سياسة الحكومات المتعاقبة؟ ومن يفكر من السياسيين في الأمن الغذائي وفي أمن الحدود، عليه أن يعرف أن الأمن الثقافي لا يقل أهمية عن كل الاحتياجات المادية التي يحتاجها الوطن والمواطن، وقد يكون الأمن الثقافي والأمن الوجداني والأمن الروحي هو الأخطر، وذلك من منطلق أن الإنسان هو كائن ثقافي، وأنه يعيش بالرمزيات الثقافية كما يعيش بالماديات الحسية.
وهذا المجال الثقافي، والذي نأمل أن يلحقه التغيير أيضاً، وأن تكون له في مخططات الدولة سياسة ثقافية تليق بتاريخ المجتمع المغربي، وتليق بتاريخه وبثقافته وبحضارته العريقة، وأن يتم التأكيد في هذه السياسة على الجمال وعلى الكمال وعلى الحوار وعلى البحث وعن الاجتهاد وعلى تكافؤ الفرص بين المسرحيين، وعلى رفض العنصرية والشللية والعشائرية.
وهذه الاحتفالية، في معناها ومبناها، ماذا يمكن أن تكون سوى أنها رسالة؟ هي رسالة جاءتنا من جهة مجهولة، وكانت سبباً مباشراً من أجل أن نلعب فيها دورنا المسرحي الحقيقي في مسرحية الوجود. لقد أعطانا مؤلف الوجود دور ساعي البريد، وأعطانا رسالة، وألزمنا بأن نقوم لتسليمها لمن يهمه أمر الحياة، ولمن يهمه أمر مستقبل الإنسانية، ولمن يهمه مستقبل الجمال ومستقبل الكمال ومستقبل الفرح. هي رسالة إذن، كتبها كاتبها إلى كل الناس، في كل زمان ومكان، وهي رسالة فيها جمال وجمالية، وفيها صدق ومصداقية، وفيها متعة أدبية وفنية.
في البدء، كنا نظن هذه الاحتفالية مجرد مسرح آخر من بين كل مسارح العالم المتعددة والمتنوعة، وقلنا هي مسرح وكفى، وأكدنا على أن هذا المسرح الآخر له مناخ مختلف، وله طقس مسرحي مغاير، وله إيقاع بأكثر من سرعة واحدة. ومع توالي الأيام والأعوام وجدنا هذه الاحتفالية تكشف لنا عن عوالم سحرية فيها، واكتشفنا فيها عقلانية وحكمة، وأن فيها شاعرية وفيها إنسانية، وفيها مدنية، وفيها أمل وتفاؤل، وفيها كشف ومكاشفة، وفيها أجساد وأرواح حية، وفيها أرض وسماء، وفيها حلم بسعة العيون العاشقة والحالمة، وفيها عيد وتعييد وفرح مستحق. ولأن هذه الاحتفالية كانت أكبر مما يمكن أن تحمل أكتافنا، فقد اختزلنا هذه الاحتفالية في رسالة، لها كلمات وعبارات، وبها علامات وإشارات وبها رهانات واختيارات، وحملناها إلى كل الناس.
الرسالة الاحتفالية من يكتبها ومن يقرأها؟
وهذه الرسالة الاحتفالية، والتي حملها ساعي البريد الاحتفالي، والتي كلفته نصف قرن من حياته، قضاها كلها، ومعه كل الاحتفاليين الصادقين، في طرق الأبواب المغلقة وفي طرق العقول المقفلة وفي مخاطبة الآذان الصماء وفي الرقص أمام العيون العمياء، هذه الرسالة مازالت لحد هذا اليوم تنتظر من يحسن قراءتها، وتنتظر من يفك شفرتها، ومن يحاورها بعقل العلماء، وبروح الشعراء، وتنتظر من يدرك مقاصدها الحقيقية، والتي هي مقاصد علمية وفكرية وجمالية وأخلاقية خالصة، لا علاقة لها بالحسابات النفعية العابرة.
وأصدق ما في هذه الاحتفالية هو أنها رسالة إنسانية، وأنها مدنية، وأنها عقل وعقلانية، وأنها اجتهاد وحرية، وأنها شعر وشاعرية، وأنها حوار بين النفوس العاقلة، وأن الاختلاف فيها ليس مطلوباً لذاته، ولكنه مجرد درجة أساسية في سلم العلاقات الإنسانية الجميلة والنبيلة، والتي ينبغي أن تنتهي بالاتفاق والوفاق، وهي اقتراح لا يلغي كل الاقتراحات الفكرية والجمالية الأخرى، والتي قد يكون فيها ما هو أبلغ.
