سيغموند فرويد إلى شايم كوفلر: لا يمكن أن تصبح فلسطين دولة لليهود

ترجمة: سعيد بوخليط
كتب سيغموند فرويد هذه الرِّسالة يوم 26 فبراير 1930، إلى شايم كوفلير جوابا على طلب سابق توصَّل به فرويد من جمعية ”أورشليم كيرين أجوسو” (نداء وحدة إسرائيل) ،نداء أُرسِلَ في نفس الوقت وجهة عدَّة شخصيات يهودية بارزة، قصد التوقيع على عريضة تدين العرب على ضوء اضطرابات حدثت في فلسطين سنة 1929 أدَّت إلى قتل مائة مستوطن.
تحوَّلت هذه الرسالة إلى أبراهام شوادرون، مكلَّف بتجميع توقيعات لأورشليم، مقابل وعد ”إخفائها عن كلِّ العيون وعدم الوصول إليها تماما”. بقي مضمونها متواريا جملة وتفصيلا عن الأنظار طيلة سبعين سنة إلى أن اكتشفها العموم خلال معرض في جامعة القدس.
نصّ الرسالة:
من البروفيسور فرويد
فيينا، 19 شارع بيرغاس، 26 – 02-1930
إلى السيد الدكتور شايم كوفلير،
لستُ قادرا على الاستجابة لما تطلبونه. إثارة انتباه الجمهور حول شخصي نتيجة تردُّدي هذا، مسألة مستعصية على التجاوز ولاتبدو لي أبدا الظروف الحرجة الحالية محفِّزة.
يلزم الشَّخص المتطلِّع نحو التَّأثير في عدد كبير امتلاك شيء مبهرٍ وحماسيٍّ بخصوص ما يودُّ قوله، غير أنَّ طبيعة موقفي من الصهيونية، لا يتيح لي هذه الإمكانية.
طبعا أضمر أفضل أحاسيس التَّعاطف حيال جهود تُبْذلُ بكيفية حرَّة، لذلك أنا فخور بجامعتنا في أورشليم ويسعدني ازدهار منشآت مستوطناتنا. لكن، من جهة أخرى، لا أعتقد أبدا في إمكانية أن تصير فلسطين دولة لليهود، أو قد يبدي العالم المسيحي، كما العالم الإسلامي، استعدادا خلال يوم من الأيام قصد التعهُّد بأمكنتهما المقدَّسة إلى الرِّعاية اليهودية.
سيكون هذا السَّعي أكثر حكمة حسب قناعتي، لو انصبَّت فكرة إنشاء وطن يهودي على أرض غير مشحونة تاريخيا؛ بالتَّأكيد، أعلم عدم إمكانية تحفيز الجماهير أو استمالة تعاون الأثرياء، حينما يتَّصف مخطَّط تصميم معيَّن بالعقلانية.
أعترف أيضا، بتحسُّر، انطواء تعصُّب مواطنينا غير الواقعي بما يكفي على جانب من مسؤولية إيقاظ مكمن الارتياب لدى العرب.
لا يمكنني الإحساس بأدنى تعاطف مع ورعٍ يُساء تأويله وقد اختلق من قطعة حائط المبكى (الحائط الغربي) إشارة قومية، يتمُّ بسببها تحدِّي مشاعر ساكنة البلد.
إذن، احكمْ بنفسكَ، هل في مقدوري من خلال وجهة نظر على قدر من الحرج، كي ألعب دور الشخص المهدِّئِ بالنسبة لشعب يترنَّح نتيجة وَهْمِ طموح غير مبرَّرٍ”.
ثانيا: تعليق على سياق الرسالة
شهر غشت 1929، بعد انقضاء سنتين على إصدار النُّسخة العربية لبروتوكولات حكماء صهيون، التي شكَّلت بعد سنوات قليلة بداية تبلور نزعة معادية للسامية على امتداد العالم العربي، حدثت اضطرابات وأعمال شغب داخل مدينة الخليل قتل خلالها الفلسطينيون، أفرادا ينتمون إلى إحدى أقدم المجموعات اليهودية الموجودة في الييشوف القديم.
