على مسؤوليتي: السياسة المغربية.. من الانهيار الشامل إلى التلاشي القاتل

عبد الرحمان الغندور
بعيدا عن هرطقة الكلام ولغة الابتذال، أعود مرغما للكتابة في السياسة التي اصبح الكلام فيها يقترب من النجاسة، والهروب منها نوع من التطهر.
تتجه السياسة في المغرب اليوم نحو منعطف أكثر من مقلق، لأنه يهدد وحدة الوطن وينخر كل مؤسساته، بما فيها المؤسسة الملكية كضامنة لهذه الوحدة. حيث تبدو العملية السياسية برمتها – من شعارات وبرامج وخطابات وزعامات وأحزاب- وقد فقدت معناها الأصلي ومصداقيتها لدى شريحة واسعة من المواطنين والمواطنات. وتحول المشهد تدريجيًا إلى ما يشبه مسرحًا كبيرًا تُدار دفته غالبًا بواسطة دوافع تتعارض مع القيم النبيلة التي يفترض أن تمثلها السياسة، لتصبح ساحة لتحقيق المصالح الخاصة، تعززها آليات الفساد والوعود الكاذبة.
لقد انهارت المصداقية انهيارا كليا وشاملا، بسبب الشعارات الجوفاء التي تحولت إلى كلام زائف عن التنمية والعدالة الاجتماعية والدفاع عن المصلحة العامة باعتبارها ورقة ترويجية انتخابية. يطلِقها السياسيون في الحملات بكذب لا حياء فيه ولا خجل، لكنها تتبخر سريعًا بعد الوصول إلى المناصب أو تحقيق الغايات المرحلية، دون أن تتحول إلى سياسات ملموسة أو نتائج تُذكر. وهكذا يصبح الخطاب السياسي متعدد الأوجه، يتغير حسب الجمهور والظروف. وتصبح الوعود الكبيرة التي تُطلق في الساحات العامة متعارضة مع الممارسات الفعلية في المكاتب المغلقة، الشيء الذي يخلق فجوة عميقة بين القول والفعل، ويغذي الشعور بالخداع.
ولعل تراجع صورة “الزعيم” الملهم صاحب المبادئ والمشروع المجتمعي، (بوعبيد، اليوسفي، علي يعتة، بنسعيد آيت يدر، علال الفاسي، بوستة، …الخ )، من علامات الانهيار الشامل، حيث حل محلها في كثير من الأحيان نمط “السياسي المهني” الباحث عن المنصب، الذي تتغير مواقفه وولاءاته بمرونة مفرطة تبعًا للمصالح والحسابات الآنية. مما يقوض الثقة في القيادة السياسية برمتها، ويعلن التآكل التخريبي للأحزاب التي تفقد هويتها الأيديولوجية ومعناها كأدوات للتغيير والتعبير عن تيارات فكرية. ويحولها إلى مجرد منصات للوصول إلى السلطة أو المحافظة عليها، حيث تطغى المناورات الداخلية والصراعات على الزعامات والمناصب على العمل البرامج والنقاش الفكري الحقيقي. لتتحول السياسة عموما إلى ظاهرة انتهازية تسمح بالتنقل بين الأحزاب بحثًا عن فرص أفضل ومنافع أوفر.