وإنه مما جاءت به الاحتفالية في مسرحية (المقامة البهلوانية)، والتي أخرجها المخرج المجدد د. عبد المجيد شاكر، يطرح الاحتفالي مسألة الإبداع العبقري في عصر التفاهة، ويسوق مسألة العبقرية في غير زمانها، وفي غير سياقها وفي غير وطنها ولدى من لا يفهمها ومن لا يقدرها، مما يعني أن الإبداع العالِم يحتاج للقارئ العالِم، ويحتاج للمتلقي الواعي، وأن يكون المناخ مناخ فكر ومناخ علم ومناخ فنون جميلة.
إن العبقرية هي فعل وتفاعل، وهي فهم وتفاهم، وهي مشاركة وتكامل، ولا يكفي أن تكون عبقرياً وحدك وفي زمن غير عبقري، وأن تكون “مثل صالح في ثمود” كما قال الكبير أبو الطيب المتنبي. والعاقل لدى المجنون هو المجنون، ويبقى الإنسان غريباً مع من لا يفهمه، ولدى من لا يقدره وفي الأوطان التي لا تحس بوجوده.
وبالنسبة للرسالة الاحتفالية، لم يقف الأمر عند حد الرفض فقط، بل وصل إلى حد الكراهية، وكأن هذه الرسالة لم تكن رسالة محبة ورسالة فرح ورسالة سلام. وفي كتاب (مسافر وجهته السحاب) وفي عنوان فرعي هو (الحرية وثمن عشق المعرفة)، يقول الاحتفالي، الداعي للحب وللتلاقي والحوار وللاختلاف الإيجابي ما يلي: (وأعرف أيضاً، أن الكراهية غالباً ما تكون بالمجان، وأعرف أنها في أغلب الحالات فضول بلا معنى، ولكن الحب الحقيقي له ثمن، وثمنه باهظ بالتأكيد، وهذا الثمن لا يقدر عليه إلا القادرون من أهل المحبة والعشق والتصوف. وبقدر ما يعظم الحب في القلوب الصادقة والكبيرة يعظم الثمن أيضاً، وشهداء العشق الإلهي أكبر شاهد على ذلك، وفي مقدمتهم الحلاج والسهروردي ورابعة العدوية وكل شهداء العشق الإلهي، كما أن شهداء حب الأوطان شاهد أيضاً على ذلك. وحيثما يكون الحب يكون الولع، ويكون الوجع، ويكون الحزن، وتكون المعاناة الصادقة، وأعرف أنه ليس بعد الحزن إلا الفرح، وأنه ليس بعد الشدة إلا الفرج، وأنه ليس بعد ظلمة الليل إلا نور الفجر. ولأجل ذلك الآتي غداً، والذي قد يأتي قريباً أو بعيداً، ولأجل ذلك النور الموجود في آخر هذا النفق المظلم، فقد تحملت كثيراً من العذابات ومن الإهانات ومن المؤامرات ومن الخيانات. لقد تحملت في صمت كثيراً من الألم ومن الوجع ومن العذاب، وحملت صليبي فوق كتفي، ومشيت حافي القدمين سنيناً طويلة على الأشواك، وطوال كل هذه العقود الطويلة من الزمن، لم يسمع مني أحد أية شكوى، ولم ألم هذا المسرح الذي أدخلني في متاهاته، والذي جرّ عليّ كل هذا الكم الهائل من العداء ومن الكراهية، والذي ابتلاني ـ بشكل مجاني ـ بأعداء في زي الأصدقاء، والذي جمعني بفاسدين وبمفسدين وبمنافقين وبممثلين سيئين، ارتدوا أقنعة الصالحين والمصلحين من غير أن يكونوا من الصالحين ولا من الصادقين. ولأنهم خدعوني عن سابق إصرار وترصد، فقد انخدعت لهم، وأعترف أن خداعهم كان أكبر مني، وأن مكرهم كان أقوى مني، ولقد انخدعت لأنني احتفالي، ولأنني أرى العالم بعين احتفالية، ولأنني أنطلق من افتراض أن الأصل في الوجود وفي الموجودات هو الجمال، وأن القبح عطب من أعطاب الحياة ومن أعطاب الأحياء، وبهذا فهو عندي استثناء عابر وليس قاعدة قائمة ومقيمة، هو استثناء في مسيرة الناس وفي مسيرة الأفكار وفي مسيرة الأشياء. ولقد أكدت دائماً على أن هذا الاستثناء المؤقت والعابر لا حكم له أو عليه، ولقد آمنت دائماً بأن كل عطب يمكن أن يصلح، ولقد أعطيت نفسي الحق في أن أكون هذا المصلح الدونكيشوتي المحارب، والذي كتب عليه أن يحارب طواحين الهواء، وذلك في غير عصر الهواء وفي غير زمن الرياح وطاقة الرياح، وقد يكون هذا غروراً مني، ولكنه غرور جميل ونبيل بكل تأكيد، وهو صادق وحقيقي في كل الحالات).
