“على جرف هار”: حين يتحوّل البيت إلى هاوية
عبدالله فضّول
في زمن تتكاثر فيه الروايات التي تستعرض المآسي الفردية والجماعية، تأتي رواية “على جرف هار”، للكاتب والروائي والمترجم لحسن احمامة، الصادرة حديثًا عن دار الثقافة للنشر والتوزيع بالدار البيضاء- المغرب، لتضيف لبنة جديدة إلى مشروعه السردي المتنامي، إذ تُعد ثالث رواياته، وتؤكد حضوره المتمايز في المشهد الأدبي المغربي والعربي. في هذا العمل، يواصل أحمامة استكشافه العميق للهشاشة الإنسانية، من خلال سرد عائلي متشظٍّ، تتناوب فيه الأصوات وتتقاطع المصائر، في نصّ يقف، كما عنوانه، على حافة الانهيار.

ما يُلفت في هذا العمل ليس فقط موضوعه، بل الطريقة التي يُصاغ بها هذا الألم. بأسلوبه المتزن، المشحون بالصدق، ينجح احمامة في تحويل الانهيار إلى لغة، واليأس إلى بناء سردي. لا يصرخ النص، بل يهمس، لكنه يترك أثرًا لا يُمحى. الجمل لديه ليست زخرفًا بل نبضًا، تتقاطع فيها البساطة مع الكثافة، ويُصاغ فيها المعنى من التفاصيل الصغيرة، من نظرة، من صمت، من جملة غير مكتملة. أسلوبه لا يُدين ولا يُبرّئ، بل يُعرّي، ويمنح الشخصيات حقها في التناقض، في الضعف، في الإنسانية.
عبد القهار، الشخصية المحورية، يحمل اسمًا يوحي بالجبروت، لكنه لا يلبث أن يتهاوى تحت وطأة ضعف داخلي لا يُرى. في التحليل السيميائي، يتحوّل اسمه إلى قناع ثقيل، يُخفي هشاشة رجل يتآكل من الداخل، ويُراكم الخسارات كمن يُراهن على وهم السيطرة. القمار هنا ليس مجرد فعل، بل علامة دالة على افتقاد المعنى، على محاولة يائسة لإعادة تشكيل الذات في مواجهة عالم يتفلّت من قبضته. وهنا تطرح الرواية سؤالًا وجوديًا عميقًا: لماذا يُقامر الإنسان؟ أهو بحث عن خلاص مؤجل؟ أم محاولة لتحدي القدر؟ في حالة عبد القهار، كل رمية نرد كانت صرخة صامتة في وجه العجز، وكل خسارة تُعيد إنتاج السؤال، لا الإجابة.
في المقابل، تقف بهيجة، الزوجة، كعلامة مضادة. اسمها، الذي يُحيل إلى الفرح، يتقاطع مع واقعها المظلم، في مفارقة سيميائية تُجسّد التناقض بين الدال والمدلول. هي بهيجة بالاسم، منطفئة بالفعل. لا تُجيد الصراخ، لكنها تُجيد الاحتمال. وجودها في النص ليس فقط بوصفها ضحية، بل كمرآة تعكس هشاشة البنية الأسرية حين تُبنى على رمال الثقة المتآكلة. خذلانها لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من رجل ظنّت أنه السند، فإذا به ينهار أولًا، ثم يُسقطها معه.
أما هيثم ، الابن، فهو العين التي ترى ولا تُفسّر، تُراقب ولا تتدخل. اسمه، الذي يُحيل إلى صقر صغير، يُضفي عليه بعدًا بصريًا ورمزيًا: طفل يطير فوق الحطام، لا ليهرب، بل ليُوثّق. في التحليل السيميائي، يتحوّل هيثم إلى حامل لذاكرة الانهيار، إلى أرشيف حيّ للشرخ الذي لا يُرمّم. لا يملك أدوات التحليل، لكنه يملك الحُزن، والدهشة، والذاكرة. يرى والده يتغير، ووالدته تنطفئ، وبيته يتحوّل إلى مسرح للانهيار. لا يصرخ، لكنه يسجّل، ويحمل آثار ما يراه إلى الأبد.
الرواية تُبنى على تقنية السرد العائلي، حيث تتناوب الشخصيات الثلاث على رواية الأحداث، مما يمنح النص عمقًا نفسيًا، ويُخرج الشخصيات من النمطية إلى التناقض الإنساني. لا أحد يُقدَّم كضحية مطلقة أو مذنب كامل، بل الجميع يتحركون في منطقة رمادية، حيث النوايا الطيبة لا تمنع الكوارث، وحيث الحب لا يكفي لإنقاذ أحد.
ما يميز الرواية أنها لا تكتفي بسرد الوقائع، بل تُبحر في أعماق الشخصيات، وتُظهر كيف أن الانهيار لا يحدث فجأة، بل يتسلل بصمت: من لحظة ضعف، من قرار خاطئ، من خيانة ثقة. كما تطرح تساؤلات حول المسؤولية، والخذلان، والعدالة، وتُجسّد كيف يمكن أن يتحوّل البيت إلى ساحة سقوط حين يغيب الوعي وتنهار القيم.
الرجل الذي ظنّ أن الحظ حليفه، لم يكن يعلم أن الطاولة التي جلس إليها ستسحبه إلى قاع لا قرار له. كل خسارة كانت تُغذّي فيه أملًا كاذبًا، وكل ربح كان يُقنعه أن النجاة قريبة، حتى وجد نفسه يسرق، لا ليربح، بل ليُسكت الجوع الذي خلقه القمار في روحه. والمرأة التي ظنّت أنها تبني بيتًا، كانت تبني جدارًا يحميها من الانهيار. لم تكن تدري أن الصديقة التي تأنس بها ستقودها إلى باب السجن، ولا أن صمتها الطويل سيُفسَّر يومًا كذنب.
الرواية لا تُدين أحدًا بقدر ما تُعرّي الجميع. كل شخصية تمشي على الحافة، وكل قرار صغير يقود إلى هاوية. لا يوجد شرّ خالص، ولا براءة مطلقة، بل بشر يتعثرون، ويكذبون، ويحبّون، ويخونون، ثم يدفعون الثمن. في النهاية، لا أحد ينجو تمامًا. حتى من لم يُقبض عليه، يحمل في داخله أثر السقوط. والرواية، كعنوانها، تترك القارئ واقفًا “على جرف هار”، لا فقط بوصفه مشهدًا بلاغيًا، بل كعلامة سيميائية مكثّفة: الجرف هو الحافة، والهار هو التهالك، والانهيار ليس حدثًا، بل حالة. وكأن كل بيت، مهما بدا متماسكًا، يخفي في داخله شقوقًا صغيرة، لا تحتاج سوى إلى زلة واحدة لتتحوّل إلى هاوية.