لا أحد يعترض اليوم على أن سر هذا التدمير الذي لحق المشهد السياسي، يعود إلى تحويل السياسة إلى ساحة للمصالح الخاصة، وأن أبرز آليات التدمير هي سطوة الفساد المستشري كسرطان حقيقي ينخر جسد العملية السياسية ليتحول من ظاهرة شاذة، ينبغي مقاومتها إلى أسلوب عمل لدى جميع الأطراف. والذي يظهر في أشكال متعددة: كالمحسوبية، والرشوة، واستغلال النفوذ، والاختلاس، وتزوير الانتخابات. الشيئ الذي يجعل الفساد شرطًا للترقي أو الحصول على الفرص والغنائم، مما يُفقد المنافسة السياسية الشريفة أي معنى. ويعوضها بالوعود الكاذبة كاستراتيجية والتي لا يُقصد أصلاً الوفاء بها، بل أداة للترويج السياسي، هدفها كسب الأصوات في اللحظة الراهنة، دون أدنى اعتبار للمسؤولية الأخلاقية أو السياسية تجاه الناخبين لاحقًا. مما يكرس ثقافة اللامبالاة والخيانة للعهود. ويخرب القيم السياسية النبيلة في خضم هذا الصراع على المصالح، ويؤدي إلى تآكل القيم الأساسية التي تقوم عليها السياسة السليمة حيث تطغى المصلحة الشخصية أو الحزبية الضيقة على خدمة الصالح العام، في انعدام تام للنزاهة والشفافية وسيادة التعتيم وإخفاء المعلومات وغياب المحاسبة وانعدام المراقبة. وضياع المسؤولية والمساءلة. فينهار بذلك الجسر الأساسي بين الحاكم والمحكوم، -وبين الناخب والمنتخب وتنعدم.المنافسة الشريفة لتحل محلها المناورات والصفقات غير الأخلاقية واستغلال الثغرات.
إن هذا الوضع المتردي، بانهياراته وإفلاسه لا يترك أثره فقط على النخبة السياسية، بل يمتد ليشل المجتمع بأسره من خلال الاحتقان واليأس الشعبي حيث يتنامى الشعور بالإحباط وخيبة الأمل والغضب تجاه الطبقة السياسية بأكملها، مما يغذي الاحتقان الاجتماعي. وينمي العزوف السياسي، حيث يزداد عزوف المواطنين، خاصة الشباب، عن المشاركة السياسية (التصويت، الانخراط في الأحزاب) لاقتناعهم بعدم جدواها أو تغييرها للواقع. وهذا ما يفقد الديموقراطية شرعيتها كأساس للحكم والتدبير. ويستنزف طاقات وطنية هائلة في صراعات هامشية وتصفية حسابات بدلًا من التركيز على حل المشاكل الحقيقية للبلاد (التعليم، الصحة، التشغيل، التنمية).
وأكبر مخاطر هذا الوضع المتردي هو تآكل هيبة الدولة بجميع مؤسساتها بما في ذلك المؤسسة الملكية وفقدان جزء من شرعيتها في أعين المواطنين.
لا سبيل للخروج من هذا النفق المظلم سوى إرادة سياسية حقيقية وإصلاحات جذرية وشجاعة، يأتي على رأسها محاربة الفساد بلا هوادة وتعزيز استقلالية القضاء، وتفعيل هيئات الرقابة (مثل هيئة النزاهة ومكافحة الرشوة)، وتشديد العقوبات، وحماية المبلغين. والربط الوثيق بين الإصلاح السياسي والإصلاح القضائي. وإصلاح النظام الحزبي بوضع معايير صارمة لتأسيس وتمويل الأحزاب، وتعزيز الديمقراطية الداخلية، ومحاربة الانتهازية والتنقل غير المبرر. وتعزيز الشفافية والمساءلة وإلزامية الإفصاح عن الذمة المالية للسياسيين والمسؤولين، وتفعيل جميع أدوات الرقابة والمساءلة، وتعزيز حرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومات. الشيء الذي قد يساعد على ترسيخ ثقافة السياسة كخدمة عامة وليس وسيلة للثراء أو التسلق، وتعزيز التربية على المواطنة والديمقراطية.
السياسة في المغرب تواجه أزمة مصداقية عميقة. تحولها إلى مجرد أداة لتحقيق المصالح الخاصة عبر الفساد والوعود الزائفة وتجاهل القيم النبيلة ليس فقط يُفرغها من معناها، بل يهدد الاستقرار الاجتماعي والتنمية المستدامة للبلاد. إن تجاوز هذا الوضع ليس رفاهية، بل هو ضرورة ملحة لاستعادة ثقة المغاربة في مستقبلهم المشترك وإعادة بناء سياسة قائمة على خدمة الصالح العام والنزاهة والمسؤولية. الطريق طويل وشاق، لكنه الطريق الوحيد لإنقاذ المغرب بكل مؤسساته من البراكين والزلازل والأعاصير التي تهدده.