متاعب الحكواتي في (المقامة البهلوانية)
وفي مسرحية (المقامة البهلوانية) يمكن أن نقف على هذه العلاقة غير السليمة، وذلك بين الحكواتي والناس، وبين الحكواتي والمؤسسة، وبين الحكواتي والمناخ الثقافي العام. وفي بداية المسرحية يأتينا من بعيد جداً صوت خارجي هو صوت الأب القادم من عالم الموتى، يخاطب الصوتُ الحكواتيَّ المصرَّ على الحكي والمحاكاة في هذا الزمان: ــ لا تقصص رؤياك على إخوتك يا نور الدين.. ويدور الحوار التالي، بين الحكواتي العاشق لصناعة الحكي وصوت الأب القادم من العالم الآخر، وهذا جزء من الحوار الذي تبدأ به مسرحية (المقامة البهلوانية): (ــ هذا صوت أبي.. سمعته قادماً من بعيد، وترددت قليلاً ثم تكلمت.. لقد قلت له: لا أقدر يا أبي.. وشرف قدرك لا أقدر.. فما أنا إلا حكواتي من بني الحكواتيين، ولعبة الحكي هي مهنتي وحرفتي وصناعتي، وقبل هذا اليوم كانت حرفتك أنت أيضاً، وكانت حرفة أجدادي وأسلافي، وهي اليوم وجودي وحياتي، وهي خطواتي التي لا أعرف إن كنت أنا الذي أمشيها، أو كانت هي التي تمشي بي.. هي جلدي يا أبي، وإنني لا أملك أن أخرج من جلدي.. ــ يا نور الدين.. زمانك صعب وابن كلب، ولهذا أكلمك اليوم من وراء القبر، وأقول لك: لا تقصص رؤياك على أحد.. هل سمعت؟ واحتفظ بما ترى، وبما تسمع، وبما تعرف لنفسك.. ــ لا أقدر يا أبي.. وحق الله لا أقدر.. التفكير قدري، وصناعة الكلام صناعتي.. هي صناعتي التي لا أعرف غيرها.. ــ شيء جميل أن تفكر يا نور الدين، ولكن الأجمل منه ألا تفكر، حتى تريح وتستريح، وتكون من الرابحين.. ــ لا.. (يضحك) ماذا تقول يا أبي؟ ــ وشيء جميل أن تشتغل بالكلام، وأن تكون من علماء الكلام، ولكن.. الأجمل من كل هذا يا ولدي، أن تكون حكيماً مثل الصور ومثل التماثيل ومثل الدمى، وأن تكون عبقرياً مثل السادة الأموات، وألا تنطق إلا بلغة الصمت.. ــ يرعبني الصمت يا أبي، وأخاف ألا ينطقني الحق، وأصبح شيطاناً أخرس.. ــ يا نور الدين.. إذا كان من يرى الحق ويصمت شيطاناً أخرس، فإن من يراه وينطق، فهو بين عامة الناس مجنون، وهو عند علية الناس ملعون، أو ربما كان أتعس و(أكفس). ــ إنه لا يمكن أن أتوقف عن الكلام يا أبي، لأن الأصل في الإنسان الكلام، ولأن مهنتي الأحلام وصناعتي الكلام.. أخاف أن أنسى الكلام، إن أنا توقفت لحظة واحدة عن الكلام.. أنساه يا أبي فيتكلس لساني في فمي، وأصاب بالخرس، وأصبح بين هذه الأشياء شيئاً من الأشياء، وأصبح في رفوف هذه الأسواق سلعة وبضاعة.. إنني أكلم الآخرين إذا حضروا، وأخاطب أرواحهم إذا غابوا، وأناجي نفسي إذا كنت وحيداً، وأسبح لله تعالى بقلبي وروحي.. أنا إن سكت يا أبي، تنطق جوارحي بدلاً عني.. حتى صمتي يمكن أن ينطق أحياناً يا أبي، نعم، وفي كثير من الأحيان يكون أبلغ من لساني.. ما أراه أكبر من أن أحتفظ به لنفسي.. وتجربتي في حياتي أكبر من حياتي.. هذا ما قلت للوالد.. أو.. لروح الوالد.. ولأنني مجنون بسحر الكلام، فقد أشركت كل إخوتي فيما رأيت، وأصبحت مع الأيام قصاصاً وراوياً وحكواتياً وعرافاً وساحراً ومنشداً ومؤرخاً شعبياً..).
