صيف في باريس
أحمد لعيوني
كان الحسين، ابن السابعة عشر، قد حصل لتوه على شهادة الباكالوريا في صيف 1972.
عمّت الفرحة الحي بأكمله، لقلة من وصلوا هذه المرتبة من بلدته. لكن داخله كان يغلي بحلم آخر…حلم السفر إلى أوربا لقضاء عطلة الصيف. لم تكن الهجرة سوى مغامرة لا يقدر عليها إلا المتيم بالمجهول، أو الملتاع بالضيق، أو التواق إلى عالم أوسع. وكان الحسين منهم جميعا.
في إحدى صباحيات غشت، انطلق الحسين مع مجموعة من العمال المهاجرين العائدين إلى فرنسا بعد انقضاء العطلة. تشبث بمقعد خلفي في سيارة بيجو 404 لأحدهم، متراصا بين الحقائب والوسائد وعلب السردين. الطريق طويل، والحديث محتدم بين الرجال عن المصانع وشقاء العمل وغلاء باريس.
كان الحسين يستمع أكثر مما يتكلم، وفي جيبه ثلاث ورقات من فئة مائة فرنك فرنسي، وهي العملة الفرنسية آنذاك. يختبئها كأنها كنز. وبعد مرور اليوم الثاني من المسير، عند منتصف الليل، ظهرت باريس أمامهم، متلألئة بأضوائها كنجوم متشابكة على الأرض. لم يكن الحسين قد رأى مدينة بهذا الحجم من قبل. نزلوا بأحد الأحياء العتيقة بالدائرة السادسة عشر، أغلب سكانه مهاجرون من مختلف
البلدان. صعد خلفهم إلى غرفة ضيقة تتراكم فيها الأغطية والروائح والذكريات المتعبة.
قضى معهم ليلتين، وفي صباح اليوم الثالث، قال له أحدهم بلهجة جافة :
– الحسين… الله يسهل عليك. حنا عندنا الخدمة ومشاغلنا، والغرفة ضيقة. ما نقدروش نزيدوك علينا;
– كان ذلك أول درس قاسٍ يتلقاه في الغربة.
لم يدرِ الحسين إلى أين يذهب. تجول بين الأزقة، وتوقف في محطة كَار دي نور. هناك تذكر صديقه مصطفى، زميله في الدراسة الذي سبقه إلى فرنسا ليكمل تعليمه، ويشتغل مؤقتا.
وبعناية القدر، التقاه قرب آلة التذاكر، يحمل حقيبة كتب، ويبدو أنحف وأكثر إرهاقا مما كان عليه في المغرب.
ارتمى مصطفى عليه فرحا :
– الحسين؟! واش معقول؟
ضحك الحسين وقال : – هاني… ضايع في باريس.
أخذه مصطفى إلى شقة صغيرة يقيم فيها مع عمال من مدينته. استقبلوه بترحاب محدود، لكنه كان يفي لتهدئة روحه. قضى يومين بينهم، يأكل معهم العدس، ومرق البطاطس والجلبان والجزر، ويتشارك معهم قصص حيهم والعمل والدراسة.
لكن في نهاية اليوم الثاني، وقف كبيرهم وهو المشرف على الغرفة، وقال بلطف ممزوج
بالصرامة :
– ولدي الحسين… راك مضيق علينا. الله يفتح عليك، ومرحبا بيك مرة أخرى غير للزيارة.
غادر الحسين الشقة، وقلبه يمتلئ جزعا بوحدة جديدة.
بدأت المرحلة الأصعب. العاصمة الفرنسية واسعة بإغراءاتها المثيرة. الشاب وحيد، والجيب شبه فارغ. كان يبيت أحيانا في محطات القطار، فوق كرسي خشبي، ويستند ظهره إلى مسنده البارد، ويضع حقيبته إلى جنبه علها تقيه برودة الجدار. وأحيانا ينام في الحدائق العمومية، خاصة قرب حديقة اللوكسمبورغ أو الشانزليزيه، يراقب السيارات الفارهة تمر بجانبه، بينما ينخر البرد عظامه.
وفي بعض الليالي، كان يبحث عن مأوى الشباب، يدفع بضع فرنكات مقابل سرير خشبي يقيه قسوة الشارع.
في إحدى أمسيات باريس، وبينما كان يتجول قرب سان ميشيل، اقترب منه مجموعة من الشباب بألبسة ملونة وشعر طويل. تبادلوا معه الحديث بكلمات فرنسية مبسطة وإشارات متفاهم عليها.
كانوا من الحركة الهيبيّة التي كانت شائعة حينها. يرفضون القيود ويؤمنون بالحرية والموسيقى والتجوال. جلس معهم على ضفة نهر السين، استمع إلى موسيقى القيثارة،
وشاهدهم يرسمون على الأرصفة بلا خوف من أحد. قال له أحدهم بالإنجليزية المكسرة:
– الحياة… مثل النهر. لا تسأل إلى أين يجري… فقط تسبح معه. لم يفهم الحسين الجملة بتاتا، لكنه أحس أن باريس تعلّمه درساً آخر… أن يجد معنى للحياة حتى وسط الضياع.
سألوه أين يقيم، فرد بأنه متشرد في باريس، ولا مأوى له. وكان سبق له أن قرأ رواية جورج أورويل متشرد في باريس ولندن، وخيل إليه أنها تتكرر لديه، وربما يعيش بعض فصولها. دعوه لمرافقتهم حيث يقيمون بمقطورة مهجورة تقف في زاوية مظلمة من محطة أوسترليتز، لكنه وجدها رغم بساطتها، مليئة بالروح: شموع مضاءة، ألوان مرسومة على الجدران، وأصوات ضحك لا تنقطع.
ورغم فاقته، لم يترك الحسين الفرصة تفوته. كان يدخل المجاني من المتاحف والحدائق، ويشارك الجماهير في الاستمتاع بالحفلات العمومية التي تقام بالهواء الطلق طيلة ليالي الصيف هنا وهناك.
تجول في حدائق التويلري الفسيحة. جلس أمام برج إيفل يتطلع إليه. وصل إلى ساحة تروكاديرو، وقصر شايو. صعد إلى مونمارتر، وشاهد الرسامين قربها بساحة تيرتر Tertre يصنعون بورتريهات للسياح. زار متحف اللوفر في يوم مفتوح للعموم بالمجان. ضاع في حي بيجال الصاخب والحيوي في الدائرة التاسعة، وقد اندهش لعجائبية وغرائبية رواده. تفسح داخل قصر الأنفاليد حيث يرقد جثمان الإمبراطور نابليون بونابرت الذي درس عنه في مقررات التاريخ.
تعوّد على الطواف مراراً بسوق باربيس Barbès الخلفي لباريس بالدائرة الثامنة عشر. والتجول في سوق شاتلي ليهال Chatelet les Halles في وضعه القديم، الذي ذكّره فيما وصفه إميل زولا في رواية Le ventre de Paris.
كان يقترب من المصورين الذين يلتقطون للسياح صوراً جميلة، لكن بمجرد أن يعلنوا الثمن، يبتسم الحسين ويهز رأسه معتذراً. لم يكن يملك ثمن صورة… لكنه كان يحفظ كل مشهد في ذاكرته كأنها فيلم لا ينسى.