أمام المطالب القومية للشعب الفلسطيني، الذي يشعر بأنه قد سُلِبَتْ أرضه، انقسم مسؤولو الحركات الصهيونية حول المسار الذي ينبغي الالتزام به. اعتبر بعضهم مثل زئيف فلاديمير جابوتنسكي، العرب محكومين بخاصيَّة بيولوجية تمنعهم دائما من استساغة الحضور اليهودي مما يحتِّم ضرورة إقامة ”جدار حديدي” ديمغرافي بين المجموعتين، مقابل هذا الرأي، بدأ إدراك مناضلي اليسار الاشتراكي يأخذ وعيا بضرورة التعايش. أيضا، طرحوا فكرة إنشاء مجلس تشريعي فلسطيني متساوٍ بين المطالب القومية للشعب الفلسطيني. كتب جورج بنسوسان: “يعتبر الإقرار للعرب بحقٍّ مشروع على فلسطين، تسوية على المقاس في نظر المسؤولين اليهود الذين يقتنعون بإجماع أنَّ الحقّ التاريخي لليهود غير قابل للمقارنة مع حقِّ إقامة العرب”.
لم تتوقَّف عن التفاقم مظاهر التمرُّد، القتل، العنف، مما أعاق إمكانية التَّوافق على حلٍّ بخصوص إشكالية السَّماح ببلوغ الأمكنة المقدَّسة، المحظورة على المهاجرين. انتقدت الصحافة العبرية بشدَّة اليهود الأرثوذوكسيين في مدينة الخليل واتَّهمتهم بكونهم تركوا أنفسهم عرضة للقتل دون مقاومة، بينما دعا صهاينة اليمين، لاسيما الشهير أبراهام شوادرون موظَّف أرشيف و جامع توقيعات، إلى احترام الضحايا، دون تقديمه مع ذلك أبسط تسوية للتراجيدية الفلسطينية الكبيرة، بعد مرور ستِّين عاما عن الهولوكوست، وإرثها في الوقت الحالي: ”لم تحاول مقدَّسات مدينة الخليل، الدِّفاع عن وجودها، أو البحث عن قتل واحد من المعتدين عليها، مادامت هي ميِّتة نتيجة موت غير أخلاقي تماما”.
في خضمِّ هذا السياق جاءت رسالة شايم كوفلر، عضو نمساوي في ”مؤسَّسة كيرين هايسود” (منظَّمة رسمية لجمع التبرُّعات)، إلى فرويد، بجانب مثقَّفين آخرين ينتمون إلى الشَّتات قصد دعم القضية الصهيونية داخل فلسطين وكذا مبدأ بلوغ اليهود حائط المبكى. سرعان ما أجابه فرويد عبر هذه الرِّسالة التي تنشر للمرة الأولى.
من الواضح، أنَّ خطاب مؤسِّس التحليل النفسي، قد أثار استياء أعضاء كيرين هايسود، بحيث وردت إشارة بين سطور رسالة أخرى بعثها شايم كوفلر إلى أبراهام شوادرون، تقول: ”رسالة فرويد،رغم صدقها وكذا نبرتها الدَّافئة، ليست إيجابية بالنسبة إلينا. مثلما حدث في فلسطين، لم تعد الرِّسالة سرّا، من المحتمل أنَّها ستغادر سلسلة التَّوقيعات عن مكتبة الجامعة، وتغدو متاحة للعموم. قد أكون غير مفيد لفعالية عمل مؤسَّسة كيرين هايسود، لكنِّي أتوخَّى على الأقلِّ عدم الأضرار بالقضية. إذا رغبتم ضمن الإطار الشخصي، في قراءة هذه الوثيقة، ثم تعيدونها إليّ بعد ذلك، سأرسلها مع الدكتور مانكا سبيغل خلال زيارة سياحية إلى فلسطين”.