آخر الكلام
حقاً، إن الزمان قد تغير، ولكن المشروع الاحتفالي ـ في ثوابته الفكرية والجمالية الأساسية ـ لم يتغير، وبالعكس فقد زادته الأيام والأعوام نضجاً، وزادته غنىً. وذلك الحكواتي الاحتفالي الذي كان يحكي، مازال لحد هذا اليوم يحكي، وذلك الذي كنا نظنه الحكواتي الاحتفالي الأخير في سلالة الاحتفاليين، أصبح اليوم هو الاحتفالي الأول في تاريخ الحكي الاحتفالي الجديد والمجدد والمتجدد.
إن الذين حملوا هذه الرسالة الاحتفالية في ذلك الزمن السبعيني من القرن الماضي، قد كانوا في بداية العمر المسرحي، مفعمين كانوا بالحياة وبالحيوية، وكانت قلوبهم مفعمة بالحب وبالأمل، وبالقدرة على السؤال الجريء، ولقد كان في نيتهم أن يحرروا المسرح العربي، وأن يتحرروا به وفيه، وأن يساهموا بفكرهم التنويري وبمسرحهم التثويري في تحرير الإنسان العربي وفي تحرير الواقع العربي من الخرافات ومن اليقينيات الكاذبة ومن التبعية ومن الذيلية ومن الكسل الفكري والعلمي.
نحن الشباب الذي كان، رفعنا في وجه العالم شعار التحدي، ورفعنا عالياً شعار (نعم نقدر)، وآمنا بأن كل ما نريده نقدر عليه، وأن كل ما نتصوره ونتخيله يمكن أن نوجده على أرض الواقع، وقلنا وكتبنا، ولكل لغات العالم، الكائنة والممكنة، بأن المستحيل ليس عربياً، وليس من المشتبه جداً جداً أن يكون احتفالياً.
وقد يكذبنا الواقع، ولكنه أبداً لا يمكن أن تكذبنا الحقيقة، وهل هذه الاحتفالية إلا رحلة الإنسان باتجاه منابع الضوء، وباتجاه منابع الجمال، وباتجاه منابع الحق والحقيقة؟
ومضت الأيام بعد الأيام، ومضت الأعوام بعد الأعوام، ومازال هذا الاحتفالي الحالم يؤمن بأن الآتي غداً هو الأجمل، وهو الأكمل وهو الأنبل، وأن كل الأيام والليالي التي لا احتفالية فيها.. لا حياة فيها.
وقد يظهر أن الواقع اليوم هو واقع سيء ومتخلف، وأنه مؤثث بكل ألوان وأنواع التفاهة، ولكنه واقع عابر بكل تأكيد، وكل من يساهم في صناعة هذا الواقع الكاذب يقول كلمته الكاذبة ويمضي، وبهذا يسقط كثير من الكلام الذي يشبه الكلام وما هو بكلام، وتسقط كثير من الأوهام ومن الشعارات، وتتبخر في الفراغ المطلق، وأما ما ينفع الناس، والذي هو الفكر الحق وهو العلم الحق وهو الفن الحق، فإنه لابد أن يبقى في الأرض وفي التاريخ.
ومن الممكن جداً أن نكفر بالواقع، وأن نشكك في كثير من الوقائع الكاذبة والموسمية العابرة، ولكنه أبداً لا يمكن أن نكفر بالحقيقة ولا بروح الحقيقة ولا بجوهر مولاتنا الحقيقة.
