على هامش غياب الكاتب حسونة المصباحي: موت المؤلف والكتابة في الدرجة الصفر

عبد الرحيم التوراني
قبل موته بسنوات كتب إدريس الخوري مرثيته الذاتية، ونشرها في يومية “الاتحاد الاشتراكي”، في ركن باسم سجالي: “عندي عندك”. وجاءت المرثية الذاتية بعنوان: “نهاية الكاتب المفترض”.
نص مليء باليأس والعزلة والخسران، مع إحساس قوي بدنو الموت. ختمه بجملة قاطعة كحبل انتحار: “أيها التعيس، لقد حانت نهايتك”.
وهو نص مؤرخ بيوم الاثنين 24 نوفمبر 2014، تم تداوله على نطاق واسع من طرف رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
وبعد عام، تحديدا في يوم الاثنين 9 نوفمبر 2015، نظمت جمعية ملتقى الثقافات والفنون في مدينة المحمدية، برئاسة الأديبة فتيحة واضح، لقاء تكريميا لإدريس الخوري، وكنت واحدا من المشاركين في فقراته.
أتذكر أنه في غمرة تفاعله مع الجمهور الحاضر، تكلم بَّادريس عن الموت، إذ صرح قائلا: “أنا لا أهاب الموت”، وأشار إلى أنه نجا من الموت مرات. وكأن استمراره في الحياة فضلا من “المجان”…
محمد زفزاف هو الآخر استقبل الموت بشجاعة لم تكن متوقعة منه، فقبل نقله للعلاج بفرنسا على حساب القصر الملكي، كان يتحدى نفسه والآخرين، بخروجه إلى الشارع بفكٍّ شوهه ونهشه داء السرطان حد إفزاع الرائي.
زفزاف الذي كان يتهيب من حضور الجنائز، وعندما حضر مكرها لدار صديقه الشاعر أحمد الجوماري، المتوفي عام 1995، لتقديم واجب العزاء لزوجة الراحل (السيدة عائشة وكريم)، لم يمكث زفزاف سوى دقائق معدودة، ثم انسحب بخطى مسرعة كالهارب، عائدا إلى شقته التي كانت على بعد خطوات من سكن صديقه الجوماري.
الكاتب باللغة الفرنسية محمد خير الدين، وقد أصيب هو الآخر بسرطان الفك أيضا، واجه الموت بشجاعة نادرة. بقي “الطائر الأزرق” كما يلقبونه، ذاك الإنسان المتوتر العنيد، الذي لا يهدأ ولا يتوقف عن الاهتياج وإثارة السخط والغضب من حواليه.
محمد شكري، كان يحاول دفن خوفه من الموت، وقد أنهك المرض جسده النحيل، وعلامات التوتر والإجهاد لم ينفع معها إظهار تفاؤله، ولا تصريحاته المتكررة لمن كانوا يعودونه في أيامه الأخيرة في المستشفى العسكري بالرباط.
كان شكري يردد بأنه سيهزم الموت وأنه سينتصر عليه، ولن ينال منه شيئا. ويقول لنا: انتظروني.. أنا عائد أقوى مما تتصورون..
ونسي “الشحرور”، أو تناسى، أن من أسماء الموت في لغة الضاد الت يعشقها: “هادم اللذات”، وهازم البشر والكائنات.
أما حسونة المصباحي، الذي غادرنا قبل يومين، فقد استعد للموت كمن ينتظر ضيفا قادما من بعيد، ضيف متطفل سيقتحم البيت من دون أن يقرع الباب أو يستأذن الدخول.
هكذا دخل حسونة المصباحي في سباق محموم مع موته، فأظهر قدرة كبيرة على الصبر والاحتمال، من خلال انغماره اليومي في الكتابة، بوتيرة كانت تتعب جسده الذي ضعف وصار نحيلا أكثر… حتى بلغ نهاية السباق أولا، وهو يحتضر ببطء منذ شهور، يقتات الداء من جسده ويرتوي من وقته، وعندما خط السطر الأخير من آخر أعماله الأدبية، ارتسمت على شفتيه الشاحبتين ابتسامة خفيفة ساخرة، كأنها إعلان فوز وإعلاء راية انتصار، وقد حقق ما أراده بإنهاء روايته الأخيرة. وكأنني بحسونة كان يغري الموت ويعمل على تشويقه كي ينتظر لمعرفة نهاية الرواية. لذلك حضر الموت بإصرار في التفاصيل، وحام طويلا فوق رأس كاتبها، وجال بين ثناياها، وانغرس بين بياض سطورها، بل إن الموت انتصب صارخا في عنوانها الصريح: “يوم موت سالمة”.
أخيرا.. ها قد هزم الكاتب المرض قبل أن يأخذه وينزع منه الأنفاس ويكتب اللحظات الأخيرة، في معركة طاحنة خاضها الكاتب بأسلحة مخيلته الإبداعية، ضد جسده وقواه. ولم يكن من السهل أن تقهر رغبته في الحياة.. أو تندحر إرادته في البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.
***
حسب الناقد الفرنسي الشهير رولان بارث فإن على المؤلف أن يموت بمجرد إنهاء كتابته، ليتركها تولد من جديد في كنف القارئ..
الموت “البارثي” يبقى مجرد موت مجازي افتراضي، لن يمانع المؤلف فيه إذا ما حصل..
لكن ما القول عندما يموت المؤلف حقيقة ويرحل عن دنيا القارئ؟
كيف يمكن الآن قراءة زفزاف والخوري وشكري وحسونة، وغيرهم من الكتاب المبدعين؟
هل من خلال إعادة إفنائهم عند كل قراءة جديدة لنصوصهم؟
ستكون ولا شك، “الجريمة الكاملة” التي بلا عقاب، الجريمة التي ستبقى على الدوام لغزًا غامضًا بلا حل، فلا الضحية يُقضى عليها، ولا القارئ- الآثم يلقى عليه القبض، متلبسا بالمباهاة بارتكابه جريمة الاستمتاع بـ “لذة النص”.
قبل أزيد من سبعة عقود نشر رولان بارت مؤلفه الشهير: “درجة الصفر في الكتابة”،
وقد ترجمها مترجم سوري بـ “الكتابة في الدرجة الصفر”.. الحياة في الدرجة الصفر ممكنة في القطب المتجمد إذا ما توفرت أجهزة التدفئة، لكن الكتابة في الدرجة الصفر من الفقر وانعدام أسباب الحياة، فلا تعني سوى موت المؤلف قبل ميلاده.
حسونة المصباحي ورفاقه المبدعين المغاربة الذين أحبهم وأحب مغربهم، شكري وزفزاف والخوري، كلهم كتبوا في الدرجة الصفر، وقهروا الفقر والتشرد واليأس. ولما غابوا لم يمت منهم سوى الجسد لتبقى أسطورتهم خالدة…
أليست القصص والكتب كائنات حية كما أخبرنا رولان بارث؟