أجاب أبراهام شوادرون شايم كوفلر بالعبرية، من خلال ملاحظات ذيلية أضيفت إلى الرسالة: ”حتما، لا يوجد سرّ معيّن داخل فلسطين لكن بما أنِّي لستُ مُتَجَنِّسا، فلن تحظى بالمساعدة حصيلة هذه السِّلسلة ولن يعاينها الجمهور قط، لن يطَّلع أيُّ شخص، على المضمون أو إمكانية وضعها رهن إشارة شخص غير صهيوني، حتى يتَّسم كلامي بالدِّقَّة المطلوبة، وهذا الوعد على مسؤوليتي: “أطلب منكم الإسراع على شاكلة رسل السماء (دانيال14/2)”. وأتقدَّم لكم بوعد على لسان المكتبة، بأنّ الوثيقة لن تبصرها عين بشرية (يعقوب 8/7)”.
احتُرِم الوعد لمدة ستِّين سنة تقريبا، المتعلِّق بعدم وقوع عين بشرية على فحوى الرسالة، التي اعتُبرت سيِّئة للغاية بخصوص القضية الصهيونية.
لكن، بما أنَّ أفضل طريقة لإخفاء أرشيف معين تتمثَّل أيضا في تدميره، هكذا خلقت الرسالة عدَّة إشاعات، بناء أيضا على اللُّغز الذي اكتنف تعقُّبها ووجودها. لم تنطو على شيء ثان غير سرٍّ لم يعد سرّا، مادام فرويد قد أفصح خلال مناسبات عدَّة عن نفس الرَّأي الذي انطوت عليه رسالته إلى مؤسّسة كيرين هايسود، حول الصهيونية وفلسطين والأمكنة المقدَّسة.
خلال نفس اليوم 26 فبراير 1930، بعث فرويد إلى أينشتاين رسالة أخرى تستعيد نقطة بنقطة المرجعية نفسها: كراهية الدين، التَّشكيك بخصوص إنشاء دولة يهودية في فلسطين، التَّضامن مع ”إخوته” الصهاينة ويسميهم أحيانا ”إخوته في العِرق”، أخيرا تعاطفه مع القضية الصهيونية، دون أن يتقاسم معهم نفس المشروع: ”يلزم الشَّخص المتطلِّع نحو التَّأثير في عدد كبير امتلاك شيء مبهرٍ وحماسيٍّ بخصوص مايودُّ قوله، غير أنَّ طبيعة موقفي من الصهيونية، لا يتيح لي هذه الإمكانية ”.
بدا فرويد فخورا بـ”جامعتنا” وكذا ”مستوطناتنا”، لكنه غير مقتنع قط بإنشاء دولة يهودية، لأنَّ المسلمين والمسيحيين لن يأتمنوا اليهود على مزاراتهم المقدَّسة: “كان بوسعي تقبُّل الفكرة بشكل أفضل لو تأسَّس هذا الوطن اليهودي على أرض عذراء، غير مرتبطة تاريخيا”. ثم يستنكر ”التعصُّب اللاواقعي لإخوانه اليهود” الذين ساهموا في ”إيقاظ عدم ثقة العرب”، وأخيرا: “لا يمكني العثور داخلي على مكمن تعاطف نحو هذا الورع المضلِّل الذي يصيغ دينا قوميا انطلاقا من حائط المبكى، بحيث لا يتمُّ الاكتراث بالتَّصادم مع مشاعر الساكنة المحلية تحت وقع تأثير عشق بعض الأحجار”.
من جهة أخرى، وقصد إظهار استمرار مساندته للمشاريع الصهيونية، لاسيما بعض إمساك النازيين بالسلطة، لم يفوِّت فرويد فرصة الذِّكرى الخامسة عشر لتأسيس منظمَّة كيرين هايسود، كي يدبِّج رسالة مدح إلى ”لايب جافي”: ”أريد إخباركم عن مدى إدراكي لفعالية مؤسَّستكم، إنَّها أداة قوية ومفيدة على مستوى تثبيت شعبنا على أرض أجداده، أرى في ذلك بالخصوص إشارة عن انتصار إرادتنا للحياة التي تَحَدَّت غاية الآن ألفي سنة من الاضطهاد الخانق”.
لكن حين قدوم فرويد إلى لندن عام 1938، والتمس منه المندوب الانجليزي لمنظمة كيرين هايسود رسالة دعم جديدة، أجابه بطريقة سلبية. لم ترغمه قط الاضطهادات المعادية للسامية التي غادر بسببها فيينا على تغيير رأيه. أحسّ دائما بتضامنه مع شعبه اليهودي لكنه تمسَّك بكراهيته لمختلف الأشكال الدينية، بما في ذلك اليهودية نفسها.بناء على ذلك، استساغ بصعوبة قدرة دولة يهودية على التَّبلور العملي تحديدا مادامت دولة من هذا القبيل، بإعلانها عن وجودها من خلال صنف ”دولة يهودية”، ليس بوسعها أبدا أن تسلك سبيلا في نظره نحو دولة علمانية.
وفق كلمة واحدة، يماثل فرويد بين الحركة الصهيونية ضمن توجُّهها العام مع مشروع إعادة تهويد اليهود، عبر مسيحانية جديدة.لقد فَضَّلَ وضعيته كيهوديّ ينتمي إلى الشَّتات، كونيّ، ملحد، على وضعية مرشد روحي مرتبط بأرض موعودة جديدة:
“أشكر لكم استقبالي في انجلترا، وأودُّ أن التمس منكم عدم الارتقاء بي إلى درجة ”قائد لإسرائيل”. أتطلَّع فقط كي تتعاملون معي باعتباري مجرد رجل علم، دون أيِّ صفة أخرى. أنا يهودي إيجابي لم يتنكَّر إلى اليهودية، ولا يمكنني مع ذلك التخلِّي عن موقفي السلبيِّ كليّا نحو مختلف الديانات بما في ذلك الديانة اليهودية، مما يجعلني مختلفا على زملائي اليهود وغير مؤهَّل للقيام بالدور الذي تودُّون إسناده إليّ”.
لا يجهل فرويد الحركة الكبيرة لتجدُّد أجيال اليهود منذ الآباء المؤسِّسين للصهيونية: تيودور هيرتزل وماكس نوردو.يعرف الأشخاص والأفكار،لم يرفض قط يهوديته،بمعنى الإحساس بانتمائه ليس إلى الديانة اليهودية،لكن هويته كيهودي بلا إله، يهودي نمساوي مندمِجٍ وصاحب ثقافة ألمانية، يرفض تصوُّر أنَّ فكرة العودة إلى أرض الأجداد بوسعها ضمان أدنى حلٍّ إلى إشكالية معاداة السامية أوروبيا. لذلك، دعا إلى اختيار أرض أخرى غير أرض الجذور: أرض جديدة بغاية عدم الاضطرار إلى خوض حروب دينية جديدة.
بهذا الخصوص، استحضر حدسه البارع قضية السِّيادة على الأمكنة المقدَّسة ونواة النِّزاع المعقَّدة تقريبا التي ستشكِّلها في يوم من الأيام، سواء بين الديانات التوحيدية الثلاث، ثم بين شعبين متآخيين يعيشان داخل فلسطين. لقد أبدى خشية فعلية نحو استعمار متعسِّف يفضي إلى الصراع ثم المجابهة على قطعة جدار وثنية، بين عرب متعصِّبين ومعادين للسامية ويهود متطرِّفين وعنصريين.
لا نعاين عند فرويد شيئا من الشَّتائم الكبيرة التي تؤثث نقط وفواصل خطابات ماكس نوردو حول مستقبل ”اليهودي الجديد”، ولاينظر إلى اليهود الأوروبيين مثل كائنات مَرَضية، تعرَّضت سلالتها للتَّهجين جرّاء قرون من الاضطهاد، كما أنّه استبعد تماما نظرية الانحلال، وعلم نفس الشعوب، ولم يؤمن بأنَّ الإرساء وحده على أرض سيمنح اليهود جسدا بيولوجيا متجدِّدا أو نفسية قد تطَهَّرت من كلِّ العيوب القديمة المرتبطة بتدهورهم.
عكس ذلك، اعتقد فرويد بانطواء اليهودية الفكرية، المنفصلة عن جذورها الدينية أو الطائفية، على شيء”معجز وصعب المنال عن كل مقاربة تحليلية”. يتجسَّد هذا الشيء، في ”ما هو خاصٌّ باليهودي”، تمثَّله فرويد غاية إصداره كتاب ”موسى والتوحيد”، ليس كانتقاء، أو خصوصية، بل مثل حالة عبر- تاريخية قادرة وحدها على إرشاد اليهود نحو سموٍّ حقيقي،بمعنى هذه القدرة الخارقة على مجابهة الجماهير وأحكامها القَبْلية ضمن أقصى درجات الانعزال: “تلزمني صفتان بناء فقط على طبيعتي كيهودي، أصبحتا ضروريتان إبّان عزلتي الصعبة. لأنِّي كنتُ يهوديا، وجدتني متحرِّرا من أحكام قَبْلية كثيرة قَيَّدَت لدى الآخرين توظيف ذكائهم باعتبارهم يهودا، لقد كنتُ على استعداد للتحوُّل إلى المعارضة والتوقُّف عن التوافق مع الأغلبية المندمِجة”.
لا تعرف أرض فرويد الموعودة حدودا ولا وطنا، وغير محاطة بجدار معين، ولا تحتاج لأيِّ أسلاك شائكة قصد تأكيد سيادتها. إنَّها تسكن داخل الإنسان ذاته، بين طيَّات وعيه، نسجتْها كلمات وخيالات. فرويد وريث رومانسية أضحت علمية، استعار مفاهيم اشتغاله من الحضارة الإغريقية – اللاتينية والثَّقافة الألمانية .أمَّا الأرض التي ادَّعى استكشافها، فقد وضعها في مكان ثان يستحيل تحديده: المقصود ذات تخلَّصت من سيطرتها على الكون، انفصلت عن جذورها الإلهية، كي تنغمس في قلق أنانيتها.
نفهم إذن سبب هاجس فرويد، المنتسب لحركة هَسْكَلَة (حركة تنوير يهودية)، على امتداد حياته، من حَصْر التحليل النفسي كـ”علم يهودي”، بمعنى إمكانية سريان اعتقاده مجرّد تحليل نفسي للخصوصيات وليس نظرية علمية وكونية للاوعي وكذا الرغبة. رفض فرويد احتجاز نظريته داخل غيتو.
لذلك وقصد إظهاره حقا بأنَّه لايرفع لواء العبقرية، فقد كشف عن استعداده لكلِّ شيء، لاسيما التعهُّد إلى كارل غوستاف يونغ، وهو ليس يهوديا و معاديا للسامية، الإشراف على الجمعية الدولية للتحليل النفسي. كتب سنة 1908، إلى كارل أبراهام: ”رفاقي الآريين مسؤولون فعلا، وإلاّ سيكون التحليل النفسي فريسة لمعاداة السامية”.
لكن الأكثر إدهاشا، حينما غادر غوستاف يونغ سنة 1913، حلقة فرويد كي يخلق حركته الخاصة، أثار ذلك استياء وغضب وانفعال فرويد. بالتالي، خلال فترة معينة، ونتيجة أزمة معينة لإعادة تهويد متخيَّلة لنظريته، أعلن بأنَّ اليهود الجيِّدين، المقصود تلاميذ الدَّائرة الأولى لوسط أوروبا، وحدهم بوسعهم مستقبلا، إنجاز سياسة التحليل النفسي، أخيرا، أوكل مهمَّة التسيير الثقيلة إلى إيرنست جونز، الوحيد غير اليهودي ضمن اللجنة السرِّية.
نعلم ما جرى بعد ذلك.سنة 1935، تحمَّس جونز لـ”إنقاد” التحليل النفسي ووافق كي يترأَّس في برلين ندوة داخل الجمعية الألمانية للتحليل النفسي اضطُرَّ خلالها غير اليهود على الاستقالة. فيما بعد، حدث إقرار التحليل النفسي كـ”علم يهودي” من طرف النَّازيين الذين تبنُّوا مشروع تدمير فعلي، ليس فقط من طرف الأطباء غير المنفيين، بل على مستوى معجمه، كلماته، مفاهيمه. وُظِّفَتْ بالدرجة الأولى، الصِّفة التي أفزعت فرويد كثيرا على نظريته دون أن تشمل قط باقي مدارس الطبِّ النَّفسي الدِّيناميكي التي أسَّسها اليهود. بالتأكيد لأنَّ التحليل النفسي اعتُبِرَ الوحيد الذي دعا إلى إرث يهودية دون إله، والانفصال عن جذورها، بالتالي اندراجها ضمن الموروث البشري، تصوُّر من هذا القبيل جعله هدفا للتَّصفية. حين إبادة اليهودي لأنَّه يهودي، معناه إبادة الإنسان نفسه.
بعد طمس معالم رسالة فرويد إلى كيرين هايسود، اختبرت مصيرا مضطربا.سنة 1978، وردت إحالة بالانجليزية ضمن فقرات مقالة حول فرويد وكذا تيودور هيرتزل، ثمَّ سنة 1991، أشارت إليها أسبوعية جزائرية أرادت التأكيد بأنَّ فرويد لم يكن أبدا متعاطفا مع الصهيونية، ثم تُرْجِمَت الرِّسالة كاملة إلى الانجليزية من طرف بيتر لوينبرغ، محلِّلة نفسانية أمريكية وعضو الجمعية الدولية للتحليل النفسي، نشرتها وأرفقتها بتعليق شخصي، جعل الرسالة معادية للسامية وواعية قليلا بالمستقبل: ”لقد أخطأ فرويد فيما يتعلَّق بتخمينه مادامت الدولة الإسرائيلية موجودة فعلا”.
لقد نسيت بيتر لوينبرغ، التزام فرويد دائما رغم تحفُّظه بخصوص إنشاء دولة يهودية في فلسطين، كي يفصح عن تضامنه مع جماعة الصهاينة وفق شعار: من يحبُّكَ حقا يقسو عليكَ.
أكَّد آلان دو ميجولا، المحلِّل النفسي الفرنسي، على أهمِّية التَّعريف بهذه الرِّسالة الفرويدية داخل فرنسا: ”كتبتُ إلى بيير فيدال ناكي ملتمِسا منه نصيحة. عدم توزيع رسالتي أخَّرَ جوابه. لكن خلال شهر أكتوبر 2002 بلغتني الملاحظة التالية بعد أن أرسلتُ الوثيقة ثانية: اتَّضح لي حقا من خلال هذا النصِّ عدم اهتمام فرويد بالأوهام الشائعة”، ثم بعد أيام، وردت إشارة ”لاتفتقد للدعابة”، مفادها اقتراح الرسالة على مجلة دراسات فلسطينية.
رفض آلان دو ميجولا المقترح، مبرِّرا ذلك بقوله: ”لاأريد أن تُتَّهم الجمعية الدولية لتاريخ التحليل النفسي بمعاداة فرنسية للسامية، بحيث لاتتردد جرائد عدة في سبيل التبليغ عن ذلك. أتمنّى لعِبَ صديق يهودي دور الضامن لمصلحة تاريخية خالصة بخصوص وثيقة، لاشيء يبرِّر خارجيا إصدارها خلال هذه اللحظة بالذات”(21).
شهر أبريل 2003، صدرت وثيقة فرويد باللغة الايطالية على صفحات ”مجلة سيينا” ثم “كوريري ديلا سيرا”، وبين صفحات”لوموند”، خلال شهر يونيو، هكذا عثرت أخيرا الرسالة العالقة على وجهة وجودها.
شهر يوليوز، التمس مني آلان دو ميجولا بلطف الإدلاء بوجهة نظري. أجبتُه باتِّفاقي مع قرار فيدال ناكي، لكن فيما يخصُّني، آمنتُ بأنَّ أرشيفا ينبغي حتما طرحه للعموم دون شرط ولا استراتجية .لا أحد حسب وجهة نظري الشخصية يملك حقّ إخفاء نصٍّ كتبه فرويد سنة 1930، بحكم دواعي خدمته أحيانا لمصالح معسكر وأحيانا أخرى دعاية طرف ثان.
________________
مرجع المقالة:
Élisabeth Roudinesco :cliniques méditerranéennes.2004.numéro70.pp.19 -